هل إسرائيل في طريقها لتصبح إمبراطورية اقتصادية جراء اكتشاف حقول الغاز الضخمة في السنوات الأخيرة؟ إذا سألنا وزير المالية يائير لبيد، يكون الجواب إيجابيَّا. لكن وفقَ زعيمة المعارضة شيلي يحيموفتش، يمكن أن يعرّض سلوك الحكومة في مجال الغاز البلادَ لكارثة اقتصادية – اجتماعية.
حتى بداية القرن الحادي والعشرين، لم تعتمِد دولة إسرائيل على الغاز كمصدر طاقة رئيسيّ. صحيحٌ أنّ كميات صغيرة من الغاز اكتُشفت في خمسينات القرن الماضي قرب مدينة عراد الجنوبية، لكن لم تُكتشف كمية معتبَرة من الغاز حتى اكتشاف احتياطي مجاور لشواطئ أشكلون عام 1999. بعد ذلك، اكتُشفت كمية غاز إضافيّة كبيرة في حقل “ماري”، حقل يبلغ حجمه نحو 32 مليار متر مكعّب تستخدمه شركة الكهرباء الإسرائيلية حتى اليوم، استُنفد كليًّا تقريبًا.
أدّت أفضليات إنتاج الكهرباء باستخدام الغاز، وهي أنه لا يلوّث البيئة، بإسرائيل ومصر إلى توقيع اتّفاق تاريخي لتزويد إسرائيل بالغاز الطبيعي المصريّ. “هذا العقد هو مثل معاهدة السلام مع مصر”، تفاخر المدير العامّ لشركة الكهرباء الإسرائيلية، يعقوب رزون، بعد توقيع المعاهدة التي كان يُفترَض أن تضمن تدفّق الغاز لمدّة 20 عامًا.
وافتخرت إسرائيل بأنّ كلًّا من الرئيس المصري، محمد حسني مبارك، ووزير الاستخبارات، اللواء عُمر سليمان، قد باركا الصفقة شخصيًّا. بالمقابل، حاولت شركة “بريتيش غاز” البريطانيّة التوسّط لتوقيع اتّفاق صفقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية لتدفّق غاز من حقل فلسطيني مجاور لساحل غزة. لكنّ إسرائيل، التي خشيت من استخدام المال في عمليات إرهابية ضدّها، عارضت الاقتراح.
لم تطُل أيّام تدفّق الغاز المصري، الذي بدأ عام 2008 وزوّد إسرائيل بنحو 45% من مصادر الغاز، إذ أدّت أحداث الربيع العربي في نهاية المطاف إلى القضاء على المُعاهدة. أدّت زعزعة السيطرة المصرية على شبه جزيرة سيناء إلى وقوع أنبوب الغاز الذي ربط بين إسرائيل ومصر ضحية ما لا يقلّ عن 14 محاولة تخريب انتهت بإيقاف عمله. في أيار 2012، أعلنت مصر من جانب واحد عن إلغاء اتفاق الغاز مع إسرائيل. “كان واضحًا لي أنه في اليوم الذي لا مبارك فيه، لن يكون غاز فيما بعد”، قال حينذاك يوسف باريتسكي، الذي وزير البنى التحتية الإسرائيلي والذي قاد العملية من الجانب الإسرائيلي.
لكن في السنوات الأخيرة، اكتشف مبادِرون سبروا المياه الإقليمية الإسرائيلية كميات غاز إضافية استثنائية في حجمها، يمكن أن تؤدي إلى تدفق أموال طائلة للاقتصاد الإسرائيلي. صيف 2009، عُلِم أنّ حقل “تامار” يحوي نحو 240 مليار متر مكّعب من الغاز. وعام 2010، اكتُشف أنّ حقل “لفياتان” يحوي ما لا يقلّ عن 453 مليار متر مكّعب. وتحوي حقول غاز أخرى اكتُشفت مؤخرًا كميات تبلغ نحو 40 مليار متر مكّعب من الغاز.
لم يمرّ اكتشاف كميات الغاز الهائلة أمام سواحل إسرائيل بهدوء، بل فتح جبهة جديدة كليًّا بين الشعب الإسرائيلي حول نسل الضرائب التي ستُضطر الشركات التي اكتشفت الغاز إلى دفعها. فقد دعت منظمات اجتماعية في إسرائيل إلى رفع فوري لنسبة الضريبة، حيث إنّ الغاز الطبيعي المُكتشَف هو ثروة يملكها جميع مواطني الدولة، ويجب أن يستفيد منها الجميع. بالتباين، طُرح الادّعاء أنّ رفع نسبة الضرائب سيقود أصحاب رؤوس الأموال إلى رفع يدهم عن مشروع التنقيب عن الغاز، وسيُجبر إسرائيل على تجديد اتّفاقاتها مع مصر.
أوصت لجنة عامّة عيّنتها وزارة المالية في نهاية المطاف برفع نسبة الضريبة، في ما اعتُبر انتصارًا للمنظّمات الاجتماعيّة. وعبّر رجُل الأعمال يتسحاق تشوفاه، الذي استثمر أموالًا طائلة في التنقيب عن الغاز، عن خيبة أمله الشديدة من التوصيات متذمِّرًا: “على الدولة احترام التزاماتها تجاه المستثمِرين، الذين هم جميع مواطني دولة إسرائيل”. ووفقًا لتشوفاه، سيؤدي المسّ بماله إلى المسّ بأمن إسرائيل: “إذا نقّب الإيرانيون الآن مع اللبنانيين وزوّدوا أوروبا بالغاز بدل إسرائيل، فلأية أهداف ستُستخدَم الأموال التي تصل إيران؟”.
والشأن الإضافيّ الذي تصدّر جدول الأعمال في إسرائيل في هذا السياق هو مسألة ضمان أمل حقول الغاز. فرغم أنّ رجال الأعمال الذين موّلوا عمليات التنقيب طلبوا معظم الأرباح لهم، فقد أصرّوا على أن تكون دولة إسرائيل مَن يموّل ضمان أمن التنقيب. ودعم رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الطلب، وبادر إلى قرار حكومي ينصّ على أنّ الدولة ستموّل حتى نصف “النفقات المتعلقة بحماية منشآت النفط البحرية”.
رئيس الوزراء نتنياهو ووزير المالية لبيد (GPO)
لكن في السنة الماضية، كان موضوع تصدير الغاز الإسرائيلي تحديدًا الموضوعَ الذي تصدّر جدول الأعمال الشعبي. ففي مؤتمر صحفي عقده الصيف الماضي، أعلن رئيس الحكومة نتنياهو أنّ 40% من الغاز الذي سيُستخرَج سيُصدَّر إلى الأسواق الأجنبيّة. “نريد تصدير الغاز وملء خزينة الدولة بالمليارات لصالح المواطنين. ستنال الدولة فائدة عظمى من ذلك. الغاز وتطويره هما محرّك نمو سيؤدي إلى تقدُّم دولة إسرائيل”، قال نتنياهو، المعروف بمعارضته الشديدة لرفع نِسب الضرائب المفروضة على الشركات الكُبرى.
أمّا زعيمة المعارضة، شيلي يحيموفيتش، فهاجمت بشدّة قرار نتنياهو قائلةً: “هذا عمل تخريبيّ بحقّ الفرصة الرائعة المتاحة لإسرائيل. يمكن أن تتيح الثروة الغازية التابعة لكلّ مواطني الدولة استقلالًا من حيث الطاقة للبلاد، خفضًا دراماتيكيًّا في أسعار الطاقة والمياه، تطوير صناعات جديدة، إسهامًا هامًّا في جودة البيئة، ازدهارًا اجتماعيًّا، وتعزيزًا كبيرًا لأمن الدولة”، ردّت يحيموفيتش على نتنياهو.
ولاقى الجدال الحادّ بين نتنياهو ويحيموفيتش أصداء عديدة ومتناقضة. فمن جهة، أثنت عناصر اقتصادية على قرار رئيس الحكومة، الجيّد للاقتصاد الإسرائيلي. “إنّه قرار جيّد يجد التوازن الدقيق بين الحاجة للحفاظ على الأمن في مجال الطاقة للاقتصاد المحليّ وبين الحافز الماليّ لدولة إسرائيل لإتاحة التصدير”، قال مصدَر في الحقل المهني. ومن جهة أخرى، أدان ناشطون اجتماعيون إسرائيليون قرار نتنياهو: “أظهر نتنياهو بطريقة غير مسبوقة كيف يتجاهل كليًّا حاجات الشعب باستخفاف لصالح مصالح ذوي رؤوس الأموال”، نُقل عَن “هيئة الحفاظ على الغاز الإسرائيلي”.
يُثير قرار تصدير الغاز رضًى واسعًا في أوساط وزراء الحكومة الإسرائيلية. وإذا صدّقنا ما يقولون، يبدو أنّ إسرائيل هي فعلًا في طريقها لتصبح إحدى قوى الغاز العظمى. فقد ذكر وزير المالية لبيد مؤخرا أمام الكنيست أنّ “الوصل الفوري لأنبوب الغاز سيزيد من أماكن العمل في السوق، يقلّص أكثر نسبة البطالة، ويُسهم في خفض غلاء المعيشة في إسرائيل وخفض أسعار الكهرباء”. وهاجم لبيد قرار المعارضة، التي أخّرت، حسب زعمه، إنتاج الغاز حين أصرّت على تقييد مقدار التصدير.
وفقًا للبيد، سيضخّ الغاز الطبيعي 60 مليار دولار خلال 20 سنة. لكن وفقًا للمعارضة، سيؤدي تصدير الغاز إلى أن تفرغ كل حقول الغاز بعد ربع قرن، ما يلحق أذًى كبيرًا بالاقتصاد الإسرائيلي. فهل سيبقى لبيد في موقع أساسي في السنوات الخمس والعشرين القادمة ليشهد نهاية هذه القصة؟ ما زال مبكرًا التوقع.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني