بينما تستمر الحرب بين إسرائيل وحماس، تكرّس الكثير من الجهات طاقتها ووقتها لإحصاء عدد القتلى في قطاع غزة. في الوقت الراهن، يسير الجهاد في شوارع الشرق الأوسط كالمعتاد.
تطهير إثني
كما هو معلوم، فبعد احتلال الموصل من قبل عناصر داعش، أعلن قائد التنظيم الجهادي، أبو بكر البغدادي، عن إقامة خلافة إسلامية في المدينة. كانت آثار ذلك الإعلان تدميرية تجاه السكان المسيحيين في الموصل. حتى يوم السبت الأخير أجبر المسيحيون على أخذ قرار من بين ثلاثة خيارات سيّئة بشكل خاصّ وضعت أمامهم: تحويل دينهم للإسلام، دفع جزية أو الجلاء عن المدينة. وإلا، كما أوضح البغدادي زعيم داعش، “فلن يحجبنا عن المسيحيين إلا السيف”.
هناك عدة عائلات مسيحية كانت قد طلبت التفاوض مع عناصر داعش حول سوء المرسوم، والتي طُلب منها من قبل رؤساء الكنائس في المدينة أن تهرب طالما أن أرواحهم ما زالت تمكنهم من ذلك. كان عدد السكّان المسيحيين في الموصل عشية حرب الخليج الثانية نحو 100 ألف شخص، ولكنها أخذت بالهبوط منذ ذلك الوقت. حين تم احتلال المدينة من قبل داعش بقي في المدينة نحو 5,000 مسيحي فقط. “ببساطة إنّه أمر صادم”، كما قال رئيس الكنيسة الكاثوليكية في الموصل، البطريرك لويس ساكو. “هرب الناس ولا يحملون سوى ملابسهم. عشنا في هذه المدينة على مدى آلاف السنين وفجأة يأتي كلّ أنواع الأجانب ليقتلعونا من منازلنا”.
إعدامات جماعية” لجنود عراقيين في تكريت (AFP)
يُضاف طرد المسيحيين من الموصل إلى سلسلة من الأحداث الأخرى التي تشير إلى مدى تسامح عناصر داعش تجاه معتقدات ومشاعر الآخرين. على سبيل المثال، في يوم الجمعة الأخير فقط فجّر عناصر التنظيم المتطرّف قبر النبي يونس في محافظة نينوى والمجاورة للموصل، وأزالوا بذلك 2,800 عام من التاريخ. ولكن ليس للمسيحيين واليهود أن يشعروا بالتمييز ضدّهم، فقد قامت عناصر داعش السنة قبل نحو أسبوعَين بعمل مشابه أيضًا لستة مساجد للشيعة في المنطقة. هناك جانب حساس أيضًا للتنظيم المتطرّف: كلّف عناصره أنفسهم عناء التأكيد على أنّ تفجير القبور والمساجد حدث “فقط بعد أن تم تحذير المواطنين في المنطقة بالابتعاد عن المكان”.
الأرقام تتحدّث عن نفسها
حتى نتعرّف على الأرقام: وفقًا لبيانات منظمة “إحصاء الجثث في العراق”، التي بدأت عملها مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، فإنّ عدد المواطنين الذين قُتلوا منذ الثامن من تموز، مع بداية عملية “الجرف الصامد”، حتى اليوم يصل إلى 1,164 شخص. في تلك الفترة، قُتل في سوريا والعراق معًا 3,169 من الرجال، النساء والأطفال؛ وهم ثلاثة أضعاف القتلى في غزة وإسرائيل. وليس مستبعدًا أن يكون عدد المفقودين أكبر، حيث أنّ بيانات القتلى تؤخذ من منظمات حقوق الإنسان، التي لا تتواجد تحديدًا في مناطق القتال.
لاجئون سوريون في حمص (AFP)
إنّ صورة الدماء في غزة، التي تُبثّ دون توقف عبر الشبكات الإعلامية الأجنبية، تمنح جنود بشار الأسد ومقاتلي داعش هدوءًا صناعيّا تامّا تقريبًا، وهم يستغلّونه بشكل جيّد. لدى انتهاء 28 ساعة من القتال بين الجيش السوري التابع للأسد وبين جهاديي داعش حول السيطرة على حقل الغاز بحمص، تم إحصاء أكثر من 700 جثّة في يوم الإثنين الماضي؛ وهو عدد القتلى الأكبر في حادث قتال منفرد منذ بدء القتال في سوريا في آذار 2011. وتذكر منظمة مراقبة حقوق الإنسان السورية أنّ معظم القتلى في المعارك هم من المدنيّين، ولكن بحسب رجال المنظمة: “لا يمكننا أن نعرف أبدًا العدد الدقيق للقتلى”.
شكّلت معركة حمص نقطة الذروة في الأيام العشرة الأكثر دموية في الحرب الأهلية السورية، بين 15 و 25 تموز، والتي قُتل فيها نحو 1,700 شخص. عمومًا، منذ 8 تموز، بداية عملية “الجرف الصامد” في غزة، قُتل في سوريا ما لا يقلّ عن 2,005 شخص، ومنذ بداية الحرب الأهلية، قبل أكثر من ثلاث سنوات، فقد أكثر من 170 ألف شخص حياتهم. إلى جانب الكمّ الهائل من القتل، تستمر أيضًا الأعمال الوحشية، على صورة قطع رؤوس جنود جيش الأسد من قبل عناصر داعش يوم السبت الأخير.
العالم يلتزم الصمت
إنّ تجاهل التصعيد في سوريا، في أعقاب القتال بغزة، يظهر للعين بشكل صارخ، حيث يدخل في هذه القضية أيضًا الأكاديميّون وكبار الصحفيين في الغرب. “إنّ عودة الصراع العربي-الإسرائيلي إلى دائرة الضوء، تضع بشار الأسد في منطقة الراحة بالنسبة له”، كما يقول الدكتور نديم شهادي، الذي شغل في السابق منصب رئيس قسم الدراسات اللبنانية في جامعة أكسفورد ويعمل اليوم كباحث في تشاتام هاوس – المعهد الملكي للشؤون الدولية. يضيف الدكتور شهادي قائلا: “ليس صدفة أن تصل الصواريخ التي أطلقتها حماس من إيران، مرورًا بسوريا. يحاول نظام الأسد في كلّ لحظة إشعال الصراع مع إسرائيل لصرف انتباه العالم عن أفعاله. وكمفاجأة للأسد، فقد فشلت محاولاته فشلا ذريعًا. لم تعد تلك الحيل القديمة تعمل على الشعب السوري”.
اليسار الإسرائيلي خلال مظاهرة عارمة في تل أبيب ضد العنف في غزة (Flash90/Yossi Aloni)
ويُفسّر إيان بلاك، رئيس مكتب شؤون الشرق الأوسط في صحيفة الغارديان البريطانية – وهي صحيفة غير معروفة بمودّتها الكبيرة لإسرائيل – لماذا لا يقرأ المتظاهرون في الساحات في باريس ولندن أسماء أطفال سوريا المذبوحين. “أكثر سهولة أن نتحدّث عمّا يحدث في غزة”، كما يقرّر بلاك. “تعطى تأشيرات دخول الصحفيّين إلى سوريا بشكل تعسّفي، وإعداد التقارير من مراكز قوة قوات الثوّار السوريين، بقرب الحدود التركية، أمر خطير جدّا. في غزة هناك بنية تحتية بشرية واقتصادية تمكّن الشبكات الأجنبية من البثّ دون خوف على حياتهم”.
وهناك من يعتقد أنّ الغرب لم يكن بحاجة إلى الحرب في غزة من أجل تجاهل المجازر التي تحدث في سوريا. “سألتني ابنتي البالغة من العمر 10 أعوام: لماذا نسي الجميع سوريا حين بدأت الحرب في غزة؟”، غرّدت ناشطة ليبية. “أجبتها بأسف: “لقد نسوا سوريا فعلا منذ زمن”.
أصدقاء الإسلام المتطرّف
فضلا عن القتل الجماعي وتحطيم المواقع التاريخية، فقد أصدرت داعش في يوم الجمعة الأخير تعليمات لجميع نساء الخلافة الإسلامية بأن يغطين أنفسهنّ بغطاء من الرأس إلى أخمص القدمين، وسوى ذلك سيلحق بهن ضررًا. وتقول داعش إنّها تعليمات قد تُفسّر كمتطرّفة، ولذلك تكلّفوا عناء تفسير المنطق الذي يقف من ورائها. “لا تمسّ هذه التعليمات بحرّية المرأة”، كما جاء في الإعلان الرسمي للتنظيم. “إنّ هدفها هو ألا تشعر النساء بالابتذال والمهانة، بسبب ثقافة الرعاية الذاتية والانشغال المبالغ به باللباس”. فضلا عن ذلك، تكلّف الإسلاميون المتطرّفون نفي التقرير الذي يتحدث عن أنّهم أمروا كما يُزعم أربعة ملايين امرأة عراقية تعيش تحت سلطتهم.
لاجئون سوريون (AFP)
وبسبب التعبيرات النسوية والإنسانية لعناصر داعش، فربّما وجد الأشخاص الذين رفعوا في ميدان رابين لافتات “اليهود والعرب يرفضون أن يكونوا أعداء” قبل لحظات من إطلاق صاروخ تجاههم من قبل حماس، وجدوا أخيرًا الشريك الذين تمنّوه طوال السنين.
نشر هذا المقال لأول مرة على موقع Mida
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني