من زار هذا الأسبوع مركز المؤتمرات في “مشكنوت شأننيم” في القدس، كان يمكن للحظة أن يختلط عليه الأمر ويظنّ أنّه لم يعد في إسرائيل. عند مدخل القاعة رحبت موسيقى شرقية لطيفة بالضيوف، عزفها شاب على آلة التار. وصدر مزيج غير عادي من اللغات من بين الحضور. مزيح من الإنجليزية، الكردية، والتي تبدو شبيهة جدّا بالفارسية للأذن غير الماهرة، بعض الكلمات بالعربية والعبرية.
وضع بعض الحاضرين على طيّة صدر قميصهم دبابيس تحمل العلم الكردي، واختار آخرون وضع علم المعارضة السورية، وبينما مزج بعضهم بين الدبّوسين: العلم الكردي والعلم الإسرائيلي.
شيرزاد مامساني، مدير الشؤون اليهودية الكردية، وزارة الشؤون الدينية (صورة باذن Springs of Hope)
أجري هذا المؤتمر الاستثنائي تحت عنوان “صرخة من خط الجبهة: العراق وسوريا”، بمشاركة خبراء، أكاديميين، حقوقيين، ناشطين إنسانيين، بالإضافة إلى لاجئين أكراد ويزيديين قدِموا بأنفسهم إلى إسرائيل من أجل رفع الوعي حول الأزمة التي تحلّ ببلادهم، ومناقشة خيارات تحسين الوضع الراهن.
نظم المؤتمر منظمة “Springs of Hope” (“بوادر أمل”) وهي منظمة تعمل في لندن، القدس، وفي مدينة دهوك في كردستان العراقية، وتعمل لأجل ضحايا الإرهاب، ضد الجرائم الإنسانية، والإبادة الجماعية. في الواقع تهدف إلى مساعدة اللاجئين اليزيديين والأكراد، والناجين الذين نجحوا بالفرار من أيدي داعش.
إحراق حياة كاملة كليا
كان داود علي آغا صالح أحد اللاجئين اليزيديين الذين قدموا إلى إسرائيل، ووافق على التحدث معي. عاش صالح (في الماضي) مع أسرته في مدينة سنجار الكردية. في صيف 2014، بدأت قوات “الدولة الإسلامية” (داعش) بالاقتراب من المدينة، وأصبحت المعارك حولها كثيفة. عندما وصلت الشائعات عن المعارك إلى أسرة داود، قرر أفرادها الفرار.
داود علي آغا صالح في المؤتمر في القدس
لذلك، هربت الأسرة في جوف الليل، 11 فردا، في 5 سيارات مختلفة، لينجحوا في الهروب بسهولة أكبر، والتعرض إلى مخاطر أقل. ولم يستطيعوا بطبيعة الحال أخذ أية أغراض معهم سوى ملابسهم التي كانوا يرتدونها، ومبلغ ضئيل من المال. ولحسن الحظ، نجح جميعهم في الفرار ومن ثم الالتقاء خارج حدود المحافظة. في وقت لاحق فرضت قوات داعش حصارا على المدينة كلها، واكتشفوا أنّ منزلهم احترق تماما. لم يبقَ لديهم شيء من ماضيهم.
قدِم داود إلى إسرائيل عن طريق الحدود الإسرائيلية التركية. كان على علاقة بمختلف الجمعيات، والتي ساعدته على الحصول على تأشيرة دخول، وأصبح الآن يتنقل ويحكي قصته. يمارس اليوم مهنة الترجمة، وعمل في الماضي مترجما رئيسيا لرئيس بلدية سنجار، وكانت تربطه علاقات ودّية مع جهات غربية، والتي وصل بمساعدتها إلى إسرائيل. كانت هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها إلى البلاد، وهو سعيد ومتحمّس لوجوده هنا، للالتقاء بالإسرائيليين، والذين هم على حدّ تعبيره أشخاص لطفاء جدّا ورائعون، وبشكل أساسي، فرح بالفرصة التي سنحت له للتحدث عن قصته الشخصية، وقصة شعبه.
خلال المؤتمر قرأ داود إحدى قصائده، والتي ينوي إصدارها قريبا في ديوان شعر، مكرّس كله لتراجيديا الشعب اليزيدي.
إماء جنس للبيع
لكن لم يحالف الحظ جميع اليزيدين مثل أسرة داود. تضمّنت احتلالات مقاتلي “الدولة الإسلامية” التدمير والنهب، قتل الرجال، وأسر النساء والأطفال. أصبح اليزيديون الذين لم ينجحوا في الهرب، إماء جنس وعبيد. وقد شارك في المؤتمر الدكتور ميرزا حسن دنايي، وهو يزيدي ومستشار كبير للحكومة الكردية، وألقى محاضرة عن وضع الأطفال والنساء اليزيديات في الحرب.
ميرزا حسن دنايي في المؤتمر في القدس
تركت المحاضرة التي شاركت فيها لدي شعورا كبيرا من عدم الارتياح وذلك بعد مرور ساعات على انتهائها أيضا. يعمل الدكتور دنايي اليوم على مساعدة وإنقاذ اللاجئين والناجين الذين نجحوا في الهروب من داعش. وقد شارك الحاضرين في محاضرته كلاما سمعه من مصدر أول من اللاجئين اليزيديين الذين عانوا في الجحيم بأنفسهم، ولكن قبل ذلك فقد اختار أن يبدأ تحديدًا بنهج داعش بخصوص إماء الجنس، كي يثير الصدمة في نفوس الحاضرين في القاعة.
من المثير أن نرى أنّ الإسلام يحرّم ظاهرة العبودية وإماء الجنس، باستثناء حالة حصرية جدا يكون فيها أسرى الحرب من غير المسلمين، وحينها يُسمح باستعبادهم. للأسف الشديد، هذا هو حال النساء والأطفال اليزيديين.
عرض دنايي أمام الحاضرين قائمة من “حقوق” إماء الجنس والتي نشرتها داعش، وأكّد على الوحشية والسخافة التي تتضمنها. من بينها ذُكر أنّ الإماء والعبيد هم “مِلك” لمالكهم، وفي حال موت المالك، يتم تقسيمهم على ورثته كسائر الأملاك. إذا كانت الأَمَة عذراء، يُسمح بممارسة الجنس معها فور الاحتلال، وإذا لم تكن بتول، يجب الانتظار حتى الدورة الشهرية الأولى. يتطرق أحد أكثر البنود الصادمة إلى ممارسة الجنس مع القاصرات. وفقا لداعش، إذا شعر المالك أنّها مستعدّة لذلك، يمكن ممارسة الجنس معها، ولكن إذا لم تكن مستعدة، فيمكنه استغلالها جنسيا بطرق أخرى، في كل سنّ.
أسواق العبيد والإتجار بالبشر هي قضية غير مهمة ومسموحة تماما وفق قوانين داعش: بعد المعارك يقسّم المقاتلون بينهم “الغنائم” البشرية، ولكن إذا أراد مقاتل معيّن بيع “الغنيمة” التي حصل عليها في السوق، والحصول على المال مقابلها، يمكنه القيام بذلك بسهولة. ويقول دنايي إنّه بفضل مواقع التواصل الاجتماعي يزدهر سوق إماء الجنس. يتم نشر صورهنّ وهن يرتدين فساتين مكشوفة في الواتس آب بين المقاتلين، ويُبعْنَ لكل من يدفع ثمن أعلى.
بصيص من الأمل
في محاضرته ذكر دنايي قصة إماء وعبيد-أطفال استطاعوا الهروب من داعش، والتقى بهم شخصيّا. إحداهنّ! هي مها – يزيدية في السادسة والعشرين من عمرها، وأم لأربعة أطفال. قُتل زوجها في المعركة، وأخذها المقاتل الذي قتله كأَمَة مع أطفالها. عندما حاولت الهرب تم الإمساك بها، وعقوبة على أفعالها سمم مالكها أطفالها، وقد مات ثلاثة منهم نتيجة تلك الجريمة. ولكن لم تتنازل مها، وبعد شهرين من ذلك حاولت الهرب مجدّدا، مع ابنتها البالغة من العمر 8 أعوام، وتكللت محاولتهما بالنجاح. وهما تعيشان اليوم معًا في خيمة في مخيم للاجئين اليزيديين. وتنقصهما المساعدة، المال، والأسرة. ولكن لديهما بصيص من الأمل.
أَمَة جنس يزيدية استطاعت الهروب من داعش
خلال عمله أجرى دنايي مقابلات مع 1400 امرأة وطفل من الناجين من داعش. حتى اليوم تم تحرير 2289 امرأة وطفل، ولكن 3,700 ما زالوا أسرى لدى داعش ويمرّون بانتهاكات لا تُحتمل كل يوم. من بين اللاجئين الذين هربوا، تم نقل 1100 إلى ألمانيا، حيث تم استيعابهم وستتم إعادة تأهيلهم، وسيتلقون دعما نفسيا. ومع ذلك، فإنّ أكثر من 2000 ما زالوا يفتقدون كل شيء، بلا حول ولا قوة، ويعيشون حياة تفتقر إلى الظروف الأساسية وبالتأكيد لا يتلقون دعما نفسيا لمساعدتهم على مواجهة الصدمة النفسية التي مرّوا بها. للأسف الشديد، لم يتم العثور على دولة أخرى توافق على أن تأخذ على عاتقها مسؤولية تقديم المساعدة.
عودة إلى الدين
أدّت الأزمة التي تواجهها الجالية اليزيدية إلى تغييرات في الدين القائم منذ أكثر من 4000 عام. وفقا للتقاليد اليزيدية، فالطريقة الوحيدة للانضمام إلى هذه الديانة هي الولادة داخلها. والزواج مسموح فقط من أبناء الديانة ذاتها، ومن يتزوج خارج الجالية، أو يبدّل دينه، لا يمكنه أبدا العودة إلى حضن الديانة.
ومع ذلك، في ظلال الأزمة، يحظى الناجون اليزيديون باحتضان من قبل رجال الدين. لقد وافقوا، بشكل غير مسبوق، على أن يقبلوا في الدين مجددا أطفالا أسلَموا قسريّا تحت حكم داعش، ونساء تمت أسلمتهنّ وتزوّجنَ من مقاتلين مسلمين. تحدّث دنايي متأثرا عن طفل صغير، كان خلال 9 أشهر أسيرا في داعش. مرّ بعملية أسلمة، وتعلم القرآن طوال خمسة أشهر. وعلى مدى أربعة أشهر أخرى اجتاز تدريبات قتالية متقدّمة ليصبح طفلا مقاتلا في صفوف داعش. بعد تحريره من الأسر، أخبر الدكتور دنايي أنّه يحفظ غيبًا أكثر من مائة سورة. سأله دنايي إذا كان يعتبر مسلما الآن، ولكن الطفل أجاب “لا إطلاقا، ما زلت يزيديّا”.
“لقد اغتصبوني واحدا تلوَ الآخر وسمّوا ذلك جهاد النكاح“
تحدث دنايي عن المزيد من الأدلة، صور الناجين، وقصص اللاجئين. كانت كلها صعبة، وتمزق القلب. تحدث عن قصة فتاة صمّاء بكماء، تم أسرها وأصبحت أَمَة جنس، ولكن أحدا لم يكن يرغب في شرائها في سوق العبيد. وقد توجّهت هذه الفتاة إلى سيّدتها، وسألتها: “لماذا لا تساعديني؟ لماذا تسمحين لزوجك باغتصابي كل ليلة بدلا من أن تمارسا العلاقات الجنسية معا”. وردّا عليها أجابتها المرأة: إذا ساعدتك في الهرب، سيحضر زوجي امرأة أخرى. أنت على الأقل قادرة على الطهي والتنظيف بدلا منّي”.
في نهاية المحاضرة عرض دنايي مقطع فيديو فيه مقابلة مع اليزيدية نادية مراد، وهي فتاة يزيدية جميلة تم أسرها من قبل داعش وأصبحت أَمَة جنس. بعد أن نجحت في الهروب والتحرّر أصبحت مراد واجهة للنضال اليزيدي في العالم كله. “لقد اغتصبوني واحدًا تلوَ الآخر، اغتصابًا جماعيّا، وسمّوا ذلك “جهاد النكاح” كما تقول. شاهدوا المقابلة:
https://www.youtube.com/watch?v=VRdMzHa6_WA
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني