كلّ إسرائيلي ينتمي إلى الديانة اليهوديّة ملزَم بالالتحاق بالجيش مع بلوغه الثامنة عشرة لمدّة ثلاث سنوات للذكور، وسنتَين للإناث. فلا عجبَ أن لا شعار في إسرائيل أقوى من “جيش الشعب”. تنطوي هذه العبارة القصيرة على معنى هائل، حيث تعني أنّ الجيش لا يهدف إلى حماية حدود الدولة وحماية مواطنيها لإتاحة حياة سليمة داخلها فحسب. فبالنسبة إلى دولة مثل إسرائيل، تعني العبارة “جيش الشعب” أنّ الجيش مِلك للشعب كلّه – لكلّ يهودي في العالم، وهو جزءٌ لا يتجزّأ ممّا يعرّفه ويجعله قوميّة.
ميّزت هذه النظرة، التي يمكن تعريفها حتمًا على أنها “مشبَعة بالروح الحربيّة”، بداية تاريخ “جيش الدفاع الإسرائيلي”. وهي تناسِب جيّدًا المعتقد الشائع أن لا ضمانة لدولة إسرائيل لاستمرار وجودها سوى الاتّكاء على القدرة العسكريّة. وبعد سنواتٍ من الحروب وسفك الدماء، يعتقد كثيرون في إسرائيل أنه دون جيش إسرائيل، ما كانت دولة إسرائيل لتبقى.
وكدليل على ذلك، غيّر إسرائيليون كثيرون في يوم الاستقلال الأخير صورتهم الشخصيّة على مواقع التواصل الاجتماعي إلى صُوَر من أيّام خدمتهم العسكريّة. فطريقة هؤلاء الأشخاص للاحتفال باستقلال الدولة هي تذكّر الأيّام التي لبسوا فيها البزّة العسكرية وخدموا دولتهم. ويتجلّى قسمٌ من هذه النظرة التي تربط بين القدرة العسكرية والاستقلال السياسي في الاحتفال بالاستقلال في إسرائيل بعد يومٍ واحد من إحياء ذكرى ضحايا الجيش.
تعتبر إسرائيل الدولة الوحيدة التي تلزم الإناث، وفقًا للقانون، بالانضمام إلى صفوف الجيش (IDF Flickr)
ليس الأمن فقط
فضلاً عن ذلك، يقوم الجيش الإسرائيلي بمهامّ غير أمنية بالضرورة، ولكنها حيوية بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي. وأبرز الأمثلة على ذلك هي تأهيل الملاجئ في الجبهة الداخلية (مهمّة تقوم بها هيئات مدنيّة في بُلدان أخرى)، استيعاب الهجرة إلى إسرائيل، المهامّ التربويّة، وغير ذلك.
تقوم جنديّات عديدات تخدمنَ في الجيش الإسرائيلي بمهمتهنّ في وظيفة “معلِّمة جنديّة”، تدرّس إلى جانب معلّمات محترفات في المدارس. علاوةً على ذلك، للجيش الإسرائيلي محطّة إذاعية مستقلة تنافس المحطّات المدنيّة، وتؤهل الجنود للعمل في الإعلام.
ليست إسرائيل الدولة الوحيدة التي يشغل فيها الجيش مكانةً مركزية كهذه في الوعي القوميّ في الدولة. في تركيا، تُعرَّف القوّات المسلّحة أنها حامية الدستور وسلامة الجمهورية كلّها، منذ عهد أتاتورك. أمّا في مصر، كما نرى هذه الأيام، فمن الصعب على أحدٍ أن ينافس شعبية قائد القوّات المسلّحة السابق، عبد الفتّاح السيسي، وقد أضحت أغنية “تسلم الأيادي” التي تمجّد الجيش المصري الأغنية الأكثر شهرةً في البلاد.
http://youtu.be/_ETI-mMFAUU
هل هو “جيش الشعب” حقًّا؟
ثمة دُول فيها الجيش هو عنصر أمنيّ لا أكثر. صحيح أنّ الجميع متّفقون على أنّ الحياة غير ممكنة دون أمن جسديّ، وأنّ القلق على سلامة المواطنين يجب أن يكون في الدرجة الأولى. لكن هل جزءًا أن يكون الجيش جزءًا أساسيًّا إلى هذا الحدّ من الهويّة القوميّة؟
حتّى داخل إسرائيل نفسها، تُسمَع أصوات تدعو إلى إلغاء التجنيد الإجباريّ، واستبدال نموذج “جيش الشعب” الشعبيّ بنموذج الجيش الاحترافيّ – الجيش الذي جميع جنوده أجيرون. وفق هذا النموذج، لا يكون الجيش ملزمًا باستيعاب يبلغ سنّ الثامنة عشرة، ويمكن للشبّان الإسرائيليين أن يختاروا الجيش أو أية مهنة أخرى.
يُضاف إلى كلّ هذا واقع كون كثيرين في إسرائيل اليوم مُعفَين من التجنيد الإجباريّ، وعلى رأسها المواطنون العرب والمواطنون المتديّنون الحريديون الذين يكرّسون أنفسهم لدراسة التوراة، بحيث إنّ التعبير “جيش الشعب” لا ينطبق على جميع مواطني إسرائيل، بل على جزءٍ منهم فقط.
قانون تجنيد المجتمع الحاريدي في إسرائيل يرفض أن يتلاشى (Flash90/Nati Shohat)
حتّى داخل الجيش نفسه، كان هناك مَن توصّل إلى الاستنتاج أنّ نموذج “جيش الشعب” لم يعُد صالحًا، وأنّ واقع اهتمام الجيش بمهامّ غير مرتبطة بالأمن يشهد على إمكانية تقليصه وخصخصته. وقد أوصت لجنة أنشأها الجيش الإسرائيلي منذ أكثر من عقد أن يجري تحويل الجيش إلى جيش احترافيّ، ويجنّد فقط مَن يلزمونه لأداء مهامّه الأمنيّة.
صرّح أحد أعضاء اللجنة حينذاك بشكلٍ غير مألوف في إسرائيل حتّى ذلك الوقت: “يجنّد الجيش آلاف الجنود دون أن يكون بحاجة إليهم، لكن لا أحد يمتلك شجاعة قول هذه الأمور. يلعب الجيش، في الواقع، دورًا ليس له، ولذلك فإنّ الاقتراح هو أن يُوجَّه هؤلاء الأشخاص، الذين لا يساهمون في الأمن، إلى أماكن يحتاجونهم فيها أكثر. ثمة حاجة إلى الشجاعة للقول: إنه ليس جيش الشعب بعد”. بموازاة ذلك، طُرح اقتراح تحسين ظروف أجر الذين يختارون التجنّد بشكل ملحوظ، بحيث تصبح الخدمة العسكريّة مكان عمل جذّابًا.
النجاعة الاقتصادية والتضامُن الاجتماعيّ
لكن رغم النجاعة الاقتصادية التي تؤمّنها خطوة كهذه، فليس واضحًا أبدًا إن كان الجيش الاحترافيّ سيكون جيشًا أفضل. فقد حذّر الخبير في الاقتصاد دان أريئيلي في إطار مقالة كتبها للموقع الإسرائيلي “كلكليست”: “الخشية هي أنه في جيشِ احترافيّ كهذا، سيكون هناك القليل من الأشخاص الجيّدين ذوي الحافز، القليل من الأشخاص المتوسّطين ذوي الحافز، والكثير من الذين لا تتوفّر لديهم بدائل اقتصادية أفضل، وينضمّون للجيش سنواتٍ طويلة لأن لا مكان آخَر يدفع لهم أكثر. لذلك، اعتقد أنّ إنشاء جيش احترافيّ ليس أفضل للدولة”.
يعني ذلك أنّ إسرائيل تجنّد اليوم خيرة الشبّان اللامعين، الموهوبين، والشجعان الذين يبلغون سنّ التجنّد. لكن إذا أصبح مُستقبل هؤلاء الشبّان مفتوحًا على المنافسة الاقتصاديّة، يُحتمَل أنّ الوحيدين الذين سيختارون البقاء في الجيش هم الأشخاص الأقلّ موهبة.
جنود الاإسرائيليون، “يكتسبون خبرة كبيرة” (Moshe Shai, FLASH90)
وأوضح أريئيلي أمرًا آخَر: “من اللحظة التي يعّرف فيها الجيش نفسه كهيئة تدفع المال، يصبح الراتب أمرًا أساسيًّا ومركزيًّا، ويبدأ الناس بالتفكير فيه، مقارنته، ونسب أهمية له لا تقلّ عن القيَم مثل التطوُّع، التبرّع، والأهمية القومية، التي تضعُف بدورها”. حين تتغلّب المصلحة الاقتصادية على المصلحة القوميّة، لا يُعلَم إلى أيّ حد سيكون للجندي في ساحة المعركة حافز للمخاطَرة.
الادّعاء الآخَر ضدّ الجيش الاحترافيّ يتعلّق بالحجم. ففي دُوَل ضخمة كالولايات المتحدة، يشكّل الجيش أقلّ من 0.4% من السكّان، ومع ذلك يبقى حجمه هائلًا. أمّا الجيش الإسرائيلي فإذا كان هذا هو حجمه النسبي، فلن يزيد عدده على 35 ألف جنديّ – رقم غير كافٍ بالتأكيد للحفاظ على أمن إسرائيل.
ولكن يبدو أنّ الادّعاء الأقوى ضدّ الجيش الاحترافيّ يعيدنا إلى البداية، ويذكّرنا بأهمية الشعور بالتضامُن الناجم عن كون كلّ إسرائيلي تقريبًا مُلزمًا بالخدمة العسكريّة. فالجيش هو العامل المُوحِّد، الذي يجعل معظم الإسرائيليين، إن لم يكن جميعهم، يختبرون بأنفسهم معنى عبارات مجرّدة مثل “التضامُن” و”التكافُل المشترَك”.
هل نرى يومًا تغييرًا جذريًّا كهذا في الجيش الأقوى في الشرق الأوسط؟ لا مؤشرات في الأفق على اقتراب تغييرٍ كهذا. لكن من الجهة الأخرى، لا يبدو أنّ أصوات الداعين إلى خصخصة الجيش ستخفت قريبًا.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني