يُدعى الكليب الجديد الذي أطلقته اليوم (صباحا) فرقة MALOX الإسرائيلية، “Gaza Trip”، وهذا ليس صدفة. قال أحد أعضاء الفرقة الموسيقيّة إنه “في هذه الأغنية كان يهدف أعضاء الفرقة إلى تقريب المشاهد في غزة إلى موادنا الموسيقية. سجلتُ الأغنية عندما كنت أسكن في تسئيليم (بلدة إسرائيلية تبعد 20 كيلومترا عن غزة)، وسمعتُ كل الأحداث التي كانت تدور في غزة”.
تظهر في الكليب مقاطع فيديو لشباب فلسطينيين وهم ينجزون تمارين “باركور” في أماكن مختلفة في قطاع غزة على خلفية الأنقاض التي خلّفتها الحرب الأخيرة. يظهر الشباب في إحدى الفيديوهات وهم ينجزون تمارين على خلفية التفجيرات. “كان يهمنا أن نحضر هؤلاء الأشخاص، الذين يمارسون تمارين الباركور في غزة، وأن نمنحهم منصة في إسرائيل”، قال أعضاء الفرقة. وقد تمت الموافقة على استخدام مقاطع الفيديو.
أصبحت رياضة الباركور التحدية شعبية جدا في قطاع غزة وفي باقي الأراضي الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة. يصف المشارِكون في هذه الرياضة تجربة الباركور بصفتها فرصة للتخفيف عن النفس والتخلص من التوتر، والشعور بالحرية، رغم الواقع الصعب.
“أنا قلق من معاملة إسرائيل لفلسطين”، يقول الموسيقار الإسرائيلي، إيال تلمودي، عضو الفرقة، “وجزء من وظيفتنا بصفتنا مبدعين، ومن إجابتنا على ذلك، هو التحدث عن الاحتلال وتقييدات التنقل”.
وقد تم رفع الكليب في اليوتيوب في شهر شباط، ولكنه لم يكن متاحا للمشاهدة حتى الآن، أما الآن فقد أصبح متاحا للجمهور بشكل خاصّ بمناسبة يوم الاستقلال الفلسطين الذي يصادف اليوم (15.11).
أُعِدّ خصّيصا لمُحبّي الخدع البصريّة؛ الفيديو الذي أنتجه الرياضيّ جيسون بول هو ببساطة مُسلٍّ وقد يُسبب لكم الإدمان عليه، وعلاوة على ذلك- على طول دقيقتين و21 ثانية، يقوم بعرض أوهام بصرية يصعب استيعابها مُسبقا عند مشاهدتها، وتؤدي بالتالي لإثارة تعجّبكم- أين تلاشت قوى الجاذبية هذه المرة؟
ابتداء من المشي على السقف وانتهاء بالقفز فوق سيارة، نجحَ هذان الرياضيّان بالتلاعب بأدمغتنا وبإثارة الشك حول كلّ ما نشاهده. إذ أخذ كلا الشابين الخبيرين برياضة الـ Parcour(الركض الحرّ- الباركور) موهبتهما خطوة للأمام، وبضبط توقيت مُذهل وبتحرير مُتقَن – أنتجا هذا الشريط الرائع الذي حصدَ في أول ثلاث أيام من عرضه على أكثر من 200 ألف مُشاهدة.
يتم تداول هذه الظاهرة تقريبًا في كل وسيلة إعلامية مُتاحة: تعرضُ مجموعة من الشبان الغزيين للعالم خراب غزة نتيجة حرب “الجرف الصامد” من خلال ألعاب بهلوانية ومن خلال قفزات من أماكن عالية دون أية وسائل حماية أو شبكات إنقاذ. تدمج جماعة الشبان الموهوبين تلك ما بين نوعين من الرياضات الشعبية المعروفة. النوع الأول هو الباركور (Parkour)، مجموعة من التقنيات الرياضية التي تهدف إلى تخطي عقبات بالانتقال من نقطة إلى أُخرى داخل المدينة، مثل تسلق الجدران، القفز من فوق الحواجز، السيارات أو الدرابزينات، التنقل بين السطوح وغير ذلك. النوع الثاني هو الركض الحر (Free Running) – ألعاب بهلوانية في بيئة مدينية والتي تستخدم الطبيعة المحلية كميدان لأداء حركات مُرتجلة.
باركور غزة (Flash90/Aaed Tayeh)
النتيجة هي نسخة جديدة للحيز المديني، وهو: استخدام المدينة، بخلاف القوانين التي تم تخطيطها وفقها. تُلغى المسارات المُعرّفة – شوارع، طرقات أو أزقة وتحلُ مكانها مسارات جديدة يتم ارتجالها من قبل المتدربين في اللحظة الحقيقية (اسم هذه الظاهرة مُشتق من الكلمة الفرنسية Parcours، التي تعني مسار أو ممر). تستند هذه الرياضة بشكل كبير على سهولة الوصول إليها وانتشار وسائل الإعلام الرقمية. بكلمات أُخرى، إن لم تتم مُشاركة آخر عرض قفز عن السطوح على الفيس بوك، إذًا لا يكون قد حدث أساسًا. إن إخراج الصور المشغولة بإتقان ومقاطع الفيديو الخاصة بالحركات البهلوانية المُتقنة، الذي ترافقه موسيقى متوافقة، هو جزء هام من نشاط هواة الباركور.
مسألة إعادة إعمار غزة هي مسألة سياسية واقتصادية مُعقّدة، تُعيقها ظواهر مثل ظاهرة الباركور
قرر “فريق الباركور والركض الحر” في غزة أخذ هذه الهواية باتجاه آخر. حظي أولئك الشبان في السنوات الأخيرة، وتحديدًا بعد حرب صيف 2014، بشهرة واسعة نظرًا لاختيارهم الجري، القفز والسقوط تحديدًا في المواقع التي دُمرت خلال الحروب الأخيرة في القطاع. بالنسبة لهم هذه طريقة ممتازة، ليُظهروا للعالم، حجم الدمار في غزة ونيل تعاطف العالم تجاه الشبان الذين يعيشون فيها. تُظهرهم الكثير من مقاطع الفيديو وكأنهم يُطالبون حقا بإعادة الحياة إلى المناطق المُدمّرة التي تخلو من الحياة. وإثبات أن الحياة أقوى من كل شيء. تحليل آخر، حداثوي، قد يرى بحركة الباركور في غزة كنوع من “الاحتجاج” على الدمار الإسرائيلي من خلال تفكيك الحيز الذي طالبت إسرائيل بتفكيكه. على أي حال، نجحت تلك المجموعة بتسويق خراب المدينة بشكل ممتاز وحتى أنها باتت تجذب مُهتمين من العالم، الذين يأتون للتمرن معهم على تلك الرياضة ولتوثيق نشاط المجموعة.
لا يعمل فريق باركور غزة في فضاء فارغ. النقاش الإعلامي العالمي، بما في ذلك الإسرائيلي والعربي، بخصوص إعادة إعمار مدينة غزة دائمًا ما يتركز على الشكل الظاهري للدمار والخراب. تشكل مقاطع فيديو جوية ترافقها الموسيقى على خلفية الدمار جزءًا من هذا التوجه. وصل في شهر شباط الأخير فنان الغرافيتي العالمي “بانكسي” إلى غزة لكي يطبع بعض نماذج رسوماته على جدران البيوت المُهدّمة في المدينة وإظهار دمارها للعالم، أو لمعجبيه على الأقل. علقّ فريق باركور غزة على الفيديو الذي نشره، خلال زيارته إلى غزة، وبدافع زمالة فناني الشارع أطلقوا نداءً للمزيد من الناس لأن يأتوا ويروا الدمار عن قرب.
في الدمار عنصر ممنوع ومُدمّر يجذب إليه العين؛ ويتم الإشباع بملامسة سطحية للخراب ولكن لا توجد رغبة حقيقية بمعرفة ما الذي يقف خلف الدمار
على ما يبدو أن عملية إعادة إعمار غزة المُتلكئة تحتاج لهذا الاهتمام الإعلامي، ولكن بنظرة أوسع، ومن خلال تحليل أوسع للحاجة للوسائط، ليس مؤكدًا بأن هذه الموضة تدفع قضية إعادة الإعمار بالاتجاه الصحيح. مسألة إعادة إعمار غزة هي مسألة سياسية واقتصادية مُعقّدة، تُعيقها ظواهر مثل ظاهرة الباركور. تكمن المشكلة فيما ممكن تسميته ماسوشية الدمار: اعتادت العين الغربية، في السنوات الأخيرة، على رؤية دمار الشرق الأوسط، بدءا من سوريا، مرورًا بالعراق وصولا إلى غزة. تُسلي فوضى من الدمار والمُصوّرة بشكل جيد، وصور قبل وبعد التفجيرات التفكير مثل لعبة “جد الفرق”. تركّز نظرة على الدمار، من خلال الشاشة، على التجربة الحسية للمشاهد وتُشبع غريزة التلصص التي طورتها وسائل التواصل الاجتماعي. رغم كل شيء، فإن إلقاء نظرة على الدمار هو أشبه بالدخول إلى بيت سبق أن كان قائمًا. ليس عبثًا قد حظيت الظاهرة الفنية – المعمارية الخاصة بتصوير البيوت المتهاوية، في المدن الأمريكية، بالاسم المناسب تمامًا “بورنو الدمار” (Ruin Porn). هناك في الدمار عنصر ممنوع ومُدمّر يجذب إليه العين؛ ويتم الإشباع بملامسة سطحية للخراب ولكن لا توجد رغبة حقيقية بمعرفة ما الذي يقف خلف ذلك.
باركور غزة (Facebook)
الانجذاب إلى الخراب متجذر جيدًا في الثقافة الغربية. منذ أن “كشف” رواد عصر النهضة خراب مباني الكولسيوم (مدرج روماني قديم)، التي بقيت مُهملة، لمئات السنين، في روما، فقد أثارت بقايا من تلك المباني خيال مؤرخين، رسامين وشعراء، الذين رأوا فيها تحية من الماضي الذي كان بلا شك أفضل من الحاضر. عززت النظرة الأوروبية للشرق هذه النظرة، أي أن كل مبنى مُدمّر معناه أثر لشيء ما قد يُعيد متأمله إلى حياة المسيح أو إلى حكايات التوراة. ترك الخرائب والآثار على حالها المُدمّرة والرومانسية هو ادعاء هام ضد جهود إعادة إعمار أو ترميم مواقع تاريخية. ورثت الصهيونية، ومن بعدها الثقافة الإسرائيلية، الكثير من هذا الحب للخرائب. الخراب العربية التي تظهر هنا وهناك من بين أشجار الصنوبر في الغابات التابعة للصندوق الوطني اليهودي (كاكال) أو المغطاة بكثبان الرمال في محمية طبيعية ما دائمًا ما تُعزى، في نفوس الإسرائيليين، إلى سكان الأرض القدامى – الصليبين، الرومان أو بني إسرائيل. تتخطى الرومانسية الاستشراقية، بالطبع، المالكين الفلسطينيين الحقيقيين لتلك البيوت الحجرية “العتيقة” وتنساهم: الخرائب أهم من فعل التهريب والتدمير ذاته.
تجميل الدمار، الأمر الذي يُعبّر عنه من خلال نشاط مجموعة باركور غزة وتغطيتها الإعلامية، يُركز الأنظار على دمار المباني بدل دمار البيوت والعائلات. هكذا تُشوّش المسؤولية الفلسطينية، الإسرائيلية والعالمية قضية الدمار، الذي هو بمثابة مأساة اجتماعية وسياسية مُستمرة دون أجل منظور
تخلق فيديوهات الباركور، التي يتم إطلاقها من غزة، إضافة إلى العرض المُصمم لدمار المدينة، تمامًا ذلك الفصل بين الدمار وبين فعل التدمير. تجميل بقايا البيوت المُدمّرة، وكأنها كانت دائمًا جزءًا من طبيعة مدينة غزة منذ الأزل، يُشوّه أساس العنف السياسي الذي يتضمنه فعل التدمير. رُكام الخرائب الباقية منذ سنوات بعد أن هدأت النيران هي نوع من الدكتاتورية؛ بداية من “دكتاتورية الضاحية” التي نتجت عن حرب لبنان الثانية، مرورًا بحروب غزة وأيضًا هدم البيوت غير القانونية في النقب أو الأراضي المُحتلة، التي بقي ركامها مكانه.
لا ينتهي العنف السياسي بهدم البيوت بل يستمر طوال الوقت طالما بقيت الخرائب تنتظر إعادة الإعمار. تجميل الدمار، الأمر الذي يُعبّر عنه من خلال نشاط مجموعة باركور غزة وتغطيتها الإعلامية، يُركز الأنظار على دمار المباني بدل دمار البيوت والعائلات. هكذا تُشوّش المسؤولية الفلسطينية، الإسرائيلية والعالمية قضية الدمار، الذي هو بمثابة مأساة اجتماعية وسياسية مُستمرة دون أجل منظور. أدركوا، في أماكن أُخرى من العالم، أن هدم البيوت هو ليس ظاهرة هندسية بل مصيبة اجتماعية وسياسية والتي تُعرف بالاسم Domicide؛ تدمير حق الناس بالحصول على حياة منزلية من خلال تدمير مساكنهم. تسود في أنحاء العالم عملية “دوميسايد” تؤدي لاقتلاع الناس من بيوتهم وأن يعيشوا حياة نزوح ولجوء. هذا هو التمثيل الحقيقي للبيوت المُدمّرة في غزة.