في قلب مدينة القدس يقع متحف الفنّ الإسلامي. وبخلاف أقرانه من المتاحف الفاخرة، فهو يقع بين مبانٍ سكنية وفي مبنى متوسّط في حجمه وتصميمه. وصلت لزيارة المتحف يوم الثلاثاء الأخير، خلال عطلة عيد الفصح اليهودي، وفي اللحظة التي تجاوزتُ فيها بوابات الدخول العالية تفاجأت: فكلّ ما تم الاحتفاظ به من حيث البهاء الخارجي تمّ استثماره في التصميم الداخلي.
يتألّف المتحف من عدد من المقتنيات التي تهتمّ بالفنّ الإسلامي في فترات مختلفة من التاريخ، مجموعة متغيّرة وأيضًا مقتنيات من الساعات الرائعة والمميّزة، سنذكرها لاحقًا. في المقتنيات الدائمة، يمكن أن نرى معروضات من عهد الحكم الإسلامي في فلسطين (أرض إسرائيل)، بداية من القرن السابع ميلادي، منذ أن حكمت السلالة الأموية، انتهاءً بالقرن التاسع عشر، في أواخر العهد العثماني.
مبنى المتحف، القدس
تنتشر المعروضات في قاعات مختلفة، وهي مرتّبة وفق ترتيب زمني وجغرافي، وفقًا للسلالات الإسلامية المالكة المختلفة. الأمويّون، العبّاسيّون، السلاجقة، الفاطميّون، المماليك، المغول، التيموريّون، الصفويّون، القاجاريّون والعثمانيّون. شكّلت جميع هذه السلالات جزءًا كبيرًا من تاريخ الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية، والفنّ الذي خرج من هذه المناطق يلقى الاحترام الذي يستحقّه في غرف العرض المختلفة في المتحف.
قرّرت افتتاح الجولة في القاعة المركزية: غرفة السلاح. وضِعت الأسلحة القديمة بجانب بعضها بعضًا: سيوف، فؤوس، قوس، سهم ورماح. وأسلحة نارية: كالمسدّسات والبنادق. رغم التطوّرات التكنولوجية – وربّما بسببها بالذات – فإنّ النظر إلى بندقيّة قديمة، والتي استخدمها العثمانيّون في المعارك مع الأعداء؛ هو أمر مثير بشكل خاصّ.
ليس الحديث عن أسلحة تمّ إنتاجها بطريقة صناعية، ونلاحظ الجهد الكبير الذي تم بذله في تجهيزها. بخلاف الأسلحة في أيامنا، يمكن أن نلاحظ بأنّها زيّنت بأشكال ملوّنة وكسوة جميلة، فكانت ترمز الأسلحة في تلك الأيام إلى مكانة خاصّة، أما الزخارف المختلفة فكانت ترمز لأصل المُحَارب. وقد كان في الغرفة الرائعة أدوات قتالية ملوّنة، بما في ذلك الدروع، حاويات البارود والسرج الذي كان يستخدم للركوب على الخيل، قبل 500 عام وأكثر.
لاحظت أنه كانت تنتظرني متعة خاصّة في كلّ غرفة وغرفة. سواء كان الحديث عن جرّة فارسية، مصابيح زجاجية من حلب، خزانة أدراج من الهند أو أقراط من دمشق؛ فالمعروضات المختلفة رائعة وتعكس واقعًا مختلفًا. واقع يتم فيه التركيز على التفاصيل الصغيرة التي كانت أساس الحياة. من الصعب ألا تُعجب من مستواها الجمالي الفائق. كان مستوى الدقّة الذي توصّل إليها الفنّانون في تلك العهود رائعًا في نظري.
أرجيلة يعود أصلها الى الهند وعمرها 300 عام
في غرفة الآلات الموسيقيّة، توجّه إليّ شخص اسمه أمير، في سنوات العشرين من عمره، حيث كان يزور المتحف للمرة الأولى. “هل تعلم أنّه لولا الإسلام، فيبدو أنّ موتسارت وبيتهوفن لم يكونا ليشتهرا؟”، يسأل وهو مقرّرا. نظرت إليه وأغلقت شفتايّ مرتبكًا، لا أفهم إلى أيّ شيء يهدف الشاب اللطيف في كلامه.
ابتسم أمير – الذي أخبرني لاحقًا أنّه يدرس علم الموسيقى – وأوضح أنّ هذا كان سؤالا استنكاريّا، وأنّه سيكون سعيدًا ليشرح لي. هدأت. بفضل اللقاء غير المعدّ له مسبقًا، اكتشفتُ أنّ جيوش الإسلام هي التي جلبت أدوات العزف من الشرق القريب والبعيد إلى أوروبا، في إطار حملاتها المختلفة. فالعود هو الأب الروحي للغيتار، والفلوت من الناي، وتطوّرت الدربكّة لنظام الطبول المتطوّر والتي ترافق معظم الأغاني التي يتمّ إنتاجها اليوم.
رغم أنّ الإسلام عارض آلات العزف، التي كانت تنتمي لثقافات وثنية، فقد أكثر المسلمون أنفسهم من استخدامها في المناسبات الاجتماعية، باحات الملوك والقرى النائية. كنت أتساءل لماذا لم يتمّ الحفاظ على هذه الثقافة الموسيقية، مثل الثقافة التي نشأت في أوروبا قبل 300 عام. “انتقلت الموسيقى من جيل إلى جيل دون وجود نوتات، وكانت قاعدتها الارتجال”، أجاب الطالب الذكي.
معرفة مكثّفة جديدة، أكملت تجوّلي ووصلت إلى “ثروة هراري”: كنز ثمين من 20 أداة من الفضّة الفاخرة منذ 1000 عام (!) فقد وجدها الباحث رالف هراري داخل وعاء كبير في مدينة نهوند شمال إيران. من بين الأدوات عثرت على أطباق، أدوات للبخور وزجاجات استُخدمت – كما يبدو – لتخزين العطور.
زُيّنت الأدوات بمجموعة من العناصر التقليدية، مثل الأرابيسك، شِعريّات وشخصيات لحيوانات مختلفة، وقد صُنعت باستخدام مجموعة متنوّعة من النقوش، التذهيب وترصيع الأحجار الكريمة. تمّ الحفاظ على هذه العناصر بحالة ممتازة، غير أن عوامل الزمن ليست واضحة فيها.
غرفة استراحة على الطراز الإسلامي
واصلتُ – مشدوهًا من هذه المجموعة المتميّزة – إلى القسم “غير الإسلامي” الوحيد في المتحف، وهو معرض للساعات القديمة. في غرفة مظلمة وهادئة بشكل خاصّ، تم وضع وتعليق ساعات عمرها بين 200 – 300 عام، استخدمتها طبقة النخبة. صُنعت معظمها بيد لويس بريغيه الفرنسي، والذي بالإضافة إلى الجانب الجمالي، اهتمّ بإدخال إتقان تلك الفترة وهكذا جعلها تصل إلى مستوى دقّة الساعات الرقمية المعاصرة.
عام 1983، سُرقت المجموعة من المتحف، في حملة معقّدة وجريئة والتي يمكن تمثيلها في سيناريو هوليوودي. بعد 23 عامًا فقط من المطاردات والمراقبة، تمّ العثور على المجموعة وأعيدَت إلى مكانها. ماذا يمكننا أن نقول؛ لقد كانت تستحقّ الانتظار. رغم أنّ الساعات غير متعلّقة بالفنّ الإسلامي، فهي تضيف سحرًا خاصّا إلى المتحف.
سجاجيد حائط مزخرفة بطريقة رائعة، أبواب ذهبيّة مذهلة، دمى من العاج بمنظر “خارق” وبلاط “الكاشان” والتي امتزجت مع الحكايات. يوفّر هذا المتحف عددًا لا يعد ولا يحصى من زوايا عرض تاريخ الإسلام الغنيّ والساحر، والمكان المحوري الذي كان للفنّ في حياة الحكّام، وكذلك في حياة المؤمنين.
لدى خروجي من غرفة العرض الأخيرة التي في الطابق الأعلى، وقعت عيناي على أرجيلة، والتي تعود إلى 300 عام وأصلها من الهند. للحظة خطر في ذهني فكرة استنشاق شهيّ لتبغ عالي الجودة، للتخفيف من وطأة كمّية المعلومات الهائلة التي تعرّضتُ لها في الساعات الأخيرة.
ولكن على ما يبدو أنّ هناك من حاول ذلك قبلي، لأنّني لاحظت على الفور وجود الإطار الزجاجي الذي يحافظ على الأرجيلة ويحرسها. اكتفيت بالتصوير. في حوار ذاتي، أعلنت عن هذا اليوم يومًا ناجحًا، ووعدتُ نفسي بأن أعود إلى هنا قريبًا. الاستنتاج من هذه الزيارة؟ نتعلّم أشياء جديدة دومًا.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني