في ظل الظروف الصعبة التي واجهتها الجاليات اليهودية في أنحاء العالم، قامت في العقود الأولى من القرن العشرين حركة تؤمن بالمثالية من الشبان اليهود العلمانيين الذين شعروا أنهم يشكلون نخبة ومثالا للكثيرين. عمل هؤلاء الشبان وهم يرتدون بنطالا قصيرا ويحملون أدوات العمل على خلق مجتمع مثالي. سُمي ذلك المجتمع “الكيبوتس”.
اعتبر أبناء الكيبوتسات أنفسهم “رأس الحربة” التي تقود الشعب – صورة توضيحية، الأربعينات
“ففي الكيبوتس تصل إلى لحظة تنسى فيها نفسك. تصبح حدود “الأنا” مشوشة، وأنت تصبح جزءا من مجموعة أكبر بكثير، تشعر أنها أفضل، أجمل، وأنسب شيء”
وصل شبان بالكاد كان عمرهم في العشرينات دون عائلاتهم إلى إسرائيل، وبادروا إلى إقامة الكيبوتسات فيها، وذلك بعد أن قطعوا علاقتهم باللغة الأوروبية وحضارتها اللتين ترعرعوا عليهما. هناك من نعت هذا التكتل الاجتماعي باسم “جمهورية الشبان”. كانت حياتهم المشتركة بديلا للوحدة. تضمنت الحياة المثالية من وجهة نظرهم العمل في الزراعة، وفي وقت لاحق في الصناعة، ولكنها تضمنت المساواة والاشتراكية. قام معظم أعضاء الكيبوتس بتشيكلة من الوظائف الإدارية والتنفيذية على حدِّ سواء، بالتناوب.
بدلا من شراء الممتلكات الخاصة، استأجر مقيمو الكيبوتسات الأراضي التي أقاموها عليها، واختاروا الأماكن المهجورة التي تتطلب عملا صعبا لاستغلالها. اتخذ كل أعضاء الكيبوتس القرارات معا. واحتفلوا بالأعياد في القاعة ذاتها وتناولوا الوجبات معا يوميًّا في غرفة الطعام الكبيرة المشتركة. وصل التعاون الجماعي إلى مواضيع مثيرة للجدل أيضا، مثل الحياة العائلية. ترعرع أطفالهم خارج منزل الأسرة، مع أطفال أعمارهم شبيهة، في مكان يدعى “بيت الأطفال”.
الحياة الاشتراكية والمشتاركة في الكيبوتس في الخمسينات (Wikipedia)
صعود الكيبوتس
تأثر شبان آخرون من الفكرة الأيدولوجية القوية التي انتشرت كالنار في الهشيم. فانضم عشرات آلاف الشبان إلى حركة الكيبوتسات. في تلك الأيام مقابل العظمة التي سادت في الغرب، كان الكيبوتس موقعا مثيرا للفخر في أوساط اليهود الذين وصلوا إلى الأراضي المقدّسة، وكذلك حظي خارج إسرائيل بتقدير.
رغم الحياة المتواضعة، اعتقد أبناء الكيبوتسات أن نمط حياتهم أفضل من نمط حياة المدينة. قال البروفيسور أبراهام بلبن، باحث إسرائيلي في مجال الأدب، عاش في كيبوتس، أنه “في الكيبوتس تصل إلى لحظة تنسى فيها نفسك. تصبح حدود “الأنا” مشوشة، وأنت تصبح جزءا من مجموعة أكبر بكثير، تشعر أنها أفضل، أجمل، وأنسب شيء، وأنها تشكل “رأس الحربة” التي تقود الشعب”.
شابات حركة الكيبوتسات – صورة توضيحية
حظيت مشاعر من عاش في الكيبوتس بصفتهم نخبة دولة إسرائيل الشابة بتعزيزات في الواقع. فشغلوا مناصب رفيعة جدا في قيادة دولة إسرائيل في العقود الأولى، رغم أنهم كانوا يشكلون %8 فقط من عامة السكان عند إقامة الدولة. عاش رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول، دافيد بن غوريون، في كيبوتس في جنوب البلاد. وُلِد السياسي الإسرائيلي موشيه ديان في كيبوتس أيضا. حتى أن رئيس الحكومة الإسرائيلي الثالث، ليفي أشكول، أقام كيبوتسا. في يومنا هذا أيضا نسبة سكان الكيبوتسات الذين يلتحقون بدورة الضباط في الجيش الإسرائيلي أعلى بأربعة أضعاف من نسبتهم بكافة السكان.
الحلم وخيبة الأمل
قال أحد مقيمي الكيبوتسات الأوائل منذ العشرينات: “نعرف كيف نبدأ الثورات، ولكن لا نعرف ما علينا القيام به لاحقا”. لم يفهم حينذاك أعضاء الحركة مدى صحة أقواله.
أدت القروض والاستثمارات غير المسؤولة إلى إفلاس الكيبوتسات، والجيل الشاب ابتعد عنها (Doron Horowitz/FLASH90)
بدأت حينها تضطرب الأمور في الكيبوتسات، مقابل حدوث انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي الثمانينيات انهارت الكيبوتسات تماما. أدت القروض والاستثمارات غير المسؤولة بملايين الدولارات التي راحت سدى إلى إفلاس الكيبوتسات. حينها، لم يكن اليسار الإسرائيلي مُسيّطرا على القيادة الإسرائيلية، وكان الاقتصاد الإسرائيلي مؤلفا من شركات خاصّة وليس من شركات وطنية كما في الماضي. أوضحت الحكومة اليمينية للكيبوتسات أنها لن تنقذها هذه المرة وعليها الاهتمام بنفسها. بحث الجيل الشاب الذي ترعرع في الكيبوتس عن طريقه خارج الكيبوتس وظل جيل القدامى في الكيبوتس الذي انخفض عدد أعضائه. كان يبدو أن المحاولة الاجتماعية الأكبر في إسرائيل، كادت تفشل.
من شبان اشتراكيين إلى أغنياء جدد
“بدأت الكيبوتسات بالتعافي والازدهار مجددا، ولكن هذه المرة لم يبقَ أي ذكر تقريبا لأيدولوجيتها، وطابعها الخاص.”
مر نحو عقدين حتى بدأت الكيبوتسات بالتعافي والازدهار مجددا، ولكن هذه المرة لم يبقَ أي ذكر تقريبا لأيدولوجيتها، وطابعها الخاص. بدأ جزء من الشبان الذين هاجروا الكيبوتسات عندما واجهت أزمة اقتصادية بالعودة إليها، ولكن بدلا من أن يعيشوا في منازل متواضعة وصغيرة مثل والديهم، بنوا لهم فيلات فاخرة، وتنازلوا كليا عن الحياة المشتركة التي ترعرعوا عليها. جذبت المناطق الواسعة الخضراء في الكيبوتسات العائلات الغنية التي كانت تسكن في المدينة وبحثت عن جودة حياة أفضل، واعتقدت أن الكيبوتس مكان جميل وهادئ يوفر تربية جيدة للأطفال، لذلك يجدر بهم إقامة منزل أحلامهم الخاص فيه.
خيمات سكنية في الكيبوتس في بدايته
كانت أسعار المنازل الكبيرة التي بُنيت في البداية على أراضي الكيبوتسات زهيدة مقارنة بالمنازل الخاصة في مركز البلاد، ولكن ارتفعت أسعارها ووصلت إلى مئات آلاف وحتى ملايين الدولارات. أصبح الكيبوتس رمزا لمستوى حياة عال، وعلى من يرغب في السكن فيه أن يكون لديه مالا كافيا. مقارنة بفكرة الاشتراكية، الشيوعية أحيانا، التي شكلت أساسا لإقامة الكيبوتسات، فيُعتبر ذلك التغيير تغييرا جذريا.
صحيح أنه كانت هناك في البداية مساواة اقتصادية بين أعضاء الكيبوتس إلا أن الأزمة كانت مصدر تطور جديد تماما. فإذا كان مدير الكيبوتس يربح في الماضي أجرا شبيها بأجر العمال، فبعد الأزمة الكبيرة في الكيبوتسات، عرف المسؤولون في الكيبوتس أنه إذا أرادوا الحفاظ عليه يتعين عليهم تغيير القواعد الاقتصادية التي كانت غريبة لهم – على كل عضو أن يبذل جهذا وفق قدراته، ويربح أجرا شخصيًّا ملائما لجهوده ووظيفته.
فيلات جديدة في الكيبوتس.. فلم يبقَ اليوم أي ذكر تقريبا لأيدولوجية الكيبوتس وطابعه الخاص (Moshe Shai/FLASH90)
ماذا كان سيفكر مقيمو الكيبوتسات، لو عرفوا ماذا حصل لمشروعهم؟ هل يشهد انهيار الكيبوتس على أن مبادئَه تتضارب مع الواقع أو أنها تتناقض مع ناموس الإنسانية؟ هل كان الكيبوتس عملا اجتماعيّا، انطلاقة، وفكرة رائعة في المجتمَع البشري، كما يعتقد الكثيرون حتى يومنا هذا، الذي انهار بسبب قرارات خاطئة اتخذها المسؤلون فيه؟ لا يهتم سكان الكيبوتسات الجدد بمعرفة الإجابة. فلا يؤثر اسم “كيبوتس” فيهم، ومن جهتهم، يمكن تسميته قرية أيضا، بلدة أو حي فيلات، أهم شيء ألا يلحق ضرر بممتلكاتهم الخاصة، التي تطل على مناظر الحقول الرائعة في الكيبوتس، التي يعمل فيها في يومنا هذا عمال أجانب بدلا من العمال الاشتراكيين الذين أقاموا الكيبوتسات قبل مئة عام.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني