قبل نحو أسبوعَين، تصدر حي جبل المُكبِّر في القدس العناوين ثانية، بعد أن نفّذ أحد سكان القرية، فادي القنبر، عملية دهس، حصدت حياة أربعة جنود إسرائيليّين. على ما يبدو، فإن القنبر تأثر بداعش، أو على الأقل بالأفكار السلفية، وكان استثنائيا في “المشهد” المقدسي. ولكن من المرجح أنه قد تأثر سابقا بالجو في القرية الواقعة في السفوح الشمالية من جبال جنوب القدس، التي خرج منها في السنة الماضية فقط أكثر من ستة فلسطينيين لتنفيذ عمليات ضد الإسرائيليين.
يعيش اليوم في جبل المُكَبِّر نحو 30.000 مواطن. أقام أبناء القبيلة البدوية عرب السواحرة القرية، ومنذ عام 1967 تعتبر قرية مقدسية، ويحمل مواطنوها بطاقات إقامة إسرائيلية.
القرية قريبة من حيي سكن يهوديين كبيرين في جنوب القدس – حي تلبيوت وأرمون هنتسيف. حتى اندلاع الانتفاضة الأولى في نهاية الثمانينات، كانت هناك علاقات جيرة طيبة بين سكان القرية العرب وبين السكان اليهود القريبين.

مع اندلاع أعمال الشغب عام 1987، بدأ السكان في حي جبل المُكبّر يشاركون في المظاهرات حتى أنهم ألقوا الحجارة على الأحياء القريبة منهم بوتيرة عالية، ومنذ ذلك الحين والوضع آخذ بالتدهور، وعلى مدى سنوات شارك عشرات الفلسطينيين من سكان القرية في تنفيذ عمليات ضد اليهود. قُتِل معظم منفذي العمليات، واعتُقِل آخرون.
أثناء انتفاضة الأقصى خرج عدد من الخلايا من جبل المُكبّر لتنفيذ عمليات إطلاق النار ضد قوات الشرطة الإسرائيلية، ومع مرور الوقت بدأ سكان القرية بتنفيذ عمليات أكثر فتكا. ففي عام 2008، دخل علاء هشام أبو دهيم، ابن إحدى القبائل المعروفة في جبل المُكبِّر إلى مدرسة تلمودية يهودية وأطلق النار على طلابها، فقُتِل 8 أشخاص وجُرح كثيرون آخرون. في العام ذاته، خرج قاسم المغربي من القرية ذاتها بسيارته ودهس مجموعة من الأشخاص في غربي المدينة. أصيب 17 شخصا، وأطلق ضابط في الجيش الإسرائيلي النار على المغربي حتى الموت.
في عام 2014، دخل مواطنان من سكان القرية، وهما غسان وعدي أبو جمل، إلى كنيس في القدس الغربية وهما يحملان سكاكين، فأسا، وبندقية. فقد قتلا خمسة مصلين وشرطيا، وجرحا 88 شخصا قبل إطلاق النار عليهما. في عام 2015، نفّذ أبناء القرية ما لا يقلّ عن ست عمليات. أبرزها العملية التي نفذها بلال أبو غنام وبهاء عليان، اللذان استقلا حافلة في القدس الغربية، وقتلا 3 مواطنين رميا بالرصاص. إضافة إلى ذلك، فقد اعتُقِل العشرات من أبناء القرية بعد محاولات طعن جنود، إلقاء حجارة أو مهاجمة إسرائيليين.

بعد عملية الدهس التي نفذها فادي القنبر، أصبح هاشتاج #عملية_المكبر الأكثر انتشارا في النت وحظيت القرية بمديح الفلسطينيين الذين مجّدوا شجاعة سكانها “الأبطال”. هرب المصوّرون والصحافيون الإسرائيليون الذين وصلوا إلى القرية لتغطية الأحداث خلال وقت قصير خشية أن يُلحق السكان بهم ضررا، وتعرّض أحد المراسلين الذي قرر البقاء في القرية إلى هجوم بألعاب نارية.
منذ ذلك الحين بات يُطرح السؤال – كيف أصبحت القرية الهادئة في القدس الشرقية معادية لإسرائيل، وبات يحلم أولادها بأن يصبحوا شهداء؟
لقد عانت القدس الشرقية طيلة 40 عاما تقريبا من إهمال مُمنهج، سواء كان من قبل السلطات الإسرائيلية أو السلطات المحلية – بلدية القدس. ففي حين تطورت الأحياء اليهودية، وأقيمت فيها مبان جديدة ومتنزهات مُعتنى بها، بقي سكان القرى في شرقي المدينة يعيشون في أحياء قديمة، تفتقر إلى الخدمات الأساسية مثل إخلاء النفايات وإضاءة الشوارع، وتتدفق مياه الصرف الصحي في شوارعها أحيانا.

في العقد الأخير فقط بدأت الأحوال تتغيّر، حتى لو بنسبة ضئيلة فقط. فمنذ أن بدأ رئيس بلدية القدس، نير بركات بشغل منصبه، عيّنَ للمرة الأولى في التاريخ، مستشارا لشؤون القدس الشرقية، الذي بدأ بدفع مشاريع لإعادة تأهيل ظروف المعيشة وتحسينها قدما في القدس الشرقية، ونقل ميزانيات هائلة إليها. ولكن ما زالت الفجوة هائلة، ورغم أنه طرأ تحسن على أحياء معينة في القدس الشرقية، فما زال بعض الأحياء يعاني من الإهمال، ومن بينها حي جبل المُكبّر.
وفق أقوال مسؤول في بلدية القدس، يتضح أن هناك فجوات منذ عشرات السنوات، فرغم الميزانيات المستثمرة في أحياء القدس الشرقية، هناك حاجة إلى تدخل الحكومة لتغيير الأوضاع تغييرا جذريا. وصرح أيضا أن الواقع الأمني المُعقّد، وعدم إنفاذ القانون في أحياء كثيرة، لا يسمحان للبلدية بتوفير كامل الخدمات توفيرا جيدا. فحقيقة أن أحياء أخرى في القدس الشرقية تحظى بتطوير وميزانية أكبر، تعود وفق أقواله إلى تعاوُن السكان، وإن نقص تعاوُن كهذا يزيد من الفجوات فحسب.
بدأت تأثيرات الإهمال إضافة إلى الوضع الاقتصادي الصعب، تترك بصمتها في بداية الثمانينات، إذ بدأت حينها تنظيمات فلسطينية ببناء بنى تحتية في القرية. ولكن التغيير الجذري طرأ أثناء انتفاضة الأقصى، حيث أصبحت القدس مركز الأحداث وشهدت أعمال عنف.

وفق ادعاء الباحث البروفيسور هيلل كوهين، سادت بين قيادة التنظيم (الجناح العسكري لحركة فتح) في الحي خلافات في الآراء حول عمليات المقاومة لها. ففي حين عارض مسؤول في الحي تنفيذ عمليات ضد المواطنين فقد تعاون مسؤول أقل مكانة بشكل مباشر مع مروان البرغوثي ونفذ عمليات.
ومع مرور الوقت ازداد العنف في الحي. فكلما خرج منفذو عمليات أكثر ازدادت تأثيرات العمليات: عرف أولاد القرية جيدا أين بيت الشهيد، وأين سكن ذات مرة شخص قتل يهودا وأصبح مسجونا، وبات يعتبر بطلا في الحي.
رغم وجود عناصر الشاباك الملحوظ في الحي، فقد نجحت حركة حماس في الدخول إليه أيضا، وأدى الوضع العام من زيادة النفوذ في السنوات الماضية إلى ترك بصماته. قال أحد سكان القرية لموقع الأخبار الإسرائيلي “والاه”: “كان الشيوعيون أقوى فئة هنا. كانت هذه القرية هي الأكثر علمانية. ففي السبعينيات، كان يستهلك المواطنون الكحول. ولكن في عام 1988 تقريبا، دخل الإسلام إلى القرية وبدأوا بالسيطرة عليها. فقد نجحوا في أن يجعلوا الناس يفكّرون أنهم إذا صلوا في المسجد فعليهم التصويت لصالح حماس، وإلا فهم لا يعتبرون مسلمين أو فلسطينيين”.

تشهد حقيقة أن منفّذ العملية الأخيرة الذي خرج من القرية كان من أتباع السلفية، على زيادة تلك العقيدة، ويجب أن تضيء إشارات تحذيرية بين قوى الأمن الإسرائيليية.
في الراهن، طالما أن المفاوضات عالقة، وما زال سكان القدس الشرقية عالقين “بين المطرقة والسندان”، دون أن يحصلوا على جنسية إسرائيلية، ولكن يعيشون خارج حدود الضفة الغربية، فيبدو أنه لن يطرأ تحسن. تلعب شبكات التواصل الاجتماعي دورا هاما أيضا في تأجيج الكراهية والتحريض، وكذلك العقوبات التي تُفرض على القرية بعد تنفيذ كل عملية. من المرجح، إذا كان الأمر كذلك، أن يخرج منفذ عملية آخر من القرية لتنفيذ عملية ضد الإسرائيليين.