منذ بداية العهد النازي في ألمانيا، بدأت الإساءة إلى اليهود مُحاوَلةً من النازيين للتضييق عليهم حتّى يهاجروا من البلد. سُنَّ “قانون الموظَّفين” بعد شهر من تولّي هتلر السلطة، وكان يهدف إلى طرد اليهود من وظائف عامّة عديدة أعالوا منها أنفسهم في مجالات كالتربية، الفنون، والصحافة. كان قانون الموظَّفين أحد الإجراءات الأولى لمحاولة جعل وظائف اليهود، أملاكهم، بيوتهم – في الواقع كلّ ممتلكاتهم ووسائل معيشتهم – “آريّة” تمامًا (تحت سلطة الألمان “ذوي العِرق النقيّ”).
كان هذا جُزءًا من الخطوات التي أراد النازيون منها تهجير اليهود من ألمانيا. فقد سُنَّت في أيلول 1935 قوانين “نيرنبرغ” – قوانين عنصرية نصّت على أنّ اليهودي لا يمكنه أن يكون مُواطِنًا ألمانيًّا، وهكذا سُلب كلّ اليهود الألمان جنسيتهم وحقّهم في حماية القانون. وكما ذُكر آنِفًا، حاول النازيون عبر هذه الخطوات أن يدفعوا اليهود إلى حافة اليأس ويُكرهوهم على مغادرة ألمانيا. لكنّ ثلث يهود ألمانيا فقط هاجروا منها خلال السنوات الخمس التي تلت تولي النازيين مقادير السلطة، أي بين 1933 و 1938.
آن أوان أوّل عمل عُنف مُنظَّم للنظام النازي ضدّ اليهود: هجمات رعاع في كلّ أرجاء البلاد حدثت في تشرين الثاني 1938 في أحداث “ليلة البلّور”.
أحد الأحداث الأكثر شُهرةً في تاريخ الهولوكوست هو “ليلة البلّور” (بالألمانية: Kristallnacht)، التي تُدعى أيضًا “مجزرة تشرين الثاني”، إذ كانت ليلة أعمال شغَب ضدّ اليهود في ألمانيا. ما هو معنى الاسم، ولمَ شكّل هذا الحدث نقطة تحوّل في علاقة ألمانيا النازية باليهود، وأدّى إلى تفاقُم سياستها التوسعية الخارجية وتسارُع الإعدادات للحرب؟
لم تكن هذه المرّة الأولى التي تجري فيها اعتداءات عنيفة على اليهود في ألمانيا، لكنّ ما حدث في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني كان مختلفًا بشكل جليّ. فخلال ساعات معدودة، أُحرِقت آلاف أماكن العمل، بيوت العبادة، والمؤسسات اليهودية، سُلبت، وهدمت. راح العشرات ضحايا فيما أُرسِل عشرات الألوف إلى معسكرات الاعتقال.
نالت هذه الأحداث لقب “ليلة البلّور” في وقت لاحق، بسبب انتشار شظايا زجاج واجهات عرض المحالّ التجارية التي كان يملكها يهود.
كانت هذه الليلة القاسية ذروة عملية استمرت طيلة العام 1938، الذي نظر إليه النازيون بصفته “عام الحسم”، سواء في السياسة حيال اليهود، أو في التوسّع الألماني في أوروبا والاستعداد للحرب.
حدثت “ليلة البلّور” بعد عدد من الإجراءات والخطوات الحاسمة: إنشاء معسكرات اعتقال لمُعارضي السياسة النازية؛ تسريع عملية جعل الاقتصاد الألماني “آريًّا”، أي مصادرة ممتلكات اليهود وإقصاؤهم من الحياة الاقتصادية؛ ضمّ النمسا؛ “مؤتمر إيفيان” – الذي اتضح فيه عدم استعداد أية دولة في العالم لاستقبال اللاجئين اليهود؛ القانون الذي ألزم اليهود ذوي الاسم اليهودي الواضح بإضافة الاسمَين “إسرائيل” و “سارة” إلى أسمائهم؛ و”مؤتمر ميونيخ” الذي استجابت فيه فرنسا، إيطاليا، وبريطانيا للطلب الألماني بضمّ إقليم السوديت التابع لجمهورية تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا.
إنّ أحداث مجزرة “ليلة البلّور” التي تمّت بتوجيه من القيادة تبيّن العلاقة بين الخطوات السياسيّة والعسكريّة للنازيين وبين نشاطاتهم ضدّ اليهود.
في 27 – 28 تشرين الأول/ أكتوبر 1938، بدأت ألمانيا النازية حملة الطرد الجماعي الأولى لليهود. فقد طُرد نحو 17 ألف يهوديّ من رعايا ألمانيا الذين يحملون الجنسيّة البولندية إلى بولندا بقسوة شديدة، إلى منطقة البلدة الحدودية زبونشين. رفض البولنديون استقبال المنفيّين، ليجد الأخيرون أنفسهم بلا مأوى في المنطقة الحدودية.
وصف النازيون أحداث ليلة 9 – 10 تشرين الثاني/ نوفمبر في ألمانيا والنمسا أنها اندفاع تلقائيّ ناتج عن سُخط الألمان كردّ فعل على اغتيال “إرنست فون رات” – دبلوماسي في السفارة الألمانية في باريس، رغم أنّ الأمر كان مُخطَّطًا له مُسبقًا. كان المُعتدي شابًّا يهوديّا يُدعى هرشل غرينشبان، أراد الانتقام لطرد أُسرته. إثر عملية الاغتيال، شرع النظام الألماني في حملة تحريض على اليهود، مشجّعًا الجماهير، عبر قواه الأمنية، على الاعتداء الجماعي عليهم.
خلال الليل، أُحرقت وسُلبت معابد اليهود، متاجرهم، ومحالّهم، وغطّت شظايا الزجاج الشوارع، ممّا منح هذه الليلة لقبها.
قُتل خلال الليل أكثر من 90 يهوديًّا وأُرسل نحو 30 ألف آخرين إلى معسكرات الاعتقال. فُرضت غرامة بمقدار مليار مارك على يهود ألمانيا “لتعويض الأضرار التي حصلت”.
شكّلت “ليلة البلّور” الشرارة الأولى لسلسلة إضافية من الخطوات ضدّ اليهود في الرايخ الثالث، وللإدراك أنّ الألمان يمكنهم أن يستمرّوا في زيادة تطرّف سياستهم هذه إلى جانب سياستهم الدولية.
بعد المجزرة، نُشرت مجموعة أوامر إداريّة وقانونية لترويج هذه الأهداف: استكمال إضفاء الصبغة الآريّة على الدولة، تسريع الهجرة، العزل المطلق لليهود عن باقي السكّان، القضاء على تنظيم “الممثليّة القطرية ليهود ألمانيا”، الذي كان تنظيمًا يتمتع بشبه استقلاليّة، والقضاء على الجاليات اليهوديّة.
إثر “ليلة البلّور”، تسارعت الهجرة اليهوديّة من ألمانيا، النمسا، وتشيكيا، اللتَين جرى ضمّهما إلى ألمانيا نهاية 1938 وبداية 1939. لكنّ القيود الشديدة التي فرضتها دول العالم على استقبال اللاجئين اليهود كانت حجر عثرة أمام هجرة أكبر من ألمانيا، وبعد ذلك الدول الأخرى الواقعة تحت حُكم النازيين.
حظيت “ليلة البلّور” بتغطية إعلامية واسعة في الصحافة العالمية، وأثارت صدمة كبيرة في الدول الغربية. سحب الرئيس الأمريكي روزفلت سفيره من برلين، لكنّ النازيين لم يُبالوا، بل ردّوا بسحب سفيرهم من واشنطن. في الواقع، أدّت أحداث “ليلة البلّور” بالدول الغربية إلى الموافقة على استقبال بعض اللاجئين اليهود الإضافيين، لا سيّما الأولاد.