قال “وينستون تشرتشل” ذات مرة، أن الدبلوماسي هو الذي يفكر مرتين قبل أن لا يقول أي شيء. من المؤكد أن تشرتشل كان صادقًا، ولكن لكل قاعدة استثناء. سواء كنا نتحدث عن بنيامين نتنياهو، حاييم هرتسوج أو هنري كيسنجر، فإن الدبلوماسيين الذين يتركون تأثيرًا على العامة، هم أولئك الذين يخرجون عن التقاليد المتبعة.
حاول جون بولتون، الذي تولى عدة مناصب على مدار 30 عامًا، أن يُحدث بعض التغيير ويترك بعض العلامات المؤثرة، وهو لم يعمل كدبلوماسي متخصص في “إطفاء الحرائق” كما هي العادة. وهذا الأسلوب الذي يتبعه بولتون، جعله محبوبًا في أوساط اليمين الأمريكي، ولكن جعله، في نفس الوقت، يتعرض إلى لكثير من الانتقادات من جانب الحزب الديمقراطي.
وتبنى بولتون في المناصب والوظائف التي تولاها ومن بينها: مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الدولية (1989ـ1993)، نائب وزير الخارجية لمراقبة التسلح (2001ـ2005)، سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة (2005 ـ 2006)، أسلوبًا متشددًا فيما يتعلق بالموضوع الإيراني والكوري الشمالي. وكذلك بالنسبة للموضوع السوري والعراقي، ولم يخف تأييده غير المحدود لإسرائيل. وكان بولتون خلال عمله في إدارة الرئيس يوش الأب، من العناصر المركزية التي ساهمت في إلغاء قرار الأمم المتحدة من العام 1975 والذي يساوي الصهيونية بالعنصرية. وكانت تخشى إسرائيل في حينه أن لا تستطيع تجنيد الأكثرية المطلوبة للتصويت على القرار. لكن بولتون أعتقد بأنه بالإمكان ضمان أكثرية تصوّت لصالح إلغاء قرار الأمم المتحدة حول الصهيونية. وبالفعل وبعد حملة استمرت عدة أشهر، صادقت الأمم المتحدة على قرار يلغي القرار السابق حول الصهيونية، وذلك بأغلبية 111 من المؤيدين مقابل 25 معارضًا وامتناع 13 وعدم حضور 15 دولة.
ومع بداية المفاوضات في جنيف بين ممثلي الدول العظمى وإيران حول البرنامج النووي الإيراني والعقوبات الدولية التي فُرضت على طهران، أجرينا لقاءً، الأسبوع الماضي، مع السفير بولتون للتعرف على موقفه من المفاوضات وبرنامج إيران النووي وسياسة إدارة أوباما في الشرق الأوسط. وكذلك التعرف على الطريقة التي يجب على إسرائيل اتباعها في تعاملها مع المشروع النووي الإيراني. وفيما يلي نص المقابلة:
السفير بولتون، ما هي توقعاتك حول المفاوضات التي بدأت خلال الأسابيع الأخيرة في جنيف بين ممثلي الدول الست العظمى وإيران؟
أعتقد أن إدارة أوباما تعتقد أن باستطاعتها دفع إيران نحو وقف المشروع النووي من خلال المفاوضات. وقد تبنى أوباما هذا الموقف، حتى قبل وصوله إلى الرئاسة. وهو موقف أعلنه أوباما بصراحة في خطاب التنصيب، عندما أكد أن الولايات المتحدة ستمد يدها لإيران وكوريا الشمالية في حال أظهر الطرفان الإيراني والكوري الشمالي رغبة في ذلك. وعلى ما يبدو فإن أوباما ما زال يؤمن بإمكانية التوصل إلى اتفاق مقبول. ولكن الحقيقة هي أنه يمكن دائمًا الوصول إلى اتفاق في حال خضع أحد الأطراف لموقف الطرف الآخر، وأنا أخشى أن ذلك ما سيحدث وأن الولايات المتحدة وأوروبا ستخضعان لإيران.
الرئيس الإيراني روحاني (شمال) بجانب وزير الخارجية جواد ظريف (AFP)
هل تلاحظ أي تراجع في الموقف الغربي تجاه مشروع إيران النووي؟
منذ أن بدأت أوروبا بالتفاوض مع إيران حول برنامجها النووي قبل حوالي 10 سنوات، كان الموقف الأوروبي الواضح والمعلن في هذه المفاوضات، هو ضرورة أن تقوم إيران بتجميد كل نشاط ممكن يتعلق بتخصيب اليورانيوم. وهذا الموقف والمطلب ما زالا قائمان حتى اليوم ووردا أيضًا في العديد من القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن. لكن، أوباما والدول الأوروبية باتوا اليوم يوافقون على فكرة أن تمتلك إيران ما يطلقون عليه اسم “البرنامج النووي غير العسكري” [“peaceful nuclear program”]. وبهذا الطرح الجديد يتراجعون عن مطلبهم السابق، وأعتقد أن إيران تدرك ذلك. على سبيل المثال، تدرك إيران، أن تخصيب اليورانيوم إلى مستوى الانصهار يجعلها تقطع ما نسبته 70% من الطريق نحو تخصيب اليورانيوم إلى مستوى الاستخدام العسكري. وأعتقد أنه لا يوجد ما يمكن تسميته بالتفاوض حول تخصيب اليورانيوم إلى درجة 20%، لأن ذلك خارج الإطار المهم. ولا يوجد شيء اسمه يورانيوم شبه مخصب، فإن الإيرانيين على استعداد للتنازل عن ذلك، مقابل الاعتراف بحقهم في تخصيب اليورانيوم إلى مستوى انصهار بنسبة 3.5%، وهذا سيكون انتصارًا كبيرًا للإيرانيين.
وأعتقد أن ما دفع وشجع إيران للتفاوض، هو رغبتها في تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. لم تؤثر العقوبات على برنامجها النووي، كما أن جيمس كلافر، مدير الاستخبارات الوطنية في إدارة أوباما، تحدث عن ذلك في وقت مبكر من هذا العام. وأعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أكثر من مرة، أن العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على إيران، لم تساهم في تعطيل البرنامج النووي الإيراني. لكن كان لهذه العقوبات تأثيرًا سلبيًا كبيرًا على الاقتصاد الإيراني. ولهذا السبب تسعى طهران إلى تخفيف العقوبات المفروضة عليها، ويبدو أن الغرب سيكون مستعدًا للاستجابة لهذه الرغبة الإيرانية. ونحن نرى كيف أن البريطانيين متحمسون للغاية لإعادة فتح السفارة البريطانية في طهران ويتجهون نحو استئناف استخراج النفط من حقول النفط المشتركة مع إيران والتي يمتلكونها في البحر الشمالي. وعلى ما يبدو فإن الجانب الأوروبي متحمس للتنازل عن العقوبات المفروضة عليه.
هل تعتقد أن الغرب اختار أن يمنح إيران مكاسب دراماتيكية دون أن يحصل على أي شيء بالمقابل؟
ماذا يجب على الإيرانيين أن يقدموا بالمقابل؟ هل سيكون عليهم أن يتعهدوا للمرة الألف أن برنامجهم النووي ليست له أهداف عسكرية، وأن يوافقوا على زيادة متواضعة في الرقابة والإشراف الدولي. أعتقد أنه في حال تمخضت الاتصالات الدائرة بين إيران والغرب عن مثل هذا الاتفاق، فإنه سيكون عبارة عن اتفاق مصالحة لا أكثر. وأعتقد أن إدارة الرئيس أوباما التي تواجه انتكاسات في سياستها الخارجية في العديد من الأماكن في الشرق الأوسط: سوريا، ليبيا وأماكن أخرى، باتت تبحث اليوم عن أي إنجاز يمكن أن تصفه انتصارًا ونجاحًا.
لذلك، أعتقد أن التأثير العام لمثل هذا التوجه تجاه إيران، سيكون تأثيرًا سلبيًا جدًا بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل ولأصدقاء الولايات المتحدة من العرب. وإذا أردت مثالا على هذا التأثير السلبي، يكفي أن نشير إلى موقف السعودية التي رفضت الحصول على مقعد غير دائم في مجلس الأمن. وأنا لا أعرف سابقة مشابهة أقدمت فيها دولة من الدول على رفض مقعد من المقاعد غير الدائمة في مجلس الأمن. وأعتقد أن هذا الموقف السعودي يأتي ردًا على فشل مجلس الأمن وبشكل واضح فيما يتعلق بالأزمة السورية. وكذلك بالنسبة لإيران، حتى لو لم تتحدث السعودية بصورة واضحة بالنسبة لإيران. كما أن القدرات النووية العسكرية الإسرائيلية والقائمة منذ وقت طويل، لم تُغضب السعودية، وإنما الشيء الذي يُغضب السعودية هو البرنامج النووي الإيراني. وهناك أيضًا التقرير الإعلامي الذي تحدث عن أن السعودية ترغب في الابتعاد عن الولايات المتحدة.
وبهذا الشكل، فإن إدارة الرئيس أوباما تفقد صداقتها مع العرب، وهذا سيفتح الباب أمام الروس. وبات التأثير الروسي في الشرق الأوسط أكبر بكثير من التأثير الذي كان قائمًا قبل أن يقوم أنور السادات بطرد المستشارين الروس من مصر. وسنشهد خلال الفترة المتبقية من ولاية الرئيس أوباما مزيدًا من التأثير الروسي في الشرق الأوسط. وهذا الأمر سيؤثر سلبًا على المصالح الأمنية للولايات المتحدة وإسرائيل وعلى أصدقاء أمريكا من العرب.
مفاعل بوشهر النووي (AFP PHOTO/ATTA KENARE)
إلى أين تتجه الأمور حسب رأيك؟
أعتقد أنه في حال لم يتم توجيه ضربة عسكرية وقائية ضد برنامج إيران النووي، فإن إيران ستتمكن من امتلاك قدرات نووية عسكرية، وستحصل على هذه القدرة العسكرية في الوقت الذي تختاره. كما أن إيران لا ترغب في بناء سلاح نووي واحد أو سلاحين، وإنما تسعى إلى بناء بنية تحتية نووية واسعة وعميقة، وخاصة أنهم يعتقدون أن لديهم الوقت الكافي لتحقيق ذلك. كما أن الإيرانيين لا يؤمنون بتهديدات أوباما، عندما نتحدث عن أن جميع الخيارات على الطاولة. بالإضافة إلى أن الجميع يدركون جيدًا أن فرص لجوء أوباما إلى الحلول والقوة العسكرية هو أمر غير وارد على الإطلاق.
حضرة السفير بولتون، إذا ما افترضنا أن ضربة أمريكية ضد إيران أمر غير وارد، هل على إسرائيل العمل بصورة مستقلة؟
أعتقد أن الشيء الوحيد الذي يقف أمام امتلاك إيران للسلاح النووي، هو الخوف من أن تتعرض لهجوم إسرائيلي. وقد لا تمانع إدارة الرئيس أوباما في قبول إيران كدولة نووية. كما أن نظرة النظام الإيراني إلى الأمور تختلف عن نظرة السوفييت في أيام الحرب الباردة. وهناك أيضًا الاقتباس المشهور عن برنارد لويس، والذي استعان به نتنياهو في خطابه أمام الجمعية العامة في العام 2012، هذا الاقتباس الذي يقول بأنه في حال كنت تتطلع إلى الحياة بعد الموت أكثر من الحياة على وجه الأرض، فإن التهديد بالرد يعتبر ذريعة وليس أمرًا رادعًا. وأعتقد أن هذا ما يؤمن به النظام الإيراني أيضًا.
وأنا لا أرى أي رادع ضد إيران النووي حيث يمكن الاعتماد عليه. وحتى لو كنت مخطئا، في هذه النقطة، وحتى لو كان بالإمكان ردع إيران وحتى استيعاب فكرة تحوّلها إلى دولة نووية، فإن الحقيقة أن هذا الأمر لن يتوقف عند إيران. وهذا ما أكدته أيضًا هيلاري كلينتون قبل حوالي عام، عندما أكدت بأن امتلاك إيران للسلاح النووي سيدفع السعودية نحو البحث عن امتلاك القدرة النووية. وهذا سينطبق أيضًا على مصر وتركيا بالإضافة إلى العديد من الدول الأخرى. وهذا سيؤدي مؤكدًا إلى سباق تسلح نووي ينتهي وخلال فترة قصيرة نسبيًا، لا تتجاوز الـ 5 أو 10 سنوات، إلى تحوَل نصف الدول في المنطقة إلى دول نووية. وسيجعل منطقة الشرق الأوسط أكثر خطورة وسيضاعف حالة عدم الاستقرار التي تعاني منها هذه المنطقة. لذلك، من المهم العمل وكخطوة أولى على منع إيران من تجاوز الخط الذي يُسمح لها بامتلاك القدرات النووية العسكرية وإلا ستتحوّل هذه المسألة والمشكلة إلى أمر أكثر خطورة وصعوبة.
هل يجب على إسرائيل أن تقوم بكل ما بوسعها؟
نعم، وإلا سيتعيّن على إسرائيل التعامل مع إيران نووية. على الرغم من أنني لا أعتقد أن النظام الإيراني سيبادر إلى التسبب بمحرقة نووية، وهو الوصف الذي أطلقه شارون، إلا أن الحقيقة أن إيران نووية ستساهم في تغيير موازين القوى في المنطقة. فإيران نووية يمكنها أن تملي ما ترغب به على الدول في الخليج، على سبيل المثال، ماذا يمكن أن تفعل دولة مثل الكويت في حال طلبت منها دول نووية كإيران بتقليص إنتاج النفط إلى 50% نزولا عند رغبة طهران في رفع أسعار النفط.
صحيح أن العديد من الأطراف يشعر بالقلق ـ وهو قلق مبرر ـ حيال التأثيرات التي يمكن أن تكون لهجوم وقائي إسرائيلي أو أمريكي (ارتفاع أسعار النفط والعديد من التأثيرات الأخرى)، لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح، ماذا سيحدث في حال لم تُتخذ خطوات حقيقية ضد إيران ولم يتم مهاجمتها، وبالمقابل في حال تمكنت من امتلاك سلاح نووي؟ والاختيار هو ليس بين العالم الذي نعيشه اليوم وبين العالم بعد هجوم وقائي ضد إيران. وإنما يجب أن يكون الاختيار بين العالم كما هو عليه بعد هجوم وقائي واستباقي تقوم به إسرائيل مقابل العالم الذي تكون فيه إيران صاحبة قدرات عسكرية نووية. صحيح أن هذا الاختيار ليس جذابًا ولكن الحقيقة أن هذا هو الاختيار.
لو كنت صاحب القرار في إسرائيل، هل كنت ستؤيد مهاجمة المواقع النووية الإيرانية؟
نعم بالتأكيد، كنت سأدعم القيام بهجوم استباقي ووقائي، وهذا ما كان يجب أن يحدث منذ 5 سنوات، لأنه كلما طالت مدة الانتظار، كلما ازدادت فرص وإمكانية إيران على امتلاك قدرات لا يعلم أحد عنها شيئا. وإذا ما أردنا أن نتعلم شيئًا من العشر سنوات الماضية، فهو أنه علينا أن نتعامل بتواضع مع قدراتنا الاستخبارية. على سبيل المثال، لا أحد يعلم ما طبيعة التعاون بين إيران وكوريا الشمالية في الموضوع النووي. نحن نعلم أن هناك بعض التعاون الذي كان بين كوريا الشمالية وإيران في موضوع الصواريخ البلاستية وهناك لدى الطرفين الإيراني والكوري الشمالي تكنولوجيا صواريخ سوفيتية، وهي صواريخ سكاد، وترغب الدولتان في امتلاك صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية. ومن الطبيعي أن نفترض أنه في حال كان هناك تعاون في موضوع الصواريخ فإن من البديهي أن يكون هناك تعاون في الموضوع النووي.
ويجب أن أشير هنا، على سبيل المثال، أنه ليس هناك من سبب يمنعنا من الاعتقاد بأن إيران ساهمت في تمويل المفاعل النووي السوري الذي قامت كوريا الشمالية ببنائه وتم تدميره في شهر أيلول من العام 2007. وحتى لو أعتقدنا بأن إسرائيل تمتلك قدرة استخبارية عالية في إيران فإنها تفتقر إلى مثل هذه القدرة في كوريا الشمالية. فهناك الكثير من الضبابية وعدم الوضوح في الرؤية بالنسبة لما يتعلق بما تقوم به إيران، وكل يوم يمر يزيد من خطورة وإمكانية نجاح إيران في تجاوز السقف الذي يفصلها عن امتلاك القدرات النووية. وهذا يعني أن الرد الإيراني على أي هجوم إسرائيلي لن يكون عبر اطلاق صواريخ من جانب حماس أو حزب الله على إسرائيل، وإنما قد يكون ردًا نوويًا إيرانيًا، وهو أمر لا يرغب أحد في رؤيته.
وهذا يعني أن الانتظار سيكون له ثمن كبير، كما أن هذا الانتظار سيضاعف بصورة كبيرة المخاطر بالنسبة لإسرائيل.
*موقع ميدا
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني