من الصعب تحديد سلسلة الأحداث التاريخية المؤسفة التي أدت إلى استقالة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود أولمرت، وإلى إدانته بتهمة فساد ورشوة والحكم عليه بالسجن لمدة سنة ونصف السنة بعد الاستئناف على حكم سابق بالسجن لمدة 6 سنوات.
إعادة النظر في الأحداث التي كان أولمرت مسئولا عنها، خلال فترة رئاسته في الحكومة، وتصريحاته اللاذعة مؤخرًا ضد سياسة رئيس الحكومة وسياسة الحزب الحاكم، الليكود، تلقي الضوء على زوايا مثيرة للاهتمام بالنسبة للرجل الذي كان يعتبر – حتى السنوات الأخيرة – لاعبًا ثانويًا في السياسة الإسرائيلية.
الصديق إيهود، المحامي أولمرت
دخل أولمرت إلى الساحة السياسية في ستينات القرن الماضي. ومنذ أواخر الستينات حتى أواسط الثمانينات عمل أولمرت في أطر سياسية مختلفة.
انتخب في عام 1973 (في سن 28 عامًا، وهو الأصغر سنًا من بين أعضاء الكنيست حينذاك) لدورة الكنيست الثامنة، من قائمة حزب الليكود. وحتى قبل ذلك، في الستينات، عُرف أولمرت كمعارض شاب – ولكن شديد – لمسار زعيم الحزب مناحيم بيجن.
إيهود أولمرت (Yonatan Sindel/Flash90)
ادعى أولمرت – الذي لم يحصل إلا على شهادة في القانون – بشكل حاسم أنّ على الزعيم الكبير أن يستخلص الدلالة الواضحة التي أدت إلى فشله في الانتخابات وعليه أن يستقيل. وحين انتخب بيجن لرئاسة الوزراء بعد عدة سنوات، علم أولمرت أنه كان مخطئا.
ينحدر أولمرت، الابن الثالث من بين أربعة أولاد في عائلته، من عائلة صهيونية ترعرعت على قيم اليمين الإسرائيلي. اشتغل والده مردخاي أولمرت بالزراعة، وكان عضوًا في الكنيست عن حزب الحرية (وهو حزب سياسي إسرائيلي تأسس عام 1948، ومنه نشأ حزب الليكود)، وقام أولمرت بالخدمة العسكرية في لواء جولاني وكذلك في صحيفة “المعسكر”.
تحدث يوسي سريد بتهكم عن صديقه القديم، الذي كان يعطي النصائح باعتباره “الصديق إيهود”، ويقدم فاتورة الدفع باعتباره “المحامي أولمرت”
كان يكثر أولمرت في بداية حياته السياسية من التركيز على قضية مكافحة الفساد والجريمة المنظمة. وكان شريكه المذهل في مكافحة الفساد في الواقع عضو الكنيست من الحزب المنافس: يوسي سريد من حزب العمل. قال سريد مثنيًا على شريكه: “أعطى إيهود انطباعًا حيًّا عن الشاب النشيط الموهوب. إنّ التزامه تجاه مكافحة الفساد لم يغب عن بالي”.
ولكن يدّعي سريد أنه منذ ذلك الحين لاحظ وجود جوانب مظلمة في الرجل الذي كان يومًا ما رئيسًا للوزراء. قال سريد إنه أخبر صديقه أنه “قد شخّص أعراض الجشع في أولمرت، وهذا ما سوف يؤدي إلى فشله عاجلا أم آجلا”. في الواقع، وقف أولمرت أمام المحكمة بخصوص فضيحة فساد ضخمة، ولكن تمت تبرئة ساحته في معظم التهم الموجهة إليه.
أولمرت هو محامٍ، وخلال سنوات طويلة من عمله السياسي أدار في المقابل عملا له في هذه المهنة. تحدث يوسي سريد بتهكم عن صديقه القديم، الذي كان يعطي النصائح باعتباره “الصديق إيهود”، ويقدم فاتورة الدفع باعتباره “المحامي أولمرت”.
رئيس البلدية الطائر
كان التحوّل المهم في عمل أولمرت السياسي حين انتخب عام 1993 لرئاسة بلدية القدس. هزم أولمرت في هذه الانتخابات تيدي كولك، رئيس بلدية القدس الأسطوري الذي شغل المنصب لمدة 28 عامًا.
إيهود أولمرت حين شغل منصب رئيس بلدية القدس (GALI TIBBON/AFP)
ارتكب أولمرت خلال عمله كرئيس بلدية القدس، خطّا يمينيًا واضحًا حين دفع لإنشاء حيّ “هار حوما” شرقيّ القدس، وافتتاح نفق الحائط الغربي. وقد قام معارضو أولمرت باتهامه بأنه أدى إلى حصول عجز هائل في الميزانية، وترك وراءه فجوة من 534 مليون شاقلا تقريبًا، وهي نحو 8 أضعاف العجز الذي كان لدى استلامه منصب رئيس البلدية.
كما اتضح خلال محاكمته، تلقى أولمرت رشاوى بقيمة نصف مليون شاقل حين شغل منصب رئيس بلدية القدس
أجرت صحيفة مقدسية محلية تهدف إلى مراقبة الرحلات التي قام بها أولمرت خارج البلاد في فترة ولايته، وكشفت أنه خلال فترة ولايته قام بقضاء مئات الأيام في الخارج، معظمها في الولايات المتحدة. وقد سمّي التقرير “أولمرت في السماء”. ورد أولمرت على هذه الحقيقة بقوله إن هذه الرحلات لم تكن ممولة من قبل البلدية، وإنما من قبل الجهات المانحة.
وكما اتضح خلال محاكمة أولمرت في عام 2014، تلقى أولمرت رشاوى بقيمة نصف مليون شاقل حين شغل منصب رئيس بلدية القدس. ادين أولمرت في مارس 2014 بتهمة تلقي رشاوى في قضيتين منفصلتين، احداهما فضيحة العقارات الكبرى “هولي لاند” في القدس حين كان رئيسا لبلدية المدينة وادين ايضا بالادلاء بشهادة الزور لمحاولته تشويه سمعة الشاهد الرئيسي في القضية.
إيهود أولمرت حين شغل منصب رئيس بلدية القدس ( MENAHEM KAHANA/AFP)
الصعود إلى القمة
رغم أن أولمرت هاجم أرئيل شارون كثيرًا، فقد نشأت – بعد أن أصبح شارون رئيسًا للوزراء – علاقات ودية بين الرجلين. عمل أولمرت بجدّ على تثبيت موقفه باعتباره “الرجل الثاني” بعد رئيس الوزراء القوي، والذي استجاب له وعيّنه نائبا لرئيس الوزراء. ورغم دعم شارون له، ظلّ أولمرت سياسيًا غير شعبي ولا محبوب من قبل أعضاء حزبه الليكود. وكانت لذلك آثار بعيدة المدى على الخريطة الحزبية في إسرائيل.
صُنّف أولمرت بأنه “مؤشر اليسار” في الحكومة. في كانون الأول لعام 2003 صدم أولمرت – اليميني المخضرم – الجمهور الإسرائيلي حين صرّح على الملأ بأنّ على حكومة إسرائيل التخلي عن رؤية “إسرائيل الكبرى”. بعد فترة وجيزة من ذلك أعلن شارون، مع التشجيع والدعم من أولمرت، عن خطة فك الارتباط – الانسحاب من كل قطاع غزة وإخلاء المستوطنات هناك.
كان أولمرت من أوائل من دعا شارون إلى الاستقالة من قيادة الليكود وتأسيس حزب جديد، وقبل شارون التحدي، فقد انشق عن الليكود عام 2005 وأسس حزب “كاديما”. وبذلك أصبحت طريق أولمرت إلى القمة قصيرة ومدهشة.
أصيب شارون في شهر كانون الثاني عام 2006 بجلطة دماغية ودخل في غيبوبة. أثمرت جهود أولمرت أخيرًا، عبر السنين الطويلة، وذلك حين أسندت إليه رئاسة الوزراء. تسلق أولمرت على الشعبية الجماهيرية لشارون، وفاز في انتخابات عام 2006. ولكن كانت فترة النعيم التي كسبها رئيس الوزراء أولمرت قصيرة.
إيهود أولمرت (Yonatan Sindel/Flash90)
الحرب والسلام؟
فورًا وبعد أن أدت الحكومة اليمين، وُجّهت سهام النقد القاسي صوب أولمرت، وذلك حين أسند إلى عمير بيرتس – فاقد الخبرة – منصب وزير الدفاع. اشتدت الانتقادات بشكل أكبر في صيف عام 2006، وذلك بعد أن اندلعت الحرب اللبنانية الثانية في أعقاب اختطاف اثنين من جنود الاحتياط الإسرائيليين في الحدود الإسرائيلية اللبنانية.
سخر الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله – الذي أطلق آلاف الصواريخ صوب إسرائيل – من بيرتس وأولمرت سوية، ووصفهما بـ “المبتدئين”
سخر الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله – الذي أطلق آلاف الصواريخ صوب إسرائيل – من بيرتس وأولمرت سوية، ووصفهما بـ “المبتدئين”. ورغم أن إسرائيل قد كبّدت حزب الله أضرارًا كبيرة، إلا أن الحرب اعتبرت في إسرائيل فشلا كبيرًا لأولمرت. فقدَ 165 جنديًا ومواطنًا إسرائيليا حياتهم خلال الحرب.
قوات من سلاح الجو الإسرائيلي في طريقها الى تنفيذ عمليات قتالية ضد حزب الله، حرب لبنان الثانية (Flash90AbirSultan)
كان أول المنتقدين حينذاك هو زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو. “لأول مرة تنتهي حرب تبدأها إسرائيل بنفسها دون أن تنتصر فيها”، أدان نتنياهو أولمرت، ووصف حكومته بـ “قليلة الخبرة”.
ولكن ظلت حكومة أولمرت مستقرة رغم الإدانات القاسية. لم يُلق تقرير لجنة التحقيق التي حققت في أداء الحكومة، لجنة فينوغراد، لم يُلق المسؤولية الشخصية على أولمرت. وعلى الرغم من ذلك، قال أعضاء اللجنة بأنهم يتوقعون – رغم عدم التوصية بذلك بشكل صريح – أن يستخلص أولمرت النتائج المطلوبة ويستقيل.
عمير بيرتس، إيهود أولمرت ودان حالوتس (DAVID FURST / AFP)
فاجأ أولمرت في تشرين الثاني لعام 2007 المجتمع الدولي، وحضر مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى مؤتمر أنابوليس في الولايات المتحدة، وهو مؤتمر استأنف من جديد المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
هل يعود أولمرت للسياسة؟ إدانته أنهت هذا الإحتمال، فمن الصعب أن يغفر الجمهور الإسرائيلي عن أعمال الفساد التي قام بها
كانت المقترحات التي قدمها أولمرت للقيادة الفلسطينية بعيدة المدى. بحسب أقواله، فقد قدم للفلسطينيين اقتراحا “لم يُقدمه من قبل أي رئيس وزراء سابق”. ووفق التقارير فإنّ الاقتراح قد شمل مساحة تقترب من 100% من أراضي الضفة الغربية. وشملت الخريطة التي اقترحها أولمرت أيضا تقسيم القدس، تفاصيل حول أحياء القدس الشرقية التي سوف يتم تحويلها للفلسطينيين و”تدويل” البلدة القديمة.
ولكن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لم يستجب أبدًا لهذا الاقتراح. وفي غضون ذلك، أدت الاتهامات الصعبة التي وُجّهت إلى أولمرت بشأن الفساد الحكومي، إلى تقصير مدة ولايته.
سحابة من الشكوك
ارتبط ما لا يقل عن سبع حالات من الفساد باسم أولمرت؛ ابتداء من الاشتباه به بأنه نال خصمًا على منزل اشتراه مقابل الحصول على تسهيلات ضريبية للشركة، مرورًا باتهامه بالتعيينات السياسية وتغيير مزاد بيع البنك “الوطني”، وانتهاء باتهامه بأنه تلقى مغلفات من رشوة نقدية من رجل الأعمال موشيه تالانسكي.
اضطر شركاء أولمرت بعد كل ذلك إلى إجباره على الاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء. وأعلن أولمرت عام 2008 بأنه لن يحاول ترشيح نفسه مجددًا لنفس المنصب، وفي عام 2009 حلّ مكانه بنيامين نتنياهو، الذي قاد حزب الليكود للفوز في الانتخابات. وتلاشى حزب أولمرت، كاديما، الذي فاز – بقيادته – بـ 28 كرسيًا، وفاز في الانتخابات الأخيرة بمقعدين فقط.
إيهود أولمرت وتسيبي ليفني في الكنيسيت (Olivier Fitoussi /Flash90)
ولكن في نهاية المطاف لم تكشف غالبية الاتهامات التي وُجّهت لأولمرت عن شيء. أغلقت معظم الملفات من قبل النيابة العامة والشرطة، وتمت تبرئة أولمرت من ملف القضية التي اتهم فيها بتلقي الرشوة، وهو ملف تالانسكي.
ومع ذلك، بقي أولمرت متهمًا بخيانة الأمانة في قضية التعيينات السياسية بمركز الاستثمار، وكما ذلك أدين أولمرت بما سمّي “قضية هولي لاند”؛ وهي قضية فساد ضخمة تتعلق بمشروع عقارات في القدس.
وقد أصدر قاضي المحكمة المركزية في تل أبيب، دافيد روزن، الحكم على أولمرت، الذي أدين بتلقّي رشاوى لمدة 6 سنوات وغرامة مالية مليون شاقل، مما يعتبر حكما قاسيا لملف الفساد السلطوي الأخطر الذي كُشف في إسرائيل.
وقرّرت محكمة العدل العليا في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2015، قبول استئناف أولمرت على الحكم، مخففة عقابه بالسجن لمدة سنة ونصف، ليكون رئيس الحكومة الأول الذي سيدخل السجن.
أسير محرر وكاتب مشهور
أطلق سراح أولمرت من السجن في ال2 من شهر يوليو عام 2017 بعد أن وافق المحكمة تخفيف عقوبته وتقليصها بثلث. ولم يمر وقتا طويلا حتى عاد إلى العناوين بفضل نشر سيرته الذاتية التي دونها في السجن وكشف فيها عن تفاصيل مثيرة عديدة أثارت ضجة في إسرائيل، منها انتقاداته للزوجين نتنياهو، وكذلك محاولة تبييض صفحته رغم إدانته بتهم فساد من قبل القضاء الإسرائيلي وسجنه.
وقد سطع نجم أولمرت مرة ثانية بعد أن خرج من السجن ذليلا في أعقاب إتاحة الرقابة العسكرية الإسرائيلية نشر تفاصيل عملية تدمير المفاعل النووي في سوريا عام 2007 وفيها يظهر الدور القيادي الكبير الذي لعبه أولمرت في تلك الفترة وإعطائه الضوء الأخضر للعملية رغم رفض الولايات المتحدة بقيادة بوش الابن بتنفيذ ضربة للمفاعل بعد نقل إسرائيل للإدارة الأمريكية أدلة دامغة بوجوده.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني