حرب لبنان 1982 (AFP)
حرب لبنان 1982 (AFP)

مضى 18 عاما على انسحاب إسرائيل من لبنان.. نقد ذاتي متأخر

شارك آلاف الإسرائيليين في الحرب في لبنان، وما زال هذا الموضوع الأقل تحدثا

يتحدث الأديب ماتي فريدمان، الذي يتناول كتابه “دلاعت” ويحظى ببيع كبير، عن روتين الشبان الإسرائيليين في ثكنة عسكرية في جنوب لبنان، ويتساءل بصفته قضى وقتا طويلا في “القطاع الأمني” في جنوب لبنان، كيف لم تعد الفترة التي قضاها الإسرائيليون في لبنان والمثيرة للجدل تذكر في النقاش الإسرائيلي أبدا وقد نُسيت بعد فترة قصيرة من الانسحاب من لبنان.

رغم أن الوضع على الحُدود الشمالية الإسرائيلية والمواجهات مع حزب الله ما زالت مستمرة وتشغل بال الإسرائيليين، إلا أن الـ  18 عاما الماضية بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية، لا يتم ذكرها تقريبا، رغم أنها أثرت في الواقع تأثيرا كبيرا.

في الأسابيع الماضية تحديدًا، بمناسبة مرور 18 عاما على الانسحاب، بدأ يطرح الموضوع بشكل بارز في وسائل الإعلام الإسرائيلية، ربما بسبب الحقيقة أن الجبهة الشمالية بدأت تسخن ثانية، أو لأن إيهود باراك، الذي كان رئيس الحكومة سابقا وأمر بالانسحاب، دخل مؤخرا إلى المعترك السياسي مجددا.

نشر باراك مقطع فيديو قال فيه إنه فخور بالقرار، وفي مقابلة معه قال: “في عام 1985 فكرت أن بقاء القوات الإسرائيلية في لبنان يشكل خطأ، وكنت حينذاك رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، وحاولت إقناع المسؤولين، ومنهم وزير الدفاع، يتسحاق رابين. حذرت مسبقا أننا قد نتعرض لحالة شبيهة بتلك التي تعرضنا لها على طول قناة السويس، عندما أصبحنا مشغولين بالدفاع عن أنفسنا وليس عن أمن إسرائيل. عندما كنت رئيس الأركان طُرحت القضية ولكني لم أستطع العمل لأننا كنا في مرحلة المحادثات مع سوريا، وخشينا أن تؤثر القضية بشكل مباشر بالعلاقات مع لبنان. عندما بدأت بشغل منصب رئيس الحكومة فكرت في إذا كان بالإمكان متابعة بذل الجهود التي بدأها رابين ونتنياهو بشأن سوريا لئلا نضطر إلى الانشغال في لبنان. أنا مسرور لأننا اتخذنا القرار الصحيح حينها. فهو سمح لنا بالانسحاب من لبنان، العمل، والحصول على الدعم في عام 2006 في حرب لبنان الثانية. دعمنا العالم بأسره لأنه كان من الواضح أن إسرائيل انسحبت من لبنان”.

ما زال نبيه أبو رافع، أحد كبار المسؤولين في جيش جنوب لبنان، غاضبا بسبب قرار الانسحاب. ادعى في مقابلة معه لصحيفة “معاريف”: “كان الانسحاب فريدا من نوعه، معقدا وغير مراقب. عندما يطلق مقاتلو حزب الله النيران على إسرائيل في المعبر الحدودي المعروف ببوابة فاطمة ولا يتم الرد على ذلك هذا يعني كثيرا بالنسبة لي. لقد اعتبر العرب إسرائيل ضعيفة بعد الانسحاب. وشعروا أنه يمكن هزيمتها. فهي لم تحترم اتفاقياتها مع حلفائها، وأبدت عدم إخلاصها تجاهها. نحن قوات جيش لبنان الجنوبيّ، لم ندفع الثمن. لأننا كنا الثمن بحد ذاته”.

رغم المحاولات لانتقاد قرار باراك، لا سيما الانسحاب السريع والسري، يمكن الإشارة إلى أن هناك إجماع في الرأي العام الإسرائيلي حول أن الانسحاب من لبنان كان خطوة إيجابية، رغم أن قدرات حزب الله ازدادت  بعد ذلك.

اقرأوا المزيد: 414 كلمة
عرض أقل
بريجيت جبريئل (لقطة شاشة)
بريجيت جبريئل (لقطة شاشة)

صحفية لبنانية تزور مستشفى إسرائيليا: “سخاؤكم لا يعرف الحدود”

زارت صحفية لبنانية مستشفى في إسرائيل كان قد أنقذ حياة والدتها قبل 36 عاما: "لن أنسى سخاءكم وعطاءكم إلى الأبد"

زارت بريجيت جبريئل، صحفية وكاتبة أمريكية من أصل لبناني، يوم أمس (الأحد)، مستشفى “زيف” في صفد، بعد أن تلقت والدتها فيه قبل 36 عاما علاجا منقذا للحياة وذلك بعد تعرضها لإصابة بالغة جراء قذيفة ألقتها منظمة التحرير الفلسطينية على منزلها في قرية مرج عيون اللبنانية. للمرة الأولى تزور هذه الصحفية، المعروفة بدعمها الكبير لإسرائيل، مستشفى “زيف” منذ حرب لبنان الأولى (1982).

وُلِدت بريجيت في عام 1964، لعائلة مسيحية مارونية في بلدة مرج عيون الواقعة جنوب لبنان. في عام 1982، خلال الحرب، أصيبت والدتها بإصابة خطيرة لهذا نُقِلت لتلقي علاج في مستشفى “زيف” مع ابنتها التي رافقتها. شكلت الفترة التي تواجدت فيها بريجيت في إسرائيل وتعرفت فيها على الإسرائيليين نقطة تغيير في حياتها، وأدت إلى تغيير نظرتها إلى دولة إسرائيل والشعب اليهودي.

أصبحت بريجيت، التي كان عمرها 18 عاما فقط حينذاك، مؤيدة متحمسة لإسرائيل. في الثمانينيات بدأت تعمل صحفية، وعندما استطلعت الأحداث في الانتفاضة الأولى، انتقلت للعيش في القدس مع والدها وتعلمت العبريّة. وفي عام 1989، هاجرت إلى الولايات المتحدة، وأقامت فيها منظمتين مواليتين لإسرائيل تعملان ضد الإسلام المتطرف.

في زيارتها أمس إلى المستشفى، قالت متأثرة: “هذه الزيارة تهمني جدا، وأشعر بانفعال لأن هذا المستشفى ما زال ينقذ حياة الجميع دون التمييز على أساس الدين، الجنس أو القومية، أي كما عمل عام 1982. أشكركم على اهتمامكم بوالدتي ومعالجتها، إضافة إلى تقديم العلاج لكل اللبنانيين والسوريين الذين أصيبوا خلال الحروب. سخاؤكم وعطاؤكم لا يعرفان الحدود ولن أنساهما أبدا”.

اقرأوا المزيد: 223 كلمة
عرض أقل
قوات إسرائيلية تزحف إلى لبنان خلال حرب 2006 (IDF)
قوات إسرائيلية تزحف إلى لبنان خلال حرب 2006 (IDF)

صحيفة “هآرتس”: هل الحكومة جدية بنيتها شن حرب في لبنان؟

طالبت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية الحكومة الإسرائيلية في افتتاحية لها بتقديم شرح واضح لمواطني إسرائيل إن كانت بصدد شن حرب في لبنان على خلفية التهديدات التي أطلقها المتحدث باسم الجيش في مواقع لبنانية ورئيس الحكومة

31 يناير 2018 | 11:14

طالبت صحيفة “هآرتس” في افتتاحية عددها الصادر اليوم الأربعاء، الحكومة الإسرائيلية، بالتوضيح للمواطنين في إسرائيل إن كانت تعتزم شن حرب قريبة في لبنان على خلفية التهديدات التي أطلقها المتحدث باسم الجيش ورئيس الحكومة الإسرائيلي في موسكو.

وكتبت الصحيفة أن الحكومة والجيش يحذران مواطني لبنان والعالم من مغبة حرب في لبنان على خلفية مصنع الصواريخ الذي تقيمه إيران هناك، متساءلة إن كان هذا التهديد يدعي شن حرب عواقبها ستكون مؤلمة للجانبين.

وتابعت “هآرتس” أن الحديث من قبل مسؤولين عسكريين وسياسيين عن تحويل لبنان إلى مصنع صواريخ إيراني، ازداد في الآونة الأخيرة، وتبعا لذلك التهديدات بحرب قاسية في لبنان. وأشارت إلى مقالة الرأي التي نشرها المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، العميد رونين منليس، عن “خيار اللبنانيين” وإلى تطرق رئيس الحكومة الإسرائيلي في روسيا إل نفس التهديد.

وتابعت أن على الحكومة أن تقدم لمواطني إسرائيل شرحا مقنعا وواضحا “لماذا يجب علينا أن نخرج لحرب في لبنان بسبب مصنع صواريخ؟” متساءلة “هل هذا المصنع سيغيّر الميزان الاستراتيجي في المنطقة أكثر من التهديدات الأخرى”.

اقرأوا المزيد: 155 كلمة
عرض أقل
صاروخ حزب الله يتجه نحو إسرائيل (AFP)
صاروخ حزب الله يتجه نحو إسرائيل (AFP)

معضلة إسرائيل حول شن هجوم على لبنان أصبحت علنية

مسؤولون إسرائيليّون يترددون علنا حول كيف يجب العمل في ظل إقامة مصنع صواريخ إيرانيّ في الأراضي اللبنانية ولكن إضافة إلى السؤال هل ستهاجم إسرائيل أم لا، هناك سؤال آخر حول سبب كشف المسؤولين عن ترددهم أمام وسائل الإعلام

أصبح قادة الجيش الإسرائيلي منذ أشهر قلقين إزاء ما يحدث في الأراضي اللبنانية، حيث بدأت فيها أعمال بنى تحتية لإقامة مصانع أسلحة دقيقة وفتاكة برعاية إيرانيّة. لا شك أن الصواريخ التي ستُصنع في المصنع معدّة لمهاجمة إسرائيل، وقد يؤدي استخدامها إلى رد فعل إسرائيلي خطير وإلى خسائر خطيرة في كلا الجانبين.

وفق النشر في وسائل الإعلام الأجنبية، أحبط سلاح الجو الإسرائيلي في السنوات الماضية الكثير من إرساليات الأسلحة الاستراتيجية الإيرانية إلى حزب الله في لبنان عبر سوريا. وفق التقديرات، فقد تم إحباط أكثر من %60 من هذه الإرساليات وقد أدت هذه الخطوة إلى خسائر كبيرة. الهدف من إقامة مصنع الصواريخ المتقدم على الأراضي اللبنانية هو حل مشكلة الهجوم الذي تشنه إسرائيلي ضد إرساليات الأسلحة.

وردت للمرة الأولى تقارير في صحيفة “الجريدة” الكويتية عن إقامة مصانع الصواريخ الدقيقة في لبنان. التقارير التي وردت مؤخرا ويبدو أنها كانت مسربة من قبل إسرائيل، حظيت باعتراف رسمي عندما تحدث رئيس شعبة الاستخبارات التابعة للجيش الإسرائيلي، اللواء هرتسي ليفي، في مؤتمر علني في الأسبوع الماضي قائلا: “في السنة الماضية، بدأت تعمل إيران على إقامة بنى تحتية لإنتاج أسلحة دقيقة في لبنان واليمن أيضا. نحن لسنا قادرين عن أن نبقى لا مبالين إزاء هذا الوضع – ولن نبقى”.

رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلي، اللواء هرتسي هليفي (Flash90)
رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلي، اللواء هرتسي هليفي (Flash90)

لكن هل تهديدات شن الهجوم هذه هي حقيقية؟ حتى وقتنا هذا، تجنب الجيش الإسرائيلي شن هجوم غالبًا ضد إرساليات الأسلحة في الأراضي اللبنانية وهاجمها عندما كانت في الأراضي السورية فقط. إن شن هجوم ضد أهداف حزب الله في الأراضي اللبنانية قد يمنح الجيش الإسرائيلي في الواقع أفضلية استراتيجية، ولكنه قد يؤدي إلى اندلاع حرب لبنان الثالثة، التي من المتوقع أن تكون قاسية بشكل خاصّ.

يؤكد الجيش الإسرائيلي في الآونة الأخيرة استعداده للحرب ضد لبنان. قال رئيس الأركان، غادي أيزنكوت: “لو كان يعرف نصر الله المعلومات التي نعرفه عنه، فلم يفكر في خوض الحرب”. قال قائد سلاح الجو الإسرائيلي، اللواء أمير إيشل، مؤخرا أيضا: “يعرف سلاح الجو الإسرائيلي في وقتنا هذا كيف يعمل خلال 48 ساعة ما فعله في حرب لبنان الثانية بأكملها”.

لكن من جهة، يمكن أن يحدث دمار في تل أبيب، وهجرة جماعية لسكان جنوب لبنان، ومن جهة أخرى، ستكون هذه الحالة نتيجة محتملة في حال تفاقم الوضع بين حزب الله والجيش الإسرائيلي. عندما تلحق الصواريخ الدقيقة التابعة لحزب الله والمصنّعة من قبل إيران ضررا بالمباني في تل أبيب، سيبدأ سلاح الجو الإسرائيلي بالعمل وسيكون الضرر الذي سيلحق بحزب الله في لبنان بشكل خاص والمناطق الأخرى بشكل عام هائلا.

لذا يُطرح السؤال لماذا اختار قادة المنظومة الأمنية الإسرائيلية الكشف عن معلومات استخباراتية استراتيجية ونقاشات سرية أمام الكاميرات، وهل يخططون لشن هجوم من هذا النوع في الأراضي اللبنانية، أو أنهم معنيون بطرح هذه الإمكانية والتصريح عن أنها واردة. يقدر محللون إسرائيليّون أن قادة إسرائيل معنيون أولا بنقل رسالة إلى حزب الله وإيران مفادها أن إسرائيل تولي أهمية كبيرة لإقامة المصنع الجديد لصنع الصواريخ ولن تسكت. رويدا رويدا، فهم ينقلون أيضا رسالة إلى المواطنين الإسرائيليين، الذين قد يصبحون قريبًا هدفا لحزب الله في ذروة الحرب.

اقرأوا المزيد: 460 كلمة
عرض أقل
جنديات يؤدين التحية لجنود سقطوا في مراسم يوم ذكرى الضحايا (Flash90/Yonatan Sindel)
جنديات يؤدين التحية لجنود سقطوا في مراسم يوم ذكرى الضحايا (Flash90/Yonatan Sindel)

تخليد ذكرى الضحايا في المجتمَع الإسرائيلي

سُمي أكثر من %10 من البلدات في إسرائيل على اسم الجنود الذين قُتلوا في المعارك. يعتبر مشروع تخليد ذكرى ضحايا إسرائيل أحد المشاريع الأكبر في تاريخ الشعوب المقاتلة

30 أبريل 2017 | 16:33

مَن لا يعرف المجتمَع الإسرائيلي يصعب عليه فهم أجواء الحزن والصعوبات التي بدأت تسيطر شيئا فشيئا، على شوارع مدن إسرائيل منذ ساعات الصباح الباكرة. اليوم (الأحد) مساء، ستُجرى مراسم تخليد ذكرى الجنود الإسرائيليين الذي سقطوا في الحروب على مر التاريخ، منذ إقامة دولة إسرائيل العصرية.

دُشن اليوم صباحا (الأحد) أيضا موقع الذكرى الوطني لضحايا حروب إسرائيل على مر الأجيال في القدس. بُني الموقع الجديد على شكل جبل مصنوع من حجر يصل طوله إلى 18 مترا، وفيه أكثر من 23500 ألواح حجرية يحمل كل منها اسم الجندي الذي قُتل في إحدى الحروب أو المعارك العسكرية وكذلك التاريخ الذي سقط فيه. وُضعت إلى جانب كل حجر لوحي شمعة تشتعل تلقائيّا في ذكرى اليوم الذي سقط فيه الجندي. يصل طول حائط الذكرى الجديد إلى 260 مترا.

مبنى تخليد ذكرى الجنود الجديد في جبل هرتسل:

الأيام الأولى لتخليد ذكرى الضحايا

كان تخليد ذكرى الضحايا محاولة لمنح الضحايا طابعا أبديا، لتخليد ذكراهم، وتعزيز العمل البطولي الذي قاموا به من أجل الوطن أو فكرة سامية حتى وإن لم تتحقق.

يتضمن ذكرى تخليد الضحايا الحروب والمعارك في إسرائيل تشكيلة من الطرق التي تخلد فيها مؤسسات الدولة والأشخاص الفرديون، ذكرى المقاتلين الذين حاربوا من أجل الوطن، وطرقا روحانية لمواجهة الثكل.

ما زالت تحارب إسرائيل من أجل كيانها منذ إقامتها، وبدأت حربها هذه بالاستيطان الصهيوني الذي حصد أرواح الكثير من الضحايا، الذين تم تخليد ذكراهم بطرق كثيرة (منذ عام 1873).

مبنى تخليد ذكرى الجنود الجديد في القدس (Flash90/Yonatan Sindel)
مبنى تخليد ذكرى الجنود الجديد في القدس (Flash90/Yonatan Sindel)

تعمل من قبل دولة إسرائيل وحدة لتخليد ذكرى الجنود الذين قُتلوا، وأقيمت هذه الوحدة بموجب قانون المقابر العسكرية لعام 1950، بعد مرور عامين من الإعلان عن قيام دولة إسرائيل. منذ عام 2005، تعمل الوحدة في إطار قسم العائلات وتخليد ذكرى الضحايا التابع لوزارة الأمن.

كذلك حدد الكنيست يوم ذكرى الضحايا الرسمي لضحايا معارك وحروب إسرائيل، الذي يبدأ بمراسم مركزية اليوم مساء، الأحد، بدءا من الساعة 20:00 مساء ويستمر حتى يوم غد (الإثنين) مساء في الساعة 20:00 (وعند انتهائه فورا تبدأ احتفالات عيد الاستقلال الـ 69 لدولة إسرائيل)، في قانون يوم ذكرى الضحايا لعام 1963.

شدة الحزن والألم والرغبة في تخليد ذكرى الضحايا

إن تقاليد تخليد ذكرى الضحايا في إسرائيل هي ظاهرة خاصة بإسرائيل ولا توجد ظاهرة شبيهة بها في دول أخرى في العالم، وتشير النصب التذكارية الكثيرة المنتشرة في أرجاء البلاد إلى مدى انتشار ظاهرة تخليد ذكرى ضحايا الحروب في التقاليد الإسرائيلية. حتى أن السؤال حول “عدد” النصب التذكارية ليس سهلا: تشير أبحاث أجريت بدقة حول عدد النصب التذكارية الرسمية التي بُنيت لنحو 23500 ضحايا معارك وحروب إسرائيل إلى أن هناك نحو 1500 نصب تذكاري. أي أنّ هناك نصب تذكاري واحد لكل 15 ضحية تقريبا. في أوروبا، للمقارنة، هناك نصب تذكاري واحد لكل عشرة آلاف ضحية.

نصب تذكاري في النقب (Flash90/Yossi Zamir)
نصب تذكاري في النقب (Flash90/Yossi Zamir)

ولا يدور الحديث عن النصب التذكارية فحسب: فمنذ إقامة دولة إسرائيل، عام 1948، بدأت تظهر إضافة إلى التقاليد الوطنية – الأمنية أيضا تقاليد التخليد بهدف خرط ذكرى الجنود، الذين سقطوا ضحايا عندما كانوا يدافعون عن الدولة بأرواحهم، في الذاكرة الجماعية أيضًا. إحدى الطرق الأخرى لتخليد ذكرى الجنود هي تسمية البلدات بأسمائهم أو بأسماء الحملة العسكرية التي سقطوا فيها.

وفق معطيات دائرة الإحصاء المركزية، حتى عام 2015، هناك في إسرائيل نحو 1214 بلدة. وفق الباحثين الإسرائيليين، يحمل أكثر من %10 من البلدات أسماء تذكّر بحملة عسكرية وأمنية أو تذكر بأسماء جنود سقطوا ضحايا في الحروب. إذا حذفنا من القائمة أسماء البلدات غير اليهودية، نحصل على نسبة أعلى بكثير.

توسيع مشاريع تخليد ذكرى الضحايا

حائط لذكرى الجنود الذين سقطوا في جبل هرتسل في القدس (Flash90/Yonatan Sindel)
حائط لذكرى الجنود الذين سقطوا في جبل هرتسل في القدس (Flash90/Yonatan Sindel)

في السنوات الأولى من إقامة دولة إسرائيل، في الخمسينيات والستينيات عانى المجتمَع الإسرائيلي من ثكل في المجتمَع. مات الجنود وعناصر القوى الأمنية أثناء قيامهم بعملهم موت الأبطال من أجل الوطن ومتابعة بناء البلاد. كان التوجه في المراسم الرسمية موجها للعائلات الثكلى بشكل جماعي وشدد على الأبطال الذين سقطوا ضحايا من أجل دولة إسرائيل.

بدأ التغيير في التوجه إلى العائلات الثكلى بعد حرب الأيام الستة عام ‏1967‏. كتب ليفي أشكول، الذي شغل منصب رئيس الحكومة ووزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك “ضحّى أولادنا بحياتهم… من أجل حرية الشعب، ليسود السلام، على أراضي آبائنا”. كانت هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها كلمة “السلام” كمبرر لسقوط الجنود الشبان، ومنذ ذلك الحين بدأت تُستخدم دون توقف.

ولكن لم تتغير طريقة تخليد ذكرى الضحايا على مستوى الدولة فحسب بل تغيرت على مستوى العائلة أيضا. فإذا كان الثكل ذات مرة جماعياً، كلما مر الوقت أصبح شخصيا أكثر فأكثر. صدرت كتيبات لتخليد ذكرى الجنود الذين قُتلوا، اجتمعت العائلات في مراسم لذكرى الضحايا بشكل خاص لمشاركة الألم العائلي وحظيت قصة الجندي الخاصة، اسمه، اسم عائلته، بلدته، التعليم الذي حصل عليه، وقصة موته، باهتمام أكبر. هكذا ازداد الاهتمام بالثكل وبالحاجة إلى تخليد ذكرى الأموات أكثر فأكثر طيلة السنة.

حدائق تخليد الذكرى في القدس (Flash90/Abir Sultan)
حدائق تخليد الذكرى في القدس (Flash90/Abir Sultan)

في الثمانينيات، كان التغيير حول “ثمن القتل” وشن الحروب والعمليات العسكرية ملحوظا. بدأ رؤساء الدولة يفصّلون الأسباب لشن حروب، وحتى أنهم كانوا يفصّلون الترتيبات الأمنية والمفاوضات التي تُدار مع دول أخرى على مر السنوات، وجاء هذا كجزء من الأمل لإنهاء الحروب.

وكان عدم التحمل من جهة العائلات أثناء حرب لبنان الأولى ملحوظا أيضا. يتضح من بحوث في تلك الفترة أن حينها بدأت للمرة الأولى الاحتجاجات الخطيرة ضد موت الأبناء.‎ ‎

ما زال تخليد ذكرى الضحايا يرافق العائلات الثكلى في السنوات الأخيرة أيضا. طرق التخليد كثيرة: كتب أناشيد لذكرى الضحايا، مواقع إنترنت، إقامة جمعيات تحمل أسماء الضحايا، نصب تذكارية كثيرة، مراسم ذكرى، ماراثونات ومسابقات لذكرى الضحايا وبناء المزيد من الحدائق الوطنية لتخليد الثكل في المجال العام قدر الإمكان.

اقرأوا المزيد: 815 كلمة
عرض أقل
جنديات إسرائيليات يرصدن تحركات العدوعن كثب (Flickr IDF)
جنديات إسرائيليات يرصدن تحركات العدوعن كثب (Flickr IDF)

ترصد تحركات حزب الله عن كثب

قصة جندية في الجيش الإسرائيلي التي ترصد التحركات في لبنان، في الدولة التي وُلِد فيها والدها والذي شارك في حرب لبنان الأولى. "ربما نزور بيروت يوما ما"

آفي كالش (56 عاما) وُلِد في لبنان، ووصل في عمر 6 سنوات مع كل عائلته إلى إسرائيل وحتى أنه شارك في حرب لبنان الأولى (حزيران 1982). في الوقت الراهن، تخدم ابنته شاحار كالش في الجيش وترصد تحركات عبر ثكنة عسكرية في منطقة الحدود اللبنانية، وتشاهد محافظات الدولة، التي وُلِد فيها والدها.

كانت ترغب كالش قبل أن تتجند للجيش في العمل مع الجنود بوظائف إرشادية. “أردتُ أن أكون مرشدة في سلاح المظلات ولكن لم أنجح. تم تعييني في وظائف استخباراتية. اقتُرح علي الكثير من الوظائف ولكني أردت وظيفة هامة”، تقول كالش لنا في مقابلة معها.

كانت البداية صعبة. أرسل الجيش شاحار كالش إلى ثكنة في جنوب إسرائيل لاجتياز تدريبات ودورة رصد تحركات، استمرت ثلاثة أشهر. أثناء حديثها معنا أوضحت كالش إلى أي مدى لم تكن راضية عن الخيار بسبب الوصمات في الجيش الإسرائيلي حول العمل في وحدة الاستخبارات لرصد التحركات. ولكن رويدا رويدا فهمت أهمية وظيفتها وقررت العمل في هذا المجال.

وصمات صعبة

في السنوات الأخيرة، تصدر عمل وحدة الاستخبارات التي ترصد التحركات في الجيش الإسرائيلي، العناوين. جاء ذلك أحيانا بسبب التفوق في منع تنفيذ عمليات، وأحيانا أخرى بسبب ظروف خدمة متدنية ومشاكل. كانت الذروة في حزيران 2016 عندما كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” قصة تمرد الجنديات اللواتي يعملن في رصد التحركات، وعندما سُجِنت خمس فتيات وأجبِرَت نحو 20 جندية على البقاء في الثكنة لمدة أسبوعين.

تابعت ظروف عمل الجنديات اللواتي يرصدن التحركات في تصدر العناوين طيلة فترة طويلة. حتى أنه تم الاعتراف بعدد من الجنديات كصاحبات إعاقة نتيجة الخدمة في الجيش، فوفق ادعائهن حدث ذلك بسبب نقص الظروف الملائمة في خدمتهن، وفي حالات كثيرة ادعت الجنديات أنهن لا ينمن ساعات كافية ولا يتلقين وجبات منتظمة.

شاحار كالش ووالدها، آفي كالش، تصوير الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي
شاحار كالش ووالدها، آفي كالش، تصوير الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي

في أيلول 2016، تصدرت العناوين قضية أخرى عندما لم يُسمح لجنديات في وحدة الاستخبارات لرصد التحركات في موقع في جنوب غزة بالدخول إلى غرفة الطعام، فوفق أقوالهن السبب هو نزاع مالي بين وحدات الجيش.

قبل 5 سنوات، نشرت مندوبية شكاوى الجنود تقريرا خطيرا حول عمل الجنديات في وحدة الاستخبارات لرصد التحركات في الجيش. جاء في التقرير أن الجنديات اللواتي يرصدن التحركات يعملن في ظروف صعبة ويعانين من قلة النوم والموارد البشرية، وصعوبات ومشاكل طبية. بالإضافة إلى ذلك، يتعرضن لمعاملة صعبة من الضباط. ردا على ذلك، صادق رئيس الأركان حينذاك بيني غانتس على شراء أسرة، مكيفات، ومعدات مرافقة، وكذلك على التعامل بشكل مختلف مع شكاوى الجنديات الطبية.

في السنوات الأخيرة، اجتازت المنظومة تعديلات، وفق ادعاءات جهات مسؤولة في الجيش فقد تحسنت الظروف بشكل ملحوظ.

حاولنا أن نفهم من كالش ما هو سبب الوصمات الصعبة التي تلحق بالجنديات اللواتي يرصدن التحركات ولماذا اختارت الخدمة في هذا المجال تحديدا؟

“الوصمات شائعة منذ سنوات كثيرة. تعتقد الغالبية أن ظروف الخدمة السائدة شبيهة بالظروف منذ إقامة الدولة. ولكن منذ الدورة لاحظت أن هذه الوظيفة مثيرة للتحدي وفهمت المسؤولية الملقاة علي. تتيح لي هذه الوظيفة إنقاذ حياة الآخرين وإحباط التهديدات”.

كانت أمام كالش إمكانية الخدمة في منطقة الحدود مع مصر، الضفة الغربية، سوريا، قطاع غزة، والحدود مع لبنان. “فاستشرتُ والدي كثيرا. وقررتُ أن أخدم في الحدود مع لبنان”.

لماذا في منطقة الحدود مع لبنان تحديدًا؟

“أعتقد أن الخدمة هنا مثيرة للتحدي أكثر. ففي هذه المنطقة أعمل على رصد معلومات وأستخدم منظومات متطورة أكثر. روى لي والدي قصصا عن لبنان ويشكل هذا بالنسبة لي إكمال الحلقة المفقودة”.

كيف يبدو يوم عمل روتيني في رصد التحركات؟

“تعمل عدة فتيات في الوحدة. نجلس 4 ساعات في الوردية، ونرصد التحركات، وننقل التقارير عند الحاجة. الحدود هنا هادئة غالبا. يمر معظم الوقت أثناء الوردية في الإصغاء إلى قصص الزميلات في الوحدة”.

ما رأيك في لبنان؟

عائلة والد شاحار كالش من لبنان، تصوير خاص
عائلة والد شاحار كالش من لبنان، تصوير خاص

“لبنان دولة رائعة، جميلة، وتحب الجنديات هذه المنطقة. أعرف كل نقطة فيها وأحبها. مناظرها خيالية وجميلة”.

“شارك والدي في التفجيرات التي هدمت المنزل الذي ترعرع فيه في بيروت”

يفهم آفي كالش، والد شاحار، لماذا أوصى لها برصد التحركات على الحدود اللبنانية. فهو يشعر أن هذا يشكل إكمال للحلقة المفقودة. فقد وُلِد في بيروت، لعائلة عمل أفرادها تجارا وموظفي بنك.

طرأت التغييرات عام 1967. “فبعد حرب الأيام الستة، تفاخر جدي أمام الكثيرين في بيروت بالانتصار الإسرائيلي الكبيرعلى الدول العربية. فسُجن لمدة شهرين. عندما أطلِق سراحه أراد الوصول مع كل أولاده بما في ذلك والدي إلى إسرائيل. قدمت عائلتي إلى إسرائيل عبر دولة ثالثة. في البداية قدمت جدتي وأولادها ومن ثم انضم جدي أيضًا”.

عندما التحق آفي بالجيش خدم في سفينة صواريخ وفي حرب لبنان الأولى خدم في سفينة قبالة شواطئ لبنان. “قال لي والدي إن لبنان تعرض لهجوم خطير وعلى ما يبدو فقد هُدِم المنزل الذي وُلِد وترعرع فيه أثناء الهجوم”.

تشعر شاحار ووالدها أن الحديث يدور عن إكمال حلقة مفقودة ويأملا أن يستطيعا يوما زيارة بيروت معا.

اقرأوا المزيد: 703 كلمة
عرض أقل
جنود في طريقهم إلى المنزل بعد خدمة دامت 4 أشهر متتالية في "دلاعت" عام 1998 (تصوير ماتي فريدمان)
جنود في طريقهم إلى المنزل بعد خدمة دامت 4 أشهر متتالية في "دلاعت" عام 1998 (تصوير ماتي فريدمان)

“دلاعت” – قصة نقطة عسكرية إسرائيلية في العمق اللبناني

قصة مثيرة للاهتمام للنقطة العسكرية الإسرائيلية في العمق اللبناني، فهي قصة جيل كامل من الإسرائيليين الذين يرغبون في شطب حرب لبنان من ذاكرتهم. مقابلة خاصة يتحدث فيها جندي عن حرب لبنان بعد أن شارك فيها وظل حيا

يتخيل مَن يفكر في “دلاعت” (دلاعت هي كلمة عبرية تعني القرع أو اليقطين)، غالبًا نبتة لونها برتقاليّ أو أخضر أو حتى أصفر أو أبيض. لن يخطر في باله أن هذه النبتة البسيطة، هي أيضا اسم نقطة عسكريّة إسرائيلية في العمق اللبناني. أقام الجيش الإسرائيلي في الثمانينيات بعد انسحابه من لبنان، موقعا عسكريا استجابة “للاحتياجات الأمنية” الأكثر سرية في الدولة ولمراقبة العدو رقم واحد حتى يومنا هذا، حزب الله، الذي ازدادت قوته.

النقطة العسكرية "دلاعت" في آذار 1998 ويمكن مشاهدة جبل الشيخ في الخلفية (Wikipedia)
النقطة العسكرية “دلاعت” في آذار 1998 ويمكن مشاهدة جبل الشيخ في الخلفية (Wikipedia)

لا يعرف الإسرائيلي العادي تقريبا حرب لبنان 1982. كانت هذه الحرب فترة صعبة، راح ضحيتها ما معدله 20 حتى 30 جنديا إسرائيليا في كل سنة، خلال 18 عاما. بدأت الحرب بتاريخ 6 حزيران 1982، وانتهت في يوم واحد في شهر أيار عام 2000، بعد انسحاب أحادي الجانب للقوات الإسرائيلية، من دون تنسيق مسبق مع الحكومة اللبنانية. في غضون وقت قصير غادر الجيش الإسرائيلي لبنان بعد أن هدم مواقعه ومن بينها موقعي “دلاعت”، و “بوفور”، مغلقا وراءه بوابات الحدود، في الوقت الذي انتشرت فيه قوات جيش لبنان الجنوبيّ في كل مكان، من دون النظر إلى الوراء.

الصحفي والأديب الإسرائيلي - الكندي، ماتي فريدمان (Facebook)
الصحفي والأديب الإسرائيلي – الكندي، ماتي فريدمان (Facebook)

في خريف 2002، بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، عاد الصحفي والأديب الإسرائيلي – الكندي، ماتي فريدمان، إلى موقع “دلاعت”. لقد عاد إليه من لبنان ذاته. شاهد فريدمان مبنى الموقع العسكري الذي كان نابضا بالحياة أثناء خدمته العسكرية، مدمّرا وخاليا. “وجدت موقعا مهجورا، ومُدمرا”، قال في مقابلة معه حول كتابه الجديد “دلاعت- نقطة عسكرية في لبنان”.

“عندما رأيت الموقع خاليا ومُدمّرا، شعرت بشعور قوي، فبدأت أفكر بشكل مختلف في الفترة التي خدمت فيها في لبنان. في الموقع المهجور، بدأت أفكر بحجم الوهم. إن إرسال جنود شبان إلى منطقة خاضعة للسيادة اللبنانية، احتجازهم في نقطة عسكرية على تلة والتوضيح لهم أن هذه النقطة العسكرية ونقاط أخرى في القطاع الأمني تهدف إلى الحفاظ على البلدات في شمال إسرائيل، هو عمل جنوني”.

ماتي فريدمان يزور أنقاض "دلاعت" من داخل لبنان عام 2002 (تصوير ماتي فريدمان)
ماتي فريدمان يزور أنقاض “دلاعت” من داخل لبنان عام 2002 (تصوير ماتي فريدمان)

وصل فريدمان، صحفي وأديب عريق من أصل كندي إلى إسرائيل في سن 17 عاما، وبعد مرور سنتين وجد نفسه في النقطة العسكرية “دلاعت” في جنوب لبنان. إن النظرة الخارجية إلى التجربة الغريبة، المثيرة للخوف ولكنها رائعة أحيانا أيضا، خلّفت كتاب – تصفية الحساب النادر حول فترة تفضل إسرائيل نسيانها. تُرجم الكتاب الذي كتبه فريدمان بالإنجليزية إلى العبريّة.

هل ترغب في ترجمة الكتاب إلى العربية؟

“أرغب جدا. أتمنى حدوث ذلك. أرغب جدا أن يتوجهوا إليّ أصحاب دور نشر عربية، ويعرضوا عليّ ترجمة الكتاب إلى العربية أيضا. ينقل الكتابة تجربتي وتجربة أصدقائي في النقطة العسكرية على التلة الأجمل في جنوب لبنان، ويتطرق إلى عالم صغير تسود فيه علاقات الكراهية والمحبة تجاه ذلك المكان، تلك الحرب، لا سيّما إلى فهم أفضل للمجتمع الإسرائيلي، وعمليات مر بها إثر الحرب في جنوب لبنان”.

"عمليات فتح المحاور" باتجاه النقطة العسكرية "دلاعت" 1999 (Wikipedia)
“عمليات فتح المحاور” باتجاه النقطة العسكرية “دلاعت” 1999 (Wikipedia)

يحاول فريدمان في كتابه الجديد أن يروي قصة القطاع الأمني للجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان عبر جدران النقطة العسكرية وقصص بعض الجنود الذين خدموا أثناء الحرب. وفق ادعائه، قصة النقطة العسكرية “دلاعت” هي قصة دولة إسرائيل والشرق الأوسط بأكمله.

هل تعتقد أنه يمكن أن نتعلم من كتابك شيئا ما، حول تعامل إسرائيل اليوم مع حزب الله؟

“ترتبط كل معرفتنا حول ما هي الحرب، بما حدث في لبنان. لا شك أن إسرائيل قوية عسكريّا. كذلك حزب الله قوي وحكيم أيضا. مثلا، حزب الله أقوى من إسرائيل في مجال استخدام الوسائل الإعلامية. كان حزب الله أول من عرف الاحتمال الكامن في الوسائل الإعلامية وكيف يمكن استغلالها لصالحه.

سادت فكرة أثناء حرب لبنان نظرت إلى الجنود نظرة “أولاد الجميع”. سُميت الحركة التي دعت إلى الانسحاب من لبنان حركة “الأمهات الأربع” ويشير استخدام الكلمة “أمهات” إلى أن هناك أطفالا في الجانب الآخر يجب حمايتهم. كانت كل هذه العوامل قائمة منذ حرب لبنان. بصفتنا جنودا، شهدنا حالة من حرب في القرن الحادي والعشرين، حرب من نوع آخر لم تعرفه إسرائيل حتى ذلك الحين. كانت هذه الحرب نموذجية للحروب التي تورطت فيها مثلاً الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، أفغانستان، حرب خلّفت ورائها داعش والقاعدة. إذا نظرنا إلى الماضي، فيبدو أننا نحن الإسرائيليون كنا أول من خاض هذا النوع من الحروب”.

هل تتذكر روتينك اليومي في النقطة العسكرية؟ هل قمتم بعمليات عسكرية مكثّفة؟

قافلة سيارات جيب عسكرية بطريقها إلى "دلاعت" 1998(تصوير ماتي فريدمان)
قافلة سيارات جيب عسكرية بطريقها إلى “دلاعت” 1998(تصوير ماتي فريدمان)

“لم يحدث ذلك حقا. لذا أتحدث عن وهم كبير، كنا نقشر البطاطا معظم اليوم، نملأ أكياس الرمل، نشاهد المنظر الريفي الذي كان يطل عبر نقاط الحراسة نحو المعقل الشيعي أمامنا، في النبطية، وأحيانا كنا نتعامل مع تحديات أمنية وضعها أمامنا مقاتلو حزب الله. كانت قوات حزب الله صغيرة ولكنها حكيمة جدا نجحت كل الوقت في أن تثير قلقا لدينا. لم يحدث شيء غالبا، كنا مشغولين كل الوقت في شق الطرقات لتلقي قوافل عسكرية في طريقها إلى منطقة النقطة العسكرية، في التأكد من أن نشطاء حزب الله لم يضعوا ألغاما في الطرقات، وشربنا الكثير من القهوة. وانتظرنا!”

فريسة سهلة للهجوم؟

“تماما. في مساء أحد الأيام كنت داخل ناقلة جنود مدرعة، تعمل على حماية النقطة العسكرية من الخارج وتلقينا خبرا عبر جهاز الاتصال حول الكشف عن 3 أجسام في طريقها نحو النقطة العسكرية في الظلمة. طُلب منا مواجهة التهديد، فتقدمت ناقلة الجنود المدرعة نحو منطقة ذات أشجار كثيفة. سادت أجواء من الظلمة التامة، كان يمكن الشعور بالخوف تماما. بعد مرور بضع دقائق، شعرت بشظية قوية تصطدم بأنفي ومن ثم سمعت انفجارا قويا وشممت رائحة غبار حريق. عندها أدركنا أننا تورطنا. انفجر محرك المدرعة نتيجة الانفجار فلم يكن في وسعنا التقدم. لذلك طلبنا المساعدة عبر جهاز الاتصال. في اليوم التالي، وصل إلى منطقة الحادث مقتفيا أثر لمعرفة ماذا حدث فأخبرا أنه وُضعت في الطرقات متفجرات وأن الأجسام الـ 3 التي شاهدناها كانت خنازير برية عالقة في المنطقة. سئم الجنود من روتين عملهم في النقطة فاستغل حزب الله هذه الحقيقة للعمل ضدنا”.

اليوم الذي تغير فيه كل شيء: 4 شباط 1997

مهبط مروحيات في "دلاعت" 1993(Wikipedia)
مهبط مروحيات في “دلاعت” 1993(Wikipedia)

يذكر فريدمان هذا اليوم جيدا. تدعو إسرائيل هذه الكارثة التي لحقت بـ 73 عائلة بـ “كارثة المروحيات”. كانت كارثة المروحيات التي حدثت بتاريخ 4 شباط 1997 كارثة جوية. اصطدمت فيها مروحيتان لسلاح الجو الإسرائيلي في الجو بينما كانتا تنقلان 73 مقاتلا إلى القطاع الأمني في موقعي “بوفور” و “دلاعت”. حصدت الكارثة حياة 73 مقاتلا.

“عندها طرأ تغيير ما في المجتمَع الإسرائيلي. كان سقوط 73 مقاتلا إسرائيليا حادثا مأسويا بدأ بطرح أسئلة ثاقبة، ضد من نقاتل في لبنان؟ هل هناك حاجة حقا إلى المواقع الدفاعية العسكرية وراء حدود إسرائيل؟ هل تخدم هذه المواقع الهدف الذي بُنيت من أجله؟ طرحت الحركة الاجتماعية “الأمهات الأربع” التي قادت الاحتجاجات الاجتماعيّة للانسحاب أحادي الجانب من لبنان هذه الأسئلة”.

أقامت أربع نساء من سكان الشمال وأمهات جنود خدموا في لبنان حركة “الأمهات الأربع” وهي حركة احتجاجية قامت عام 1997 إثر كارثة المروحيات طالبت بانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان. بعد مرور 3 سنوات منذ إقامة الحركة، قرر رئيس الحكومة حينذاك، إيهود باراك، تنفيذ وعوده الذي صرح بها أثناء الانتخابات والعمل على انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان.

غلاف الكتاب الذي ألفه ماتي فريدمان حول الحرب فب لبنان
غلاف الكتاب الذي ألفه ماتي فريدمان حول الحرب فب لبنان

هل تعتقد أن هناك علاقة بين الانسحاب من لبنان واندلاع انتفاضة الأقصى بعد مرور نحو خمسة أشهر منذ الانسحاب، في تشرين الأول 2000؟

“لا شكّ. أتطرق إلى هذه النقطة في الكتاب أيضًا. لا شك أن الانتفاضة، كما هو معروف، لم تحدث بسبب الانسحاب من لبنان. ولكن منح الانسحاب إلهاما لبعض الفصائل الفلسطينية. كانت فكرة مقاومة القوات الأجنبية منتشرة في المجتمَع الفلسطيني. أثبت نصر الله أنه ربما من المفضل إدارة مقاومة عنيفة بدلا من الاكتفاء بتسوية تاريخية حقيرة. أتذكر أنه في فترة اندلاع انتفاضة الأقصى، كنت طالبا جامعيا في القدس. كان في مساكن الطلاب الجامعيين تلفزيون، يبث برامج التلفزيون الفلسطيني. كنا نشاهد مقاطع فيديو لحملات دعائية تقارن بين موجة العُنف التي اندلعت في البلاد وبين نجاح عناصر حزب الله في إبعاد القوات الإسرائيلية من لبنان”.

لو التقيت نصر الله لوقت قصير واحتسيت معه القهوة، عمّ كنت ستتحدث؟

“كنت سأسأله إذا كان يشتاق إلى ابنه؟”

أمين عام حزب الله، حسن نصر الله برفقة إبنه هادي نصرالله (Wikipedia)
أمين عام حزب الله، حسن نصر الله برفقة إبنه هادي نصرالله (Wikipedia)

كان هادي، ابن نصر الله البكر، مقاتلا في حزب الله وقُتِل بتاريخ 12 أيلول 1997، أثناء معركة بينه وبين جنود الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان. نُقل جثمانه إلى عائلته في إطار تبادل الجثث في حزيران 1998 مقابل جثة جندي إسرائيلي.

“يبدو أن هذا هو السؤال الوحيد الذي كنت سأطرحه عليه كأب لأربعة أولاد. في نهاية المطاف، نحن بشر وبعد أن ننزع كل الأقنعة نصل إلى الإنسان العادي، وأعتقد أن هذا سؤال كان سيجعل نصر الله يفكر في ابنه الذي فقده أثناء الحرب”.

من تعتقد كان المنتصر في الحرب بين إسرائيل وحزب الله؟

“السؤال الحقيقي هو ما هو الانتصار. لقد نجح حزب الله في إخراج إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000. نجح في إلحاق ضربة قاضية في الوعي الإسرائيلي حول قدرات الجيش الإسرائيلي العسكرية في حرب لبنان الثانية عام 2006. هذا أمر مؤكد. ولكن هل نجح في بناء مجتمَع مزدهر كما تعمل إسرائيل اليوم. يحاول الإسرائيليون اليوم العيش رغم كل الصعوبات وبناء مجتمَع سليم، قدر الإمكان. هل هذه هي الحال في لبنان؟ لست متأكدا. أطلق نصر الله “عفريت الحرب الأبدية” ضد إسرائيل. في الوقت الراهن، هذه الحرب ليست قائمة تقريبا لذلك يشارك حزب الله في الحرب في سوريا بقرار من الراعي إيران. تدمر حروب كهذه المجتمعات البشرية وتشكل مشكلة”.

يصف فريدمان في كتابه أحداث مأساوية لموت الجنود وخسارتهم، إلا أن خدمته العسكرية في “دلاعت” لم يترك أثرا فيه. “لم أخسر صديقا”، قال مضيفا “كان الفريق الذي عملت ضمنه محظوظا، لم يلحق بنا ضرر. ربما كان هذا سببا آخر ساهم في قدرتي على كتابة هذا الكتاب. مررت بتجربة قوية وغريبة جدا بشكل أساسيّ. ولكن لم أجتز تجربة أثرت كثيرا في حياتي، ولكني مررت بتجربة تعليمية سريعة ومكثفة حول الشرق الأوسط”.

كانت 18 سنة للجيش الإسرائيلي في لبنان فترة تأسيسية لجيل إسرائيلي كامل، إلا أنه عندما نفحص كم كتابا كُتب عنها، فيبدو أن تلك الفترة انمحت من الذاكرة الجماعية كليا. أكثر من ذلك، يبدو أن تراث الجيش الإسرائيلي يحاول نسيان تلك الفترة الطويلة التي قضاها وراء الحدود. لا تشكل قصة القطاع الأمني جزءا من تراث معارك الجيش الإسرائيلي. يعتقد الجيش الإسرائيلي أن حرب لبنان انتهت عام 1982 تماما”.

اقرأوا المزيد: 1496 كلمة
عرض أقل
ياسر عرفات خلال المقابلة مع طاقم مجلة "هذا العالم" في بيروت (تصوير: عنات سرغوستي لصالح مجلة "هذا العالم" يوليو 1982)
ياسر عرفات خلال المقابلة مع طاقم مجلة "هذا العالم" في بيروت (تصوير: عنات سرغوستي لصالح مجلة "هذا العالم" يوليو 1982)

المرة الأولى التي التقى فيها عرفات إسرائيليين

عام 1982، عندما كانت منظمة التحرير الفلسطينية تعد منظمة إرهابية، سافرت عنات سرغوستي إلى بيروت وأجرت مقابلة مع الرئيس الفلسطيني. وفي مقابلة خاصة لموقع "المصدر" تتحدث عن اللقاء وعن شخصية عرفات المثيرة

حتى عام 1982، لم يجرِ أي صحافي إسرائيلي مقابلة مع ياسر عرفات، الذي كان يعتبر حينذاك أحد أكبر أعداء إسرائيل. كانت تعتبر منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية، وقد حظر القانون الإسرائيلي عقد لقاءات مع الجهات المعادية.

ولكن حرب لبنان الأولى (التي بدأت كعملية للقضاء على أوكار الإرهابيين الفلسطينيين في جنوب لبنان)، منحت فرصة ذهبية للصحافيين الإسرائيليين للوصول إلى أقرب نقطة ممكنة من القيادة الفلسطينية في تلك الفترة.

“كانت صورة عرفات أسوأ صورة يمكن توقعها. صورة وحش. ولكن وقف أمامي إنسان، من لحم ودم، مبتسما، واقترب إلي بحرارة، وعانقني بدفء، وكان يبدو طيبا. فدُهِشتُ”.

نجحت عنات سرغوستي، التي كانت حينها مصوّرة صحفية شابة، وأصبحت اليوم واحدة من كبار الصحافيين في إسرائيل، في الالتقاء مباشرة بالزعيم ياسر عرفات. في مقابلة خاصة مع طاقم هيئة تحرير “المصدر” في ذكرى 7 سنوات على وفاة الرئيس الفلسطيني الأبدي، تتحدث عنات عن تلك المقابلة الاستثنائية.

هل يمكن أن تخبرينا عن الاستعدادات للقاء – لماذا قررتم إجراءه؟ كيف وصلتم إلى عرفات؟ ماذا كانت توقّعاتكِ؟

“أجريَ اللقاء في تموز 1982، خلال حرب لبنان الأولى. كان الجيش الإسرائيلي قد سَيْطر حينها على بيروت الشرقية وفرض حصارا على بيروت الغربية، حيث كان مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. سافر الصحافيون الإسرائيليون إلى بيروت من أجل نقل أحداث الحرب. ووصلت أنا أيضا مع طاقم الصحيفة الأسبوعية “هعولام هازيه” (هذا العالم) إلى بيروت”.

في تلك الفترة انشغلت معظم العناوين بطابع بيروت الأوروبي. ففوجئ الصحافيون الإسرائيليون، الذين توقّعوا مشاهدة مدينة عربية تدور فيها رحى حرب، عندما شاهدوا النوادي، المقاهي والمطاعم، الخمور، وأجواء الحرية في شوارعها. لكن سرغوستي طلبت تحديدا أن تشاهد المناطق التي يعيش فيها الفلسطينيون، الذين أقاموا في الجزء الأقل نجاحا من المدينة، الجزء الغربي.

ياسر عرفات مع الصحفي أوري أفنيري (تصوير: عنات سرغوستي لصالح مجلة "هذا العالم" يوليو 1982)
ياسر عرفات مع الصحفي أوري أفنيري (تصوير: عنات سرغوستي لصالح مجلة “هذا العالم” يوليو 1982)

“بقينا في بيروت عدة أيام، وخلال تحرير تقارير عن بيروت وعن الحصار، طرحتُ فكرة أن ننتقل إلى بيروت الغربية لنقل الأحداث التي تدور فيها”، كما تقول. “كانت للصحافي أوري أفنيري [محرر صحيفة “هعولام هازيه” ويساري إسرائيلي] حينذاك علاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية، فأجرى عدة اتصالات ونجح في الاتصال بمسؤولي المنظمة، واتُخذ قرر أن ننتقل إلى المدينة الغربية في اليوم التالي صباحا. وحقا سافرنا من الفندق – الذي كان في المدينة الشرقية – إلى بيروت الغربية بسيارة أجرة لبنانية. رافقنا فريق من التلفزيون الألماني أيضا. عندما سافرنا لم نعلم أنّنا سنلتقي بياسر عرفات ونجري معه مقابلة. كان الهدف الأساسي من انتقالنا بين جزئي بيروت هو إعداد تقرير عن جزء من المدينة المحاصرة وعن الفلسطينيين الذين يعيشون فيها. لذلك لم تكن هناك استعدادات حقيقية للقاء وأجريَ بشكل فجائي. خلال محادثة مع المسؤول عن الشؤون الإسرائيلية في منظمة التحرير الفلسطينية، عماد شقور، في منزله في بيروت الغربية، دخل ياسر عرفات فجأة مع مجموعة من الأشخاص، لذلك كانت المقابلة في الواقع عفوية. كنتُ حينذاك مصوّرة هيئة تحرير “هعولام هازيه”، وقد أجرى اللقاء أوري أفنيري والصحافية سريت يشاي.

وبما أن اللقاء لم يكن مخططا، لم تكن لدي توقعات. عرفتُ أنّ هذه هي المرة الأولى التي يلتقي فيها عرفات إسرائيليين، وأن اللقاء بحدّ ذاته هو إنجاز صحفي خاص. كما ذكرتُ، كنتُ مصوّرة، ركّزتُ اهتمامي في مجال التصوير وعرفتُ أنّ عليّ التقاط أكبر عدد من الصور، لأنّ الصور هي التوثيق الوحيد للقاء.

الصحفية اللإسرائيلية عنات سرغوستي (تصوير Stephan Röhl)
الصحفية اللإسرائيلية عنات سرغوستي (تصوير Stephan Röhl)

هل شعرتِ بخوف؟

لا، لم أخف. اجتياز كل الحواجز الفاصلة بين جزئي المدينة أقلقني أكثر. فمن أجل الوصول إلى بيروت الغربية كان علينا اجتياز عدة حواجز: حاجز الجيش الإسرائيلي، حاجز الجيش اللبناني، حاجز الكتائب اللبنانية، حاجز الجيش السوري، والحاجز الأخير هو حاجز منظمة التحرير الفلسطينية، وهناك كان ينتظرنا مسؤولو المنظمة. في البداية سافرنا بسيارة أجرة. ولكن كان هناك ازدحام مروري، لأنّ الناس الذين كانوا يقطنون في بيروت الشرقية سافروا صباحا للعمل في المنطقة الصناعية في المدينة الغربية. لذلك قررنا أن نسير مشيا على الأقدام، وشعرت بخوف في تلك اللحظة. لم أخف من الفلسطينيين، ولا من ياسر عرفات. فكنا ضيوفهم ولم يكن هناك سبب للخوف.

معانقة “وحش”

ماذا كان انطباعكِ الأول؟

كانت الدهشة رد فعلي الأول. كان عرفات قصيرا، وبدا محبوبا، وبشوشا. تفاجأت، من بين أسباب أخرى، بسبب صورته التي رسمها الإسرائيليون في نظرهم. سماه بيجن [رئيس الحكومة الإسرائيلي حينذاك] “الرجل ذا الشعر على وجهه”، و “الحيوان ثنائي الأرجل”. كانت صورته أسوأ صورة يمكن توقعها. صورة وحش. ولكن وقف أمامي إنسان، من لحم ودم، مبتسما، واقترب إلي بحرارة، وعانقني بدفء، وكان يبدو طيبا. فدُهِشتُ.

“عرفتُ أنّ هذه هي المرة الأولى التي يلتقي فيها عرفات إسرائيليين، وأن اللقاء بحدّ ذاته هو إنجاز صحفي خاص.. وعرفتُ أنّ عليّ التقاط أكبر عدد من الصور، لأنّ الصور هي التوثيق الوحيد للقاء”.

لاحقا في المقابلة تصرّف بصفته دبلوماسيا وسياسيا تحديدا. رأينا في الشقة التي جلسنا فيها طفلتين، وهما ابنتا صاحب المنزل، عماد شقور. كان يبدو أن الطفلتين تحبان عرفات جدّا. فقد عانقهما بينما كانتا تجلسان على ركبتيه. فمن جهة، بدا ذلك بدافع أبوي جدا، ومن جهة أخرى، بدا كالسياسي الذي يحب تقبيل الأطفال. التقطتُ صورة لعرفات مع الطفلتين، وقد أثارت هذه الصور غضب الناس الذين تساءلوا كيف يمكن التقاط صور لذلك “الوحش” مع الأطفال.

ماذا حدث خلال اللقاء؟ ماذا كان عرفات يريد أن يقول للإسرائيليين؟

كان واضحا أنّه أراد أن ننقل رسالة مباشرة إلى الإسرائيليين، يوضح فيها أنه يرغب في صنع السلام ومستعد للحديث مع الإسرائيليين. كان يهمه أن يظهر كشريك سياسي لإسرائيل، أحد دعاة السلام بين الشعبين، وبصفته إنسانا.‎

كانت هناك أسباب سياسية – دبلوماسية دفعته إلى القيام بذلك وكانت واضحة، فهذا جزء من اللعبة. ونحن الصحافيون حققنا إنجازا صحفيا وكان هذا جزءًا من اللعبة أيضا.‎

ياسر عرفات مع ابنة عماد شقور (تصوير: عنات سرغوستي لصالح مجلة "هذا العالم" يوليو 1982)
ياسر عرفات مع ابنة عماد شقور (تصوير: عنات سرغوستي لصالح مجلة “هذا العالم” يوليو 1982)

عندما انتهى اللقاء مع عرفات، سمح لنا بلقاء طيّار كان أسيرا حينذاك بأيدي منظمة التحرير الفلسطينية، أهارون أحيعاز، وكانت هذه لفتة إنسانية جدّا. وكان اللقاء مهما جدا حقا. التقينا بعرفات، سمعناه، واستلمنا رسائل لننقلها إلى أسرته.

هل شعرتِ أن رسائله كانت صادقة؟ أم أنها كانت دعاية؟

أعتقد أنّ السياسيين يدمجون بين كلا الأمرين دائما.‎

النساء في قلب الحرب

هل يمكنكِ أن تتحدثي عن لحظة من اللقاء تتذكرينها بشكل خاص؟

كانت هناك لحظة عرض فيها عرفات الزواج على سريت يشاي، الصحافية التي كانت معي. غازلها قليلا، وكان هذا جزءًا من استقباله، ولكن استثنائيا. حينها لم يضع عرفات الكوفية الثابتة على رأسه، وإنما كان يضع قبعة. وفي مرحلة ما أزال القبعة، فنجحتُ في التقاط الكثير من الصور له دونها، وأصحبت هذه الصور نادرة. وشارك محمود درويش في اللقاء إضافة إلى عرفات أيضا. بل وتحدث عن هذا اللقاء في كتاب له عن بيروت.‎

كان وجود سرغوستي في لبنان استثنائيا. رغم أن في المجلة الأسبوعية “هعولام هازيه”، كان هناك الكثير من النساء، ففي بيروت، التي كانت منطقة حرب محاصرة من قبل الجيش الإسرائيلي، كان وجود مصوّرة في الحرب مشهدا استثنائيا جدا.

“لم تكن هناك مصورات حروب”. كما تقول عنات. “غالبا، لم يكن هناك الكثير من النساء اللواتي نقلن أحداث الحرب ومجرياتها في لبنان. في مرحلة معينة، في بداية الحرب، رفض الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، الذي وافق على دخول الصحافيين إلى لبنان، إعطاء تصاريح دخول للصحافيات. فعارضتُ بالإضافة إلى صحفيّتين فتم تغيير القرار. قبل تغيير القرار، اضطررنا إلى التسلل إلى لبنان، لأننا كنا نعارض قرار حظر دخولنا.‎

طاقم مجلة "هذا العالم" مع الطيّار أهارون أحيعاز وعماد شقور في بيروت (تصوير: عنات سرغوستي لصالح مجلة "هذا العالم" يوليو 1982)
طاقم مجلة “هذا العالم” مع الطيّار أهارون أحيعاز وعماد شقور في بيروت (تصوير: عنات سرغوستي لصالح مجلة “هذا العالم” يوليو 1982)

رجل صاحب رؤيا

اليوم بعد مرور كل هذا الوقت، ما هو رأيك في عرفات؟ هل كان يؤمن بالسلام حقا؟

هذا سؤال معقّد والإجابة معقدة أكثر. أعتقد أنّه واجه ضغوطا يصعب على الإسرائيليين فهمها، فهناك: زعماء العالم العربي، التيارات الدينية، المجتمع الدولي، وكل حراس القدس والحرم الشريف، اللاجئون، وبطبيعة الحال إسرائيل. لم يكن عرفات قادرا على العمل بشكل يرضي كل تلك الأطراف تقريبا. أعتقد أنّه كان صعبا عليه إعادة تغيير صورته من رئيس منظمة إرهابية، إلى زعيم وسياسي شرعي. فربما كان يرغب حقا في التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل وآمن أنّ ذلك ممكن. ولكن بسبب كل الضغوط، لم يستطع إيجاد الطريق وقيادة الفلسطينيين إلى إنهاء الصراع. يتطلب الأمر هناك حقا مستوى قيادة وقوة كبيرين جدا من أجل شقّ الطريق بين كل تلك الضغوط المتناقضة.‎

هل تعتقدين أن الإعلام الإسرائيلي قد ظلمه؟

بالتأكيد. لم يتعامل معه الإعلام الإسرائيلي معاملة جيدة منذ بداية الطريق. ولم يحاول حتى أن يفهم الضغوط التي كان يتعرض لها عرفات.‎ ‎ونظر إليه نظرة “الوحش” الذي حاول بيجن رسمها فحسب.

لا يمكن المقارنة بين عباس وعرفات" (تصوير: Issam Rimawi/Flash 90)
لا يمكن المقارنة بين عباس وعرفات” (تصوير: Issam Rimawi/Flash 90)

ما هو رأيكِ في القيادة الفلسطينية اليوم؟ كيف تنظرين إلى أبي مازن مقارنة بعرفات؟

لا يمكن المقارنة بينهما. فأبو مازن هو زعيم تكنوقراط، مدير. أما عرفات فكان – في الجيّد والسيّء – رجل ذا رؤيا، وقدرة بلاغية متطوّرة. كان عرفات أيقونة فلسطينية في حياته أيضا. لكن أبو مازن ليس كذلك.

أتصور أنه لو كان هنالك شريك إسرائيلي صحيح لكان بإمكان عرفات أن يقود عملية سلام تؤدي إلى تسوية سياسية. ولكن، ربما أنا مخطئة، على ضوء الضغوط التي واجهها لم يكن عرفات قادرا حقّا. أبو مازن لا يتمتع بتلك القيادة والشجاعة. إنه ضعيف ورؤيته ليست واضحة.

اقرأوا المزيد: 1302 كلمة
عرض أقل
قوات الجيش الإسرائيلي في لبنان (IDF)
قوات الجيش الإسرائيلي في لبنان (IDF)

إسرائيل تكشف عن أوامر شنّ حرب لبنان

تدمير البنى التحتية للإرهابيين والقضاء على الجيش السوري في لبنان: 33 عاما بعد اندلاع الحرب في لبنان، أرشيف الجيش يكشف عن أوامر العملية التي كانت سرّية حتى الآن

قبل 33 عاما، في 6 حزيران عام 1982، شنّ الجيش الإسرائيلي عملية “سلامة الجليل”، التي تطوّرت بعد ذلك إلى حرب لبنان، واستمرّت، في الواقع، حتى انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان عام 2000.

كان الهدف الرئيسي للعملية هو تطهير الخلايا الإرهابية الفلسطينية على الحدود الشمالية وإيقاف إطلاق القذائف والكاتيوشا باتجاه بلدات شمال إسرائيل. كان محرّك بدء العملية هو اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، شلومو أرجوف، ولكن الوثائق تكشف أنّ الأوامر قد وُزّعت داخل الجيش الإسرائيلي قبل شهرين من ذلك، في شهر نيسان.

ويكشف نشر الوثائق اليوم (الخميس)، بمناسبة مرور 33 عاما على اندلاع الحرب، أيضًا الخطط القتالية للجيش الإسرائيلي والسيناريوهات المختلفة التي توقّع مواجهتها خلال القتال. سُمّيت أوامر البدء بالعملية “أورانيم”، واشتملت، في المرحلة الأولى، على إنزال القوات من الجوّ للاستيلاء على أراض في جنوب لبنان، في منطقة “الليطاني” و “الزهراني” وفي فتح لاند حتى خطوط “كوكبا” و “جبل وسطاني”. في المقابل تم التخطيط للتقدّم بالقوات في السهل الساحلي لتطويق مدينة صور. وفقا للخطّة، طمح الجيش الإسرائيلي في المرحلة الأولى إلى تولّي أمر الإرهابيين وتدمير بناهم التحتية، مع تجنّب القتال المبكّر ضدّ السوريين.

رايس الحكومة بيجن ووزير الدفاع شارون عام 1982 (IDF)
رايس الحكومة بيجن ووزير الدفاع شارون عام 1982 (IDF)

وتكشف الوثائق التي كشف عنها أرشيف الجيش الإسرائيلي أيضًا كيف قرّر وزير الدفاع، أريئيل شارون، ورئيس الأركان، رفائيل إيتان، معًا أهداف العملية التي اشتملت على الإيقاف التامّ لقصف البلدات في إسرائيل من الأراضي اللبنانية، انسحاب القوات السورية من جنوب البقاع اللبناني ومن المنطقة الواقعة بين بيروت وزحلة، التصفية الجسدية للإرهابيين، الجناح السياسي والجناح العسكري لهم وإقامة حكومة ذات سيادة في لبنان تعيش في سلام مع إسرائيل.

وقد فصّلت أوامر العملية الأهداف التالية: “سيدمّر الجيش الإسرائيلي الإرهابيين والبنى التحتية في غضون 24 ساعة، ينضم إلى المسيحيين في منطقة بيروت في غضون 48 ساعة، يحتلّ بيروت خلال 96 ساعة ويكون على أهبة الاستعداد لتدمير الجيش السوري”.

وقد فُصّلت بعد ذلك أيضًا طرق العمل: “سيتم احتلال لبنان بهجمة متدرّجة بمساعدة جوّية وبحرية على ثلاثة مراحل أساسية”، كما جاء في الوثيقة التي عُرّفت وقتذاك بأنّها سريّة للغاية، “في نفس الوقت يؤدي إنزال القوات من البحر والجوّ ليلا إلى الاستيلاء على المناطق المفتاحية وتطويق صيدا من قبل قوات يتم إنزالها من الجوّ بقوة عسكرية”.

اقرأوا المزيد: 326 كلمة
عرض أقل
معبر الحدود بين مصر ولإسرائيل في سيناء (AFP)
معبر الحدود بين مصر ولإسرائيل في سيناء (AFP)

خمس لحظات امتحان حاسمة في تاريخ معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر

عرفت السنوات الست والثلاثون التّي مرت منذ توقيع المعاهدة في حديقة البيت الأبيض مدًّا وجزرًا، انتفاضتَين، وثورات. واجهت المعاهدة خمسة مفترقات طرق حاسمة شكّلت محكًّا هدّد مُستقبلها، لكنها بقيت صامدة رغم كلّ شيء

سريعًا جدًّا، مرّت لحظات الغبطة التي رافقت توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 26 آذار 1979. حلّ الارتياب محلّ آمال تطبيع العلاقات بين الشعبَين، وأضحى التفاؤل خوفًا.

علَّمَنا التاريخ الإقليميّ أنّ الشرق الأوسط مكان غير متوقَّع وغير مستقرّ. داخل كلّ فوضى الثّورات، الحروب، سفك الدماء، والتظاهرات الكبرى، لم تتخذ الدعوات المتكررة إلى إلغاء أو على الأقل “إعادة دراسة” الاتّفاقات أيّ طابع رسميّ أبدًا. حتّى كتابة هذه السطور، بدت معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر إحدى آخر الصخور الثابتة المتبقّية في الشرق الأوسط.

1981 – اغتيال السادات

أتى المحكّ الأول لاتّفاق السلام في 6 تشرين الأول 1981، بعد عامٍ ونصف من دخول الاتّفاق حيّز التنفيذ. خشيت إسرائيل من أنّ منفّذي عملية الاغتيال الذين نزلوا من الآلية العسكرية خلال مسيرة إحياء الانتصار في حرب تشرين 1973، لم يقتُلوا الرئيس فقط، بل كلّ موروثه أيضًا.

اغتيال السادات (MAKARAM GAD ALKAREEM / AFP)
اغتيال السادات (MAKARAM GAD ALKAREEM / AFP)

“السؤال المركزي المطروح الآن مع اغتيال الرئيس السادات هو إلى أيّ حدّ ستستمرّ السياسة التي وضع أسُسها بعد وفاته”، كُتب في اليوم التالي للاغتيال في صحيفة “دافار” الإسرائيلية، التي حذّرت من أنّ “تجربة الماضي غير البعيد تُثبت أن تبادُل السلطة في مصر أدّى إلى تغيير جوهريّ في الخطّ السياسيّ”. مع ذلك، ساد التقدير أنّ وريث السادات، محمد حسني مبارك، معنيّ بالحفاظ على الاتّفاق، وهو ما حدث فِعلًا.

اهتمّ مبارك طوال السنين بالحفاظ على معاهدة السلام، لكنّه لم يتحمّس يومًا للتقريب بين الشعبّين حقًّا. فخلافًا لسلَفه، تجنّب مبارك زيارة إسرائيل، باستثناء زيارته اليتيمة عام 1995، للمشاركة في تشييع إسحاق رابين.

1982 – حرب لبنان

صيفَ العام 1982، اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان بهدف التخلُّص من خطر الصواريخ على حُدودها الشماليّة، وطرد منظمة التحرير الفلسطينية المتحصّنة في بيروت، فواجهت معاهدة السلام وضعًا إشكاليًّا. كلّما تقدّمت القوّات الإسرائيليّة في عُمق لبنان، كانت صورة إسرائيل تصبح أكثر اسودادًا لدى الشعب المصري. أمّا القشة التي قصمت ظهر البعير فكانت المجزرة التي نُفّذت في مُخيَّمَي اللاجئين الفلسطينيين صبرا وشاتيلا، التي أدّت بالحكومة المصرية إلى سحب سفيرها في إسرائيل وإعادته إلى القاهرة، بهدف التشاوُر.

جنود اسرائيليون في بيروت خلال حرب 1982 (Wikipedia)
جنود اسرائيليون في بيروت خلال حرب 1982 (Wikipedia)

“لن تُستأنَف العلاقات مع إسرائيل ما دام لبنان مُحتلًّا”، قال مبارك للصحفيين الإسرائيليين، ملمحًا إلى أنه سيدعو ياسر عرفات، عدوّ إسرائيل الذي كان قد طُرد من لبنان، للاجتماع به في القاهرة. وصرَّح الرئيس المصري أنه رغم اتّفاقات السلام، فإنّ الإسرائيليين لا يزالون “أسرى الحرب والعداء”. كان الجوّ في إسرائيل متوتّرًا، وأنبأت عناوين الصُّحف أنّ العلاقات الإسرائيلية – المصرية “عادت إلى نقطة الصفر”.

رغم ذلك، تمّ رأب الصدع بين الجانبَين، الذي نتج عن ابتداء حرب لبنان. انسحبت إسرائيل من بيروت إلى “القطاع الأمني” جنوب لبنان، وابتعدت مصر مجدّدًا عن منظمة التحرير الفلسطينية، حتّى إنها أعلنت أواخر الثمانينات عن إغلاق مكاتبها في القاهرة. في تلك الأثناء، عُيّنَ محمد بسيوني سفيرًا لمصر لدى إسرائيل، وعكف على توطيد العلاقة بين البلدَين لسنوات.

1996 – الجاسوس الزائف

حتّى الدول الصديقة تتجسّس إحداها على الأخرى، ووثائق وكالة الأمن القومي الأمريكي (NSA) خير دليل على ذلك. لكنّ حالة عزّام عزّام كانت مختلفة، وبدا أنّ الأمر كان خطأً كاد يؤدي إلى أثمان سياسية باهظة. تفجّرت الفضيحة عام 1996، بعد عقد ناجح من العلاقات بين مصر وإسرائيل، إذ تحسّنت جراء التوقيع على الاتّفاقات بين إسرائيل من جهة ومنظمة التحرير الفلسطينية والأردن من جهة أخرى.

محاكمة عزام عزام عام 1997 (MOHAMMED AL-SEHITI / FILES / AFP)
محاكمة عزام عزام عام 1997 (MOHAMMED AL-SEHITI / FILES / AFP)

اعتُقل عزّام، الذي كان يسافر بشكل متكرّر إلى مصر كممثّل لشركة النسيج الإسرائيلية التي عملت بالتعاون مع مصانع مصرية، في القاهرة في تشرين الثاني 1996. اعترَف عماد الدين إسماعيل، أحد عامِلي النسيج المصريين، الذي سافَر لدورات استكمال في إسرائيل، أنّ الموساد جنّده، وأثار شكّ السلطات بعزّام.

لأيّام، رفضت السلطات المصرية أن تعترف بأنها احتجزت عزّام. بعد أسبوعَين تطرّق الرئيس المصري، محمد حسني مبارك، إلى القضية للمرة الأولى قائلًا: “إسرائيل تنكر أنها مرتبطة به، لكنّ الجاسوس اعترفَ بكلّ شيء”.

في محاكمة عزّام عزّام، عُرضت الأدلّة “المُدينة”: قطعتان من الملابس الداخلية وأنبوبا دهان من “الحبر السري” استُخدما لنقل رسائل سرية كُتبت على الملابس الداخلية. حُكم على عزّام، الذي أنكر التهم، بـ 15 عامًا من السجن مع الأشغال الشاقّة.

نقل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو رسالة صارمة إلى الرئيس مبارك. وقد اتّخذ نتنياهو هذه الخطوة بعد الحصول على توضيحات واضحة من الاستخبارات بأنّ عزّام ليست لديه أية صلة بالموساد أو بأية هيئة استخباريّة. عبّر نتنياهو عن دهشته من الخطوة المصرية، وانتقد السلطات في مصر. أمّا مبارك فقال إنه لن يعفو عن عزّام.

في نهاية المطاف، أُطلق سراح عزّام مقابل الإفراج عن عدد من الأسرى المصريين المسجونين في إسرائيل إثر محاولتهم تنفيذ عملية إرهابية. وينفي عزّام، الذي يعيش اليوم حرًّا في إسرائيل، كونه جاسوسًا حتّى الآن.

2000‏ – انتفاضة الأقصى

أدّى صعود أريئيل شارون إلى المسجد الأقصى في أيلول 2000، والانتفاضة الدموية التي تلته، إلى التدهور الكبير التالي في علاقات البلدَين. وما صبّ المزيد من الزيت على النار كان فضيحة القتل المروِّع للطفل محمد الدرّة من قطاع غزة، أمام أعيُن الكاميرات. أوعزت مصر، التي اتّهمت إسرائيل بجريمة القتل، إلى سفيرها المخضرَم محمد بسيوني بالعودة إلى القاهرة.

تفريق مظاهرة فلسطينية في المسجد الأقصى (Flash90/Sliman Khader)
تفريق مظاهرة فلسطينية في المسجد الأقصى (Flash90/Sliman Khader)

في الفترة نفسِها، شعر الإسرائيليون بالإهانة بشكل خاصّ من الأغنية الشعبية للفنان شعبان عبد الرحيم، “أنا بكره إسرائيل”، التي مثّلت أكثر من أيّ شيء آخَر التباعُد بين الشعبَين. من جهتهم، شعر المصريون بالإهانة من تقليد الممثّل الكوميدي الإسرائيلي إيلي يتسفان الهازئ بالرئيس مبارك، والذي أظهره رجلًا غبيًّا.

في العلَن، أطلقت السلطات المصريّة تصريحات لاذعة حول مسؤولية إسرائيل عن سفك الدم. لكن وراء الكواليس، لم تتوقّف مساعي التهدئة. عام 2003، جرى التوصّل، بوساطة مصرية، إلى اتفاق الهدنة الأوّل. حتّى بعد وفاة ياسر عرفات نهاية 2004، نجحت مصر في جعل الجانبَين يتوصّلان إلى تهدئة.

لمدّة خمس سنوات تامّة، حتّى عام 2005، لم يكن لمصر سفير في تل أبيب. فرغم التعاون الأمني الوطيد بين الجيشَين، أصرّ المصريون على ألّا يبدوا متحمّسين للتطبيع. وحدها مبادرة أريئيل شارون بالانسحاب من قطاع غزة أدّت إلى تغيير التوجّه المصري، وإعادة تعيين سفير، هو محمد عاصم إبراهيم، الذي عمل بدأب على تحسين العلاقات بين الدولتَين.

2011‏ – الثورة والهزّة

نجم الخوف الأكبر على الإطلاق على الاتّفاق من الثورة المصرية في شباط 2011. فكلما ازدادت التظاهُرات المضادّة للنظام في ميدان التحرير، ازداد القلق في إسرائيل من احتراق اتفاق السلام. ورغم وعود ضبّاط الجيش المصري وراء الكواليس بأنّ الاتّفاق لن يُمسّ، خشيت إسرائيل من حدوث سيناريو تطالب فيه الجموع بإلغائه، أو الأسوأ من ذلك – ارتقاء حكومة إسلامية متطرفة السلطة والإعلان عن إلغائه.

في أيلول 2011، هاجمت الجماهير مبنى السفارة في القاهرة، ما جسّد لكثيرين في إسرائيل القلق الكبير من دفع جماهيري لإلغاء الاتّفاق. سيطر الجموع على مبنى السفارة، وسلبوا محتوى المكاتب. كان رجال الأمن الإسرائيليون في السفارة في خَطَر، وأنقذهم الجيش المصري بعد ضغوط أمريكية على النظام العسكريّ المصري. في أعقاب ذلك، أعيد إلى إسرائيل السفير، عمّال السفارة، وأفراد أُسَرهم.‏

متظاهر مصري (PEDRO UGARTE / AFP)
متظاهر مصري (PEDRO UGARTE / AFP)

ما دام المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة يمسك بزمام الأمور، كانت إسرائيل تتنفّس الصعداء، فرحةً باستمرار التعاوُن السري. لكنّ انتخابات حزيران 2012 أثارت مجدّدًا موجة من القلق. فصعود الإخوان المسلمين إلى السلطة أدّى بكثيرين في إسرائيل إلى التساؤل كيف سيتصرف محمد مرسي، الرجل الذي قال إنّ “الصهاينة يتحدّرون من القرَدة والخنازير”.

كان المحكّ الأهمّ لتلك الحقبة عملية “عمود السحاب” في قطاع غزة، مطلع عام 2013. في الغالب، حين كانت إسرائيل تهاجم التنظيمات الإرهابية في غزة، كانت تتمتّع بالدعم الكامل (في الخفاء) لمصر وجيشها. ولكن الآن، كانت تحكم مصر حركة الإخوان، راعية حماس، عدوّ إسرائيل.

في بيانٍ نشره الإخوان مع ابتداء العملية العسكرية واغتيال القائد في حركة حماس، أحمد الجعبري، قيل إنّ “على دولة الاحتلال أن تدرك أنّ التغيير الذي جرى في المنطقة العربية، ولا سيّما في مصر، لن يتيح وضع الشعب الفلسطيني تحت عبء العدوانيّة الإسرائيلية كما جرى في الماضي”. بدا أنّ أسوأ المخاوف حدث.

لقاء بين مرسي وخالد مشعل في القاهرة ( (AFP)
لقاء بين مرسي وخالد مشعل في القاهرة ( (AFP)

لكن في نهاية المطاف، حتّى مرسي أدرك أنّ موقعه رئيسًا لمصر يلزمه بالبراغماتية والتعاوُن. فاتّفاق وقف إطلاق النار الذي أُحرِز في نهاية القتال عكس أيضًا المساعي المصرية للتهدئة، لا الإشعال. حتّى وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، الذي لا يُعرَف باعتداله، قال علنًا حينذاك إنّ “الرئيس مرسي يستحقّ كلمة شكر بسبب الموقف غير السهل. آمل أن يكون ذلك دلالةً على التعاوُن في المُستقبَل”.

بعد ذلك، أُلقي مرسي في السجن، ويبدو في الوقت الراهن أنّ عبد الفتّاح السيسي سيبقى الرجل القويّ في مصر لسنواتٍ قادمة. ما زالت الجموع في مصر لا تفتح ذراعَيها لاحتضان إسرائيل، كما كان الأمل قبل 36 عامًا. لكن في محكّ الواقع، لا تزال مصر تقول “نعم” للمسار الذي بدأ حينذاك، الخطوة الأولى في العمليّة الصعبة لاندماج إسرائيل في الحيّز الشرق أوسطيّ.

اقرأوا المزيد: 1261 كلمة
عرض أقل