كما في حالاتٍ مشابهة في الماضي، ليس واضحًا بعد في هذه المرحلة ما هي ملابسات مقتل رائد علاء الدين زعيتر (38 عامًا)، أردنيّ – فلسطينيّ، بسلاح جندي إسرائيلي في الجانب الإسرائيلي من جسر الملك حُسَين. في البداية، أعلنت السلطات في إسرائيل أنّ زعيتر حاول اختطاف السلاح من الجندي، ثم قيل إنه حاول اختطاف مرآة التفتيش ليهاجم بها الجنود. صباح اليوم، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه تبيّن من التحقيق الأوّلي أنّ زعيتر ركض باتجاه الجندي صارخًا “الله أكبر”، ومحاوِلًا خطف سلاحه. خشي الجنود على حياتهم وأطلقوا النار على رِجله، لكنّ زعيتر، حسب ادّعائهم، واصل محاولة مهاجمتهم عبر قضيبٍ حديديّ. حينذاك، أطلقوا النار عليه لقَتله. مع ذلك، تشير التقارير في الجانبَين الأردنيّ والفلسطيني، إلى تبادُل أقوال وتدافُع، أدّت في النهاية إلى القتل بدمٍ بارد.
عُيّن زعيتر، الدكتور في الحقوق وخرّيج المعهد القضائي الأردنيّ، قاضيًا في محكمة صُلح عمّان قبل خمس سنواتٍ تمامًا. وقال والده، قاضي محكمة الاستئناف الأردنيّة المتقاعد، إنّ نجله، وهو وحيد والدَيه، خرج في السادسة صباح أمس من منزله في منطقة أبو نصير شمال عمّان إلى عمله في المحكمة. أصيبت العائلة بذهول تامّ لدى سماع نبأ موته، إذ إنّ والد الراحل وأصدقاءه لم يعلموا بنيّته زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وهم لا يعرفون حتّى الآن ماذا كان سبب الزيارة. كان زعيتر أبًا لطفلَين، ابنة عمرها عام ونصف وابن عمره خمس سنوات، مكث في مستشفى في عمّان خلال اليومَين الماضيَين فاقدَ الوعي. زاره والدُه صباح أمس، قبل نحو ساعة من مغادرته عمّان في رحلةٍ لم يعُد منها. وغادرت العائلة الأردنّ اليوم لدفن ابنها في نابلس، حيث ستُقام خيمة عزاء لمدّة ثلاثة أيّام. بعد ذلك، ستعود العائلة إلى خيمة العزاء التي ستُقام في عمّان لمدّة ثلاثة أيّام أُخرى.
مظاهرات في عمان بالقرب من السفارة الإسرائيلية احتجاجا على مقتل قاض أردني برصاص إسرائيلي عند معبر اللنبي (AFP)
تركّزت ردود الأردن، السلطة الوطنيّة الفلسطينية، وعائلة الضحيّة على أنّ زعيتر كان رجلًا رصينًا، مثقّفًا جدًّا، ذا وظيفة مرموقة ورفيعة، عائليًّا، وبالدرجة الأولى – أعزل دون سلاح. إطلاق الرصاص الحيّ عليه عن بُعد صفر، كما ادُّعي، غير مبرّر إطلاقًا، حتّى في الظروف التي وصفتها السلطات في إسرائيل. وأعلنت أسرة زعيتر أنّ رواية السلطات الإسرائيلية للحادثة هي إهانة للمنطق السليم، وأنها ستعمل قضائيًّا لتحديد المسؤولين ومحاكمتهم. أمّا السلطة الوطنيّة الفلسطينية فقد احتجّت على تعدّد حالات إطلاق قوّات إسرائيليّة النار حتّى الموت على مواطنين عزّل، معلنةً أنها تطلب تحقيقًا دوليًّا في الحادثة.
استدعت الحكومة الأردنية مفوَّض السفارة الإسرائيلية في عمّان، استنكرت الحادث، وطلبت تحقيقًا مستقلًّا وشاملًا فيه، وأعلن الناطق باسمها لاحقًا أنها تُطالب بـ “خطوات مشدَّدة ضدّ من يثبت تورّطه في القتل”. لكنّ الرياح في الأردن هبّت بسرعة فائقة منذ الساعات الأولى التي تلت الحادثة. فقد نشرت كتل وأعضاء في مجلس النواب، أردنيّون وأردنيون – فلسطينيون على السواء، بيانات استنكار رسميّة، قسم منها شديد اللهجة، وجرى تنظيم تظاهرة غاضبة أمس أمام السفارة الإسرائيلية في عمّان حتّى تفرّقت في ساعات الليل المتأخّرة.
تحاول الحكومة الأردنية، التي تخشى من استمرار الهيجان، احتواء الحادث، وتتلقى نقدًا حادًّا لهذا السبب. فرغم تغطية الحادثة بتوسُّع في الصحافة اليومية، يكاد لم يُنشَر أيّ مقال تحليليّ حولها، فيما التلفزيون الحكوميّ يلتزم الصمت، يواصل إظهار انفصاله عن الواقع، وما يبثّه مُخجِل. ويتركّز النقد الجماهيري على كون الحكومة تعطي الانطباع أنّ القتيل “فلسطيني” – كما جاء في تقرير وكالة الأنباء الأردنيّة الرسمية، وبالتالي، لا مبرّر لاهتمام حقيقيّ للأردن بتحقيق أساسيّ في الحادثة. لماذا، تساءل محلّل هامّ، لا تطلب الحكومة لجنة تحقيق إسرائيلية – أردنيّة مشتركة وإمكانية للوصول إلى ساحة الجريمة، نتائج التحقيق، والشهادات؟
رئيس الوزراء نتنياهو يجتمع مع العاهل الأردني الملك عبد الله (Flash90/Avi Ohayon)
تواجه هذه الحادثة العلاقات الإسرائيلية – الأردنية في نقطة حسّاسة. فمنذ نحو ثلاث سنوات، تتوثّق العلاقات باطّراد، على جميع المستويات وأحيانًا بدرجة غير مسبوقة، لا سيّما بسبب الشعور بالخطَر ممّا يجري سوريّة. في الأشهر الأخيرة، تبدو براعم تعاوُن استثنائيّ في مجالَي المياه والطاقة (تزويد الغاز الطبيعي). وكانت ردود الفعل الشعبية، بما فيها الإسلاميّة، على التعاوُن المدنيّ في إطار الحدّ الأدنى نسبيًّا. مع ذلك، إثر التخبُّط في المفاوضات حول اتّفاق كيري الإطاريّ والتسريبات منها، ثمة مخاوف ثقيلة في الأردن، سواء لدى الأردنيين أو الأردنيين – الفلسطينيين، من جميع شرائح السكّان، بأنّهم سيدفعون ثمن الفشل أو الخضوع الفلسطيني المرتقَب، وسيصبح الأردن، فعليًّا، الدولة الفلسطينية.
لهذا السبب، تحوّلت الساحة الشعبية إلى أكثر قابليّة للاشتعال من أقوال إسرائيل وأفعالها. في السنتَين الماضيتَين، تجري نزاعات هائجة بين مجلس النوّاب – الذي يوصف منذ عقود بأنه “قبليّ”، “محافِظ”، و”وليّ للملك” – وبين الحكومة حول مبادرات وقوانين مختلفة، اقتصادية – اجتماعيّة في الغالب. نجح البرلمان مرة بعد أخرى في توبيخ الحكومة، كفّ يدها، أو على الأقل الحصول منها على موارد مقابل تعاوُن النوّاب. في الشهور الأخيرة، توسّع ميدان الصراع بين مجلس النوّاب والحكومة ليشمل الجانب السياسي، وفي نهاية جولة مناقشات مستمرّة وعاصفة، اتّخذ المجلِس قرارَين غير مسبوقَين – طرد السفير الإسرائيلي من عمّان، وإخراج الصراع المسلّح ضدّ إسرائيل من تعريف كلمة “إرهاب”. يعطّل المصادقة على القرارَين ممثّلا الملك، الحكومة ومجلس الأعيان، لكنّ ذلك لا يخفي تنوّع التحديات الداخلية التي تواجهها الأسرة المالكة.
نجح النظام الهاشميّ في الحدّ من التدهور الفعليّ في مكانته في السنوات الماضية، برعاية ومساندة النخبة وقوى محافظة، إذ اجتاز الأمر الخطوط الحمراء في السنة الأولى من “الربيع العربيّ”. مع ذلك، لا تزال النيران تنتشر لدى السكّان البدو الأردنيين بشكل خفيّ، في كلّ ما يتعلقّ بالملك عبد الله نفسه، صلاحيات الأسرة المالكة، وإجراءات اتخاذ القرارات. والخطر هو أن تؤدي الإدارة غير السليمة للأزمات من هذا النوع إلى الهيَجان من جديد. والتلميح الخطير إلى ذلك موجود في رسالة شديدة اللهجة وجّهها عضو مجلس النواب الأردنيّ وصفي الرواشدة يوم أمس عبر الفيس بوك، وانتشرت انتشار النار في الهشيم: “رسالة إلى الملك عبد الله الثاني .. لمرة واحدة افعلها. أشعرنا بأننا شعبُك، وبأنّ لنا كرامة. اليوم … قُتل بدمٍ بارد مواطن.. قاضٍ .. أب لأطفال .. وحيد لوالدَيه. إنه الشهيد رائد زعيتر، رحمه الله. أشعِرنا … ولو مرّة .. أنّ كرامتنا تهمك .. ودمنا يهمك. افعل شيئًا نحسبه لك .. شيئًا واحدًا. نترك لك الخيار… وأرجو أن لا يكون القرار حبسَ من تظاهر بالقرب من السفارة الصهيونية في عمّان”.
ورغم أنّ كرة الثلج الناتجة عن مقتل زعيتر هي في مراحل تبلوُرها الأولى، ويُرجَّح أن يتفاقم الاحتجاج الشعبي والضغط على الأسرة المالكة، فمن الصعب في هذه المرحلة رؤية ائتلاف سياسيّ يمكن أن يُجبر الملك على اتّخاذ خطوات جذريّة ضدّ إسرائيل. تعكس الخطوات الأولى للنظام إثر الحادثة ارتيابًا وتُوسّع الهوة الأردنيّة – الفلسطينية في المجتمَع الأردنيّ، لكنّ الماضي أظهر أنه لا يُتوقَّع احتجاج أردنيّ فاعل على وفاة أردنيّ من أصل فلسطيني. خلافًا للحديث الإعلامي عن وحدة الدم والكرامة في الضفّتَين – إذ يُدعى معبر أللنبي “معبر الكرامة” في السلطة الفلسطينية، وستُحيى ذكرى معركة الكرامة بين القوات الأردنية والفلسطينية من جهة والجيش الإسرائيلي من جهة أخرى بعد عشرة أيّام – فإنّ نبض الشارع الحقيقي في الأردن يعكس منذ اليوم التالي للحادثة نزاعًا داخليًّا أردنيًّا – فلسطينيًّا قذرًا على الدم، الألم، الكرامة، والصراع المسلَّح. صحيح أنّ العداء لإسرائيل هو القاسم المشترك لجميع المشترِكين في المنافسة، لكنّ العداء المتبادل بينهما أحبط، حتّى الآن على الأقل، التوحّد في نضالٍ فاعل، سواء ضدّ معاهدة السلام الإسرائيلية – الأردنية، أو ضدّ الأسرة المالكة التي وقّعت عليها. لا يمكن لإسرائيل أن تتدخل في ذلك طبعًا، لكنها إن أرادت تخفيف أمر إدارة الأزمة على الأسرة المالكة، يجدُر بها أن تدرس المشاركة الرسمية والعلنيّة للأردن في التحقيق في الحادث.
وأعرب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن أسفه للأردن في أعقاب موت القاضي الأردني رائد زعتير برصاص الجيش الإسرائيلي في معبر اللنبي. وعمّم ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية بيانا جاء فيه أن “إسرائيل تقدم التعازي للشعب الأردني وللحكومة الأردنية”، وأضاف أن “طاقما إسرائيليا – أردنيا مشتركا” سيحقق في ملابسات الحادث الذي أدى إلى توتر بين البلدين.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني