جادة روتشيلد، مدينة تل أبيب (Flash90/Miriam Alster)
جادة روتشيلد، مدينة تل أبيب (Flash90/Miriam Alster)

في قلب تل أبيب: جادة روتشيلد

من يريد التعرّف إلى مدينة تل أبيب يافا وفهم المدينة التي تقع على شواطئ البحر المتوسّط، فعليه بالتأكيد أن يتعرف إلى عمودها الفقري، جادة روتشيلد بتنوّعها التاريخي في الماضي والحاضر

تُعرَف جادة روتشيلد كواحدة من الجادات المركزية في مدينة تل أبيب يافا. مَن لم يكُن هُناك؟ ومن لم يمُرّ في المكان؟ الكثير من اللحظات التاريخية في الماضي والكثير من الأحداث السياسية في الحاضر. حوانيت فاخرة، أبراج، متاحف، مقاهٍ ومطاعم، منتشرة في الغالب على طول الجادة الأسطورية.

باوهاوس (Flash90 Yossi zAMIR)
باوهاوس (Flash90 Yossi zAMIR)

تلعب جادة روتشيلد، المدعوّة على اسم البارون إدموند جيمس دي روتشيلد، دورًا رئيسيًّا في التطور الحضاريّ للمدينة، وتقع فيها مواقع هامّة عديدة. الجادة هي القلب الحضاري لتل أبيب، جزء من القلب الاقتصادي لإسرائيل، إذ تشكّل جزءًا من الشوارع الرئيسية في أكبر وأهمّ مركز أعمال في الدولة. وبصفتها هذه، وبصفتها مركز الحيّ الذي سكنه في الماضي عديدون من قادة المدينة وإسرائيل عامّةً، فقد جرت فيها أحداث تاريخية شتّى، بينها الإعلان عن الدولة.

القليل من التاريخ

كانت جادة روتشيلد بين الشوارع الأربعة الأولى في تل أبيب. تم شقّ الطرق على كُثبان رمليّة تمّت تسويتها وجعلُها مستقيمة، وبُنيت على طولها البيوت الأولى في المدينة. كان الخطّ المستقيم الذي أصبح جادة واديًا صغيرًا تصعب تسويته بوسائل ذلك الزمان، تدفقّت إليه مياه كثيرة في الشتاء.‎ ‎لذلك، تقرر ملؤه بالرمال، وإبقاؤه منطقة مفتوحة لا تُبنى البيوت إلّا على أطرافها.

عام 1910، بدأ غرس الأشجار في هذه المنطقة المفتوحة، بهدف تحويل الشارع إلى الجادة الأولى في المدينة. رأى رجال تل أبيب الأوائل في الجادة بداية جادة فاخرة مثل بوليفارات باريس، وهكذا صوّروها للبارون الفرنسي روتشيلد، الذي دُعيت على اسمه الجادة.

والحدث المركزي الذي جرى قرب جادة روتشيلد كان مراسيم الإعلان عن استقلال إسرائيل في 14 أيار 1948 في بيت رئيس البلدية مئير ديزنغوف، الذي سكن في نفس الجادة.

هندسة معماريّة مدنيّة ومواقع تاريخيّة

جادة روتشيلد هي أحد الأماكن المدهشة في تل أبيب، وهي تجذب إليها الكثير من السيّاح، لعدّة أسباب بينها مشاهدة الهندسة المعمارية الفريدة في الشارع. على طول الجادة، ثمة نمطا بناء أساسيّان:‎ ‎

النمط الانتقائي الذي يميّز البيوت الأقدم في بداية الجادة، التي دُعيت أيضًا “بيوت الأحلام”. كان النمط الانتقائي منتشرًا في إسرائيل/ فلسطين في العشرينات، ولبّه هو دمج الهندسة المعمارية الغربية مع أنماط زخرفية من عدد كبير من مصادر الإلهام: اليونان – روما- عصر النهضة، هندسة معماريّة من الشرق الأقصى، وهندسة معماريّة شرق أوسطية قديمة.

باوهاوس (David Katz)
باوهاوس (David Katz)

يُميّز النمط الدولي، المعروف أيضًا “باوهاوس”، معظم البيوت في القسم الشمالي من المدينة. تأثر النمط الدولي في الهندسة المعمارية كثيرًا بمدرسة الحداثة في ألمانيا، وأساسه إلغاء الزخرفة في المباني وتحويلها إلى عمليّة جدًّا، بمعنى أنّ الحاجات الوظيفية للمبنى هي التي تحدّد شكله، لا العكس.

يدعو كثيرون الجادة “متحفًا مفتوحًا” لكونها مسارًا يمكن المشي عبره ونيل انطباع عن “المعروضات المعماريّة” المتنوّعة.

عدا الهندسة المعمارية المذهلة والمباني ذات الأهمية المعمارية البالغة، تحوي الجادة مجموعةً كبيرةً ومُنوَّعة من المواقع والمؤسسات التاريخية:

دارة الاستقلال: دارة مئير ديزنغوف، رئيس البلدية الأول لمدينة تل أبيب يافا، التي أُعلن فيها استقلال إسرائيل عام 1948.

كشك: في سنوات الأربعينات الباكرة، بدأ يعمل في المدينة عدد من الحوانيت الصغيرة لبيع السجائر، الصحف، المشروبات الخفيفة، الوجبات الخفيفة، والساندويشات. بُني الكشك الأول في تل أبيب في نفس الجادة. خلال سنوات، استُخدم بعد الظهر كملتقى لمسنّي المدينة وأطفالها، وكلّ مساء خرج منه أزواج عشّاق للتجوّل في أنحاء المدينة.

الكشك الأول في تل أبيب (David Katz)
الكشك الأول في تل أبيب (David Katz)

أُقيم الكُشك الأول في تل أبيب عام 1910. خلافًا للمقاهي الطنانة في يومنا، لم يطلب سكّان تل أبيب حينذاك أنواعًا شتّى من القهوة، ولم يبدُ المكان شبيهًا بفرع مقهى فاخر. كان هذا مبنًى صغيرًا على شكل مسدّس، قدّم في ذلك الحين خيرة الإنتاج المحلي: مشروبًا غازيًّا حامضًا – حلوًا، عصائر، ومُثلّجات حلوة. عام 1989، هُدم المكان، ولم يبقَ منه أيّ أثر. مؤخرا استُكملت إعادة بنائه، وافتُتح من جديد للجمهور.

متحف “ههغناه”: يقع المتحف في جادة روتشيلد 23، وقد استُخدم المبنى مقرًّا للتنظيم في سنوات نشاطه قبل قيام دولة إسرائيل. يُستعمَل المبنى اليوم كمتحف وأرشيف تاريخي لتنظيم “ههغناه”.

ناطحات سحاب (David Katz)
ناطحات سحاب (David Katz)

ناطحات سحاب: إلى جانب البيوت التاريخية ذات الطوابق القليلة في الجادة، أقيمت في السنوات الأخيرة ناطحات سحاب أيضًا تقع فيها مصالح تجارية كبرى، مصارف، مكاتب محامين، سفارات، وعدد لا يُحصى من المكاتب الحكومية.

مطاعم وأماكن استجمام: على طول الجادة، يمكن العثور على عدد لا يُحصى من المطاعم التي تقدّم تنوّعًا واسعًا من الطعام الدولي، الحانات، النوادي، وطبعًا حوانيت الموضة الفاخرة. بين مباني الحي، يمكن إيجاد عدد غير قليل من بيوت المشاهير، المؤثرين في الرأي العام، الفنانين، المثقفين، والمفكّرين الإسرائيليين.

الجادة كمنبر سياسيّ

استضافت الجادة أيضًا أحداثًا سياسيّة. والحدث الأبرز كان عام 2011 مع اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية في إسرائيل. شكّلت جادة روتشيلد، التي مثّلت لسنوات الثراء الاجتماعي البارد والمنفصل لأثرياء إسرائيل، أرضًا خصبة للاحتجاجات الاجتماعية صيف 2011.

الإحتجاجات الشعبية في إسرائيل 2011 (Flash90/Liron Almog)
الإحتجاجات الشعبية في إسرائيل 2011 (Flash90/Liron Almog)

حدثَ الحدث المفاجئ والهام جدًّا حين قررت دفني ليف، من قوّاد الاحتجاجات الاجتماعيّة، العمل ضدّ غلاء المعيشة وضائقة السكن في إسرائيل. فبعد أن لاقت صعوبة في دفع أجرة شقة، قررت نصب خيمة في الجادة تحديدًا كإشارة على الانتفاض والتعبير عن الاشمئزاز من عجز الأزواج الشبان عن استئجار شقة، ناهيك عن شرائها. وامتدّ الأمر كالنار في الهشيم، إذ بدأ بالوصول إلى الجادة العديد من الشبّان، وامتلأ الشارع بمئات الخيام والشبان الذين احتجُّوا على عجز الحكومة الإسرائيلية عن حلّ الأزمة. وكانت ذروة الاحتجاج المسيرات على طول الشوارع الرئيسية في تل أبيب، إذ بلغ عدد المشاركين في المسيرات أكثر من 400 ألف (5% من عدد سكّان إسرائيل).

معارض فنية على طول الجادة (Flash90\ Roni Schutzer)
معارض فنية على طول الجادة (Flash90\ Roni Schutzer)

تستمرّ الجادة هذه الأيام في جذب الصادر والوارد إليها: السيّاح، المحليين، الشبان المعتادين على الاستجمام فيها، المحتجين على أنواعهم، الشبان، الشابات، الأولاد، وحتى كبار السن. هي باختصار جادة دون توقُّف…

اقرأوا المزيد: 810 كلمة
عرض أقل
مسيرات احتجاجية ضد وزير المالية يئير لبيد (Flash90/Miriam Alster)
مسيرات احتجاجية ضد وزير المالية يئير لبيد (Flash90/Miriam Alster)

ماذا تغيّر في المجتمع الإسرائيلي؟

حيثما تجولتَ في إسرائيل، وأيا كان من تحدثتَ إليه، إسرائيليا يهوديا، عربيا، فيُرَجّح أن تسمع عن موازنة الدولة، غلاء المعيشة وسحق الطبقة الوسطى

من الصعب عدم ملاحظة التغييرات العديدة التي تحدث منذ أكثر من ثلاثة أعوام في دول الجوار المتوسطية. “ربيع الشعوب العربي” يقلب رأسا على عقب الإناء الذي عرفت وحللت محتوياته الدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. أُسقطت أنظمة، وجرت الإطاحة برؤساء مقتدرين، حيث ازدهرت بدلا منهم قوى سياسية جديدة. يعاني الشرق الأوسط اليوم من خضات عنيفة مع استمرار الحرب الأهلية في سوريا، عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي في مصر، الخطر الكامن على استقرار الأردن بسبب ضائقة اللاجئين السوريين الذين يتدفقون إلى حدود المملكة، والخوف من إمكانية انتقال القتال في سوريا إلى لبنان بحيث يجري استيراد أعمال الثأر والقتال الأهلي إلى الدولة التي كانت مقسمة لسنوات طويلة.

إسرائيل أيضا مرت بتغييرات اجتماعية بعيدة المدى. من الصعب على المحللين والمهنيين الذين يدرسون إسرائيل، اقتصادها، مجتمعها، وسياستها، أن يرسموا خطوطا واضحة للتغيير الجوهري الذي لا يزال يحدث فيها. ومع ذلك، تُقام في إسرائيل، في الآونة الأخيرة، مؤتمرات لا تُحصى بهدف فهم الظاهرة، ورسم التغييرات التي تمر بها الدولة بالخطوط العريضة. تجلت هذه التغييرات خاصة بُعيد الانتخابات الأخيرة (كانون الثاني 2013)، مع صعود قوى سياسية جديدة وتعزيز قوتها.

حيثما تجولتَ في إسرائيل، وأيا كان من تحدثتَ إليه، إسرائيليا غنيا أم فقيرا، يهوديا، عربيا، شابا أو كهلا، فيُرَجّح أن تسمع عن موازنة الدولة، غلاء المعيشة وسحق الطبقة الوسطى، مشكلة التجنيد وتحمل العبء، الفجوات الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء، والخوف من تفكك النسيج الاجتماعي الرقيق في المجتمع الإسرائيلي المتنوّع.

يشعر الكثير من الإسرائيليين أنّ سلّم الأولويات في الدولة يتغيّر، وأنه يجب التغيّر. إذا كان سائدا قبل سنوات قليلة التفكير أنّ إسرائيل قلقة من وضعها الأمني، وأنّ التحديات العسكرية الاستراتيجية هي التي تحدد المزاج السياسي والاجتماعي، فإن ذلك أضحى من الماضي. ثمة عمليتان مثيرتان للاهتمام حدثتا في السنوات الأخيرة بإمكانهما تحديد الطريق الجديدة التي يتوجه إليها الجمهور الإسرائيلي على مختلف أطيافه السياسية، العرقية، والاجتماعية.
كانت الاحتجاجات الاجتماعية في إسرائيل عام 2011 المؤشر الأول. فقد انطلقت الاحتجاجات الاجتماعية الأكبر في تاريخ الدولة في صيف 2011. وما بدأ كاحتجاج دفني ليف (من زعيمات الاحتجاج البارزات) في وجه وضع سوق الإسكان في إسرائيل، بعد أن أصبح صعبا استئجار شقة في تل أبيب، توسع ليشمل مواضيع عدة في المجال الاجتماعي – الاقتصادي. بدأت الاحتجاجات في مجموعة احتجاج على شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك، ما أدى إلى إقامة خيام في جادة روتشيلد في تل أبيب. أُقيمت لاحقا خيام في مدن أخرى، وتوسعت حتى أصبحت أشبه بـ “مدن خيام” ضمت مئات الخيام في آن واحد.

دفني ليف من قادة احتجاجات الإسكان
دفني ليف من قادة احتجاجات الإسكان

إثر الاحتجاجات والمظاهرات الضخمة، أعلنت حكومة إسرائيل عن عدد من الخطوات التي ستتخذها لحل ضائقة السكن، كان بعضها في مراحل التخطيط والمصادقة، فيما كان البعض الآخر خطوات جديدة قُدّمت كاستجابة لطلبات المحتجّين. فضلا عن ذلك، أقيمت “لجنة طرخطنبرج”، برئاسة البروفيسور عمانوئيل طرخطنبرج، بهدف فحص واقتراح حلول للطلبات الاقتصادية والاجتماعية للمتظاهرين، ولا سيّما تلك المتعلقة بضائقة غلاء المعيشة في دولة إسرائيل، والفجوات الاجتماعية. تبنت الحكومة لاحقا توصيات اللجنة بشكل جزئي.

أما المؤشر الواضح الثاني فكان عجز رئيس الحكومة نتنياهو عن تمرير الموازنة لسنتين، كما هو شائع في إسرائيل، وقراره لإجراء انتخابات مبكرة قبل انتهاء ولاية حكومته ذات السنوات الأربع. أدت الانتخابات التي جرت في كانون الثاني 2013 إلى نشوء قوى سياسية جديدة رفعت راية الصراع لتقليص الفجوات، تقسيم أكثر عادلا للموازنة، تغيير سلم الأولويات، والاستثمار في التربية. وللمرة الأولى في إسرائيل منذ إقامتها، يُطرح جانبا موضوع المفاوضات السياسية مع الفلسطينيين، وتُرفع بدلا منه الرايات الاجتماعية والاقتصادية. حتى حزب العمل، وعلى رأسه شيلي يحيموفيتش، اللذان كانا لسنوات من رواد الصراع السياسي، تجاهلا بشكل كلي تقريبا رفع الراية السياسية على رأس سلم الأولويات في حملتهما السياسية. وقد مثّل صعود يئير لبيد، وحزبه “هناك مستقبل” إلى مقدمة الحلبة السياسية (حيث فازا بـ 19 مقعدا، وتحطم حزب “الليكود بيتنا” برئاسة نتنياهو وليبرمان) أكثر من أي شيء آخر، التغييرات التي يمر بها المجتمع الإسرائيلي.

اليوم أيضا، بعد تأليف الحكومة الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو وانضمام يئير لبيد لكتلة اليمين كممثل للطبقة الوسطى، ما زالت التغييرات وحسابات السياسيين تؤخذ بعين الاعتبار لدى وضع حلول حقيقية في قضايا التقليص الهائل في ميزانية الدولة، تجنيد الحاريديم والمساواة في العبء، وحتى مستقبل العلاقات مع الفلسطينيين.

مساواة في العبء وتجنيد للجميع؟

تصدر موضوع المساواة في العبء العناوين في إسرائيل في شباط 2012 مع انتهاء مفعول “قانون طال”. مكّن “قانون طال” خلال سنوات طويلة استمرار تأجيل الخدمة في الجيش لشبان الحلقات الدينية واليهود الحاريديم الذين انشغلوا في دراسة التوراة. في 18 تموز 2007، قررت الكنيست تمديده لخمس سنوات إضافية. وفي 21 شباط 2012، قضت المحكمة العليا بأنّ القانون غير دستوري، وأنّ على الحكومة تأمين البديل الذي يمكّن من تحمّل عبء التجنيد.

في الأسابيع الأخيرة، تأجج النقاش الجماهيري والسياسي في إسرائيل حول القضية لأنّ الحاريديم، الذين ليسوا أعضاء في الائتلاف الحكومي، يستمرون في رفض كل صيغة تسوية، ويرفضون تجنيد أبنائهم في الجيش.

حاريديم يتظاهرون ضد قانون التجنيد (Flash90Uri Lenz)
حاريديم يتظاهرون ضد قانون التجنيد (Flash90Uri Lenz)

يحاول قادة الصراع من الجانب الآخر، أعضاء الكنيست من اليسار والوسط، وعلى رأسهم حزب يئير لبيد، “هناك مستقبل”، إقرار قانون جديد يمكّن تجنيد الحاريديم لخدمة الدولة.

تحدثت عضو الكنيست روت كالدرون، من حزب “هناك مستقبل” (الحزب الشريك في الائتلاف مع حزب “البيت اليهودي” وحزب “الليكود بيتنا” برئاسة نتنياهو) في مؤتمر حول التغييرات الاجتماعية في إسرائيل، قائلة: “لم يكن دخولنا الحكومة برئاسة نتنياهو شهر عسل. موضوع تجنيد الحاريديم موضوع حساس، ويجدر العمل بحذر وتصميم لإتمامه. أومن أنه يجب تجنيد الحاريديم والعرب لخدمة الدولة لتخفيف العبء الذي يتحمله باقي أجزاء المجتمع، لكن يجب فعل ذلك بطريقة متزنة، وعلى مدى فترة من الوقت”.

أوضح عضو الكنيست السابق يوحنان بلسنر (من حزب كديما)، والذي دُعيت باسمه اللجنة الأولى التي حاولت فحص حل ممكن للتجنيد: “المشكلة الأساسية، حسب رأيي، في اقتراح القانون الذي يجري بحثه اليوم لتجنيد الحاريديم، مشكلة سياسية. يعترض موشيه بوغي يعلون، وزير الأمن، على الاقتراحات التي تُطرح عليه لحسابات سياسية غير بسيطة. اقتراحنا هو تجنيد حتى 80% من الحاريديم كل سنة ابتداءً من 2016، وفرض غرامات باهظة على المتهربين. ثمة نقاش محتدم اليوم حول العقوبات المفروضة في القانون على مَن لا يتجند، ولا أظن أنّ عقوبة السجن هي وسيلة ردع صحيحة. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أننا لا نتحدث عن تشريع فحسب، بل عن حاجة الحكومة لفرض القانون، لردع ومعاقبة من ينتهكونه”.

على النقيض من رأي النائبَين كالدرون وبلسنر، يدّعي غاي رولنيك، مؤسس الجريدة الاقتصادية الهامة “The Marker”، ومحررها الرئيسي، أنّ قضية المساواة في العبء وتجنيد الحاريديم أوسع بكثير، وتشمل ميزات اقتصادية عدة: “بما أنّ نسبة مشاركة المجتمع الحاريدي في سوق العمل في إسرائيل منخفضة جدا، من المعتاد مهاجمتهم والافتراض أنّ المشاكل الاقتصادية في إسرائيل نابعة، بين أمور أخرى، من عدم مساهمتهم في الاقتصاد الإسرائيلي. في تقرير نشره مؤخرا بنك إسرائيل، جرى فحص مسألة المشاركة في القوى العاملة، ومساهمتها في الاقتصاد الإسرائيلي. من المعلوم أنه كلما ازدادت المشاركة في القوى العاملة، قوي الاقتصاد أكثر. تبين من المعطيات أنّه رغم نسبة المشاركة المنخفضة للحاريديم في سوق العمل، فإن إسرائيل لا تزال تُصنَّف في مكان مرتفع جدا بالنسبة لدول الـ OECD في نسبة المشاركة العامة في العمل، بحيث إنّ الادعاءات هنا عن عدم تحمل العبء والمسؤولية باطلة. من السهل جدا اتهام المجتمعَين العربي والحاريدي بعدم المشاركة الكاملة في تحمل العبء، لكن الحديث عن مشاكل اقتصادية بنيوية أكبر بكثير، على إسرائيل حلها. إحدى المشاكل الرئيسية هي تركيز الاقتصاد الإسرائيلي، سيطرة عدد من العائلات على الاقتصاد، وعلاقات المال والسلطة التي جرى نسجها طوال أعوام بينهما. حل مشكلة العبء يأتي من تفكيك هذه الشراكة، وتنويع الاقتصاد. للمرة الأولى، يبدأ في الكنيست نقاش بشأن هذه المواضيع، ولا يمكن التقليل من أهميتها. بقصص لا فائدة منها عن عدم تجنّد المجتمعَين الحاريدي والعربي للخدمة في الجيش، أو عدم المشاركة في عبء الضرائب، لا تستطيع إسرائيل التقدم كثيرا”.

ستاف شفير تنضم الى حزب العمل برئاسة يحيموفيتش (Flash90\Yossi Zeliger)
ستاف شفير تنضم الى حزب العمل برئاسة يحيموفيتش (Flash90\Yossi Zeliger)

بئر الميزانية الضخمة

كان موضوع ميزانية الدولة، الذي أدى لتقديم الانتخابات الإسرائيلية وصعود قوى سياسية جديدة (“هناك مستقبل” و”البيت اليهودي”)، الموضوع المركزي الذي تصارعت عليه الأحزاب المختلفة قبل الانتخابات. قبل الانتخابات والفوز بـ 19 مقعدا، قال يئير لبيد إنّ في نيته بذل قصارى جهده لتقسيم موازنة الدولة بطريقة أكثر مساواةً، تقوية الطبقة الوسطى، تقليص نفقات الحكومة، تفكيك جمعيات العمال القوية التي تبتز خزينة الدولة، وإحداث تغيير جوهري في تقسيم الممتلكات العامة لصالح الطبقة الوسطى في إسرائيل (وفقا لمعطيات إحصائية تنشرها لجنة الإحصاء المركزية، تشكل الطبقة الوسطى في إسرائيل نحو 50% من الأسر في إسرائيل. كان الدخل الشهري الصافي للفرد في الطبقة الوسطى عام 2011 نحو 4000 ش.ج، أي 1080 دولارا).

مع دخول لبيد للسلطة وتسلمه حقيبة المالية، ذُهل لدى اكتشافه حجم العجز في موازنة الدولة، والذي يبلغ حسب ادعائه نحو 40 مليار شاقل. فوجئ كثيرا من الإسرائيليين الذين صوتوا لحزبه لدى اكتشافهم البرنامج الاقتصادي الجديد الذي عرضه في الأسابيع الأخيرة على الحكومة، والذي يتضمن تقليصات واسعة النطاق في تقديم خدمات أساسية للطبقة الوسطى، رفع الضرائب بنسَب تزيد عن المتوقع، وعدم الاستجابة بشكل لائق لضائقة السكن وتضخم أسعار الشقق في إسرائيل.

شباب إسرائيليون أمام خيامهم في تل أبيب (Flash90\Liron Almog
شباب إسرائيليون أمام خيامهم في تل أبيب (Flash90\Liron Almog

في نقد لاذع لسياسة المالية التي تهدف إلى المس بالطبقات الضعيفة، قالت عضو الكنيست ستاف شفير (من قائدات الاحتجاجات الاجتماعية البارزات، صيف 2011) من حزب العمل: “قبل وقت غير طويل، لم يكن بوسع الإسرائيلي المتوسط التذمر من غلاء المعيشة أو الاحتجاج عليه، والتذمر من سعر شراء شقة أو استئجارها. كانت المواضيع الهامة هي الأمن، التهديد الإيراني، ومستقبل السلام مع الفلسطينيين. غيّرت الاحتجاجات في الصيف الحديث السياسي والاجتماعي. كنا مضطرين للاحتجاج على غلاء المعيشة، على الفوارق الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء، وعلى ضعف الجهاز التربوي. تحدث يئير لبيد قبل انتخابه عن تآكل الطبقة الوسطى، والحاجة إلى حماية الطبقة الوسطى من سحق وحشي، واليوم يتنكر لطريقه، ويحقق سياسة نتنياهو الرأسمالية، ويمرر موازنة تخنق الضعفاء أكثر فأكثر. لا برامج حقيقية لتحسين مسألة السكن، أو الاستجابة لتربية ذات مساواة أكبر في الدولة. وللأسف الشديد، لا يبدو مستقبل الحكومة الحالية برئاسة نتنياهو، بنيت، ولبيد، واعدا في المجال السياسي مع الفلسطينيين”.

أمة الوثب؟

وفقا لرولنيك، يبدأ الجمهور الإسرائيلي في رؤية الصورة كاملةً: “من المعتاد أن تُدعى إسرائيل “أمة الوثب” (Start Up Nation) بفضل الابتكار في المجال التكنولوجي، لكن الأبحاث تظهر أن 5% فقط من الاقتصاد الإسرائيلي متجدد ومنتِج. في الواقع، إسرائيل هي إحدى الدول الأقل إنتاجا بين دول الـ OECD”. يذكر الاتحاد الأوروبي أنّ إسرائيل اليوم رائدة في الابتكار، لكنها ستواجه صعوبة في الحفاظ على تفوقها. ينخفض الاستثمار النسبي لإسرائيل في البحوث والتطوير في السنوات الأخيرة، وأحد أسباب ذلك هو نقص الاستثمار الحكومي في المجال. وهذا مجرد غيض من فيض. على إسرائيل تنفيذ تغييرات بنيوية طويلة الأمد، ومحاربة مجموعات المصالح، مثل وزارات الأمن. تحولت وزارات الأمن المختلفة، رغم صدق قلقها على أمن الدولة، رويدا رويدا إلى مجموعة مصلحة تسعى إلى الحصول على المزيد من الميزانيات، وبالتالي خنق المجتمع الإسرائيلي أكثر، وابتزاز أموال تستطيع تدبر أمرها من دونها”.

يبدو أن الجمهور الإسرائيلي بدأ ينشغل كجيرانه في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية أكثر من أي شأن آخر، ولا يفرح بقبول وصفات سياسية وأمنية كما تعلم أن يفعل طوال سنوات عديدة منذ تأسيس الدولة. هل تؤدي به هذه الرؤية إلى اتخاذ قرارات مختلفة؟ إلى خرق نوعي في المجال الاجتماعي – الاقتصادي؟ إلى خرق في المجال السياسي؟ وحدها الأيام كفيلة بالإجابة

اقرأوا المزيد: 1670 كلمة
عرض أقل