في هذه الأيام، يصادف 77 عاما على مذبحة “الفرهود” التي قُتل فيها يهود عراقيون وكانت قد حدثت في بداية حزيران 1941. في تلك الحادثة الخطيرة المعروفة بـ “ليلة البلور ليهود العراق”، قُتِل 179 يهوديا وأصيب الآلاف، وتعرضوا للاغتصابات والتحرشات. يعتقد اليهود العراقيون أن مذبحة “الفرهود” شبيهة بالمذبحة التي نفذها النازيون قبل ثلاث سنوات من ذلك بحق اليهود في ألمانيا. وهم يدعون أن التحريض ضد السامية وصل من ألمانيا إلى بغداد وأدى إلى تلك الأعمال الرهيبة.
حتى الآن رفضت دولة إسرائيل، الاعتراف بالعلاقة بين مذبحة “الفرهود” وبين النظام النازي، لذلك لم تدفع تعويضات مالية للضحايا. في شهر شباط الماضي، رفضت إسرائيل شكاوى 2000 يهودي عراقي من الناجين من مذبحة “الفرهود” الذين طالبوا الاعتراف بهم كمتضرري الأعمال النازية. “ليس هناك مكان للجدل بشأن مسؤولية ألمانيا النازية لكارثة الشعب اليهودي”، كتب رئيس المحكمة المركزية في حيفا، رون شبيرا، ولكنه تحفظ معربا أنه لا يمكن نسب العلاقة بين ألمانيا النازية وبين “كل ما يتعلق بمذابح اليهود مهما كانت”.
في شهر آذار الماضي، قدم الناجون من مذبحة “الفرهود” التماسا إلى المحكمة العُليا، جاء فيه، من بين أمور أخرى: “وصلت موجات الكراهية، الوحشية، التي بدأت في برلين أثناء حكم النازيين إلى دجلة والفرات، وأدت إلى قتل اليهود. يهود العراق هم من متضرري الاضطهاد النازي”.
تحدثت آراء خبراء التاريخ، التي وصلت إلى المحكمة طيلة سنوات، عن العلاقة بين الحملة التسويقية النازية ومذبحة “الفرهود”. أوضح دكتور إدي كوهين، الذي يهتم بالحملات التسويقية النازية للدول العربية: “ساهمت الحملة التسويقية النازية باللغة العربية في إدخال ظاهرة معادة السامية المتطرفة إلى الشرق الأوسط. وعززت الكراهية ضد اليهود، حتى أدت إلى اندلاع مذبحة “الفرهود” وارتكاب عمليات القتل.
ولكن منذ بدأ الناجون في عام 2011 نضالهم، رفضت المحاكم الإسرائيلية ادعاءاتهم. “لا يشير أي من الحملات التسويقية النازية إلى أنها كانت السبب في كراهية اليهود واندلاع مذبحة ‘الفرهود’. لا يمكن أن نؤكد أن التحريض الألماني هو الذي أدى إلى مذبحة ‘الفرهود’،” كتب القضاة.
رغم ذلك، يأمل متضررو تلك المذبحة بأن تقبل المحكمة العليا ادعاءاتهم وتأمر الدولة بدفع تعويضات لهم مثلما دفعت لليهود الذين تضرروا من الأعمال النازية.
يعيش اليوم في بغداد 8 يهود فقط، بقية لجالية عريقة تعود جذورها إلى أكثر من 2500 عام. اقرأوا قصة هذه الجالية وتعرفوا إلى 5 إسرائيليين معروفين انحدروا منها
“يهود بابل” – هذا هو اللقب الذي يستخدمه حتّى اليوم كثير من اليهود ذوي الأصل العراقيّ الذين يقطنون في إسرائيل للإشارة إلى أنفسهم. يهود بابل، لا يهود العراق. ليس بلا سبب تفضيلُ عديدين اللقب القديم على اسم الدولة العصرية التي أتَوا منها – فالجالية اليهودية في العراق ذات جذور تاريخية ضاربة في العمق، تصل إلى دمار الهيكل الأول في أورشليم عام 607 قبل الميلاد.
فقد سبا ملك الإمبراطورية البابلية، نبوخذنصر الثاني، اليهود من موطنهم التاريخي إلى بابل البعيدة، حيث نشأت جالية يهودية جديدة ومزدهرة. لم يتوقف يومًا الحنين إلى الموطن، ويتجلى ذلك في المزمور 137، العدد 1: “عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ، هُنَاكَ جَلَسْنَا. بَكَيْنَا أَيْضًا عِنْدَمَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ”. لكن في فترةٍ متأخرة أكثر تاريخيًّا، مثل فترة كورش، التي أُجيز فيها لليهود بأن يعودوا إلى أورشليم، بقيت جالية يهود بابل قائمة وكبيرة.
النموّ والازدهار
كانت جالية يهود بابل الأكبر والأكثر ازدهارًا بين الجاليات اليهودية، حتّى حين تشتّت اليهود في كلّ أرجاء المعمورة. فقد كانت الجالية مركزًا تجاريًّا وحضاريًّا مزدهرًا، فضلًا عن كونها مركزًا روحيًّا ودينيَّا ذا أهمية كبرى. تجمّع جميع حكماء الديانة اليهودية بين نهرَي دجلة والفرات، وأقاموا هناك قرونًا. تعاملت الإمبراطورية البارثية التي سيطرت على المنطقة جيّدًا مع اليهود، ومنحتهم حقوقًا بإدارة مستقلّة وحريّة ثقافيّة. في هذه الفترة، بلغ الفِكر اليهودي إحدى ذُراه، في تأليف “التلمود البابلي”. كذلك في السنوات اللاحقة، تحت حُكم الساسانيّين، كان اليهود محميّين من أيّ أذى.
قبر حزقيال (ذو الكفل) في مدينة الكفل العراقيه (AFP)
مع انتشار الإسلام وسيطرة الخلفاء، بدءًا من القرن السابع الميلادي، تحسّن كثيرًا وضع يهود بابل، إذ أصبح للمرة الأولى معظم يهود العالم تحت السيادة نفسها – سيادة الإسلام. لكنّ هذا التعامُل لم يكُن ثابتًا، إذ كان وضع اليهود يعتمد على نظرة الحاكم. ورغم أنّهم نعموا غالبًا بالأمان، لكنهم كانوا تحت تهديد أحكامٍ – مثل حظر الخليفة عُمر بن عبد العزيز في مطلع القرن الثامن أن يلبسوا كالعرب أو أن يعيشوا حياة رفاهية، أو حُكم الخليفة المتوكّل في القرن التاسع، الذي ألزمهم بلبس ثياب خاصّة تكون علامة عار. في فترة الخليفة المأمون، دُعي اليهود “أخبث الأمم”، ودُمّرت مجامع يهودية كثيرة في عهده. في القرون الوسطى، هجر يهود كثيرون بغداد ومحيطها للسكن في الأندلُس، التي أصبحت مركزًا إسلاميًّا مزدهرًا في العالم.
كانت الفترة العثمانية أيضًا فترةً مفعمة بالتقلّبات بالنسبة للجالية في العراق. لكن كلّما ازدادت موجات الدمقرطة، تحسّن وضع اليهود، الذين شكّلوا جزءًا هامًّا من الحياة العامّة والتجاريّة في العراق. عام 1908، حصل جميع يهود العراق على مساواة في الحقوق وحرية دينية كفلها القانون، حتّى إنّ بعضهم أُرسل لتمثيل العراق في البرلمان العُثمانيّ.
كنيس مهجور في مدينة الفلوجة (ِAFP)
بعد الحرب العالمية الأولى وتتويج فيصل ملكًا على البلاد، تحسّن وضع اليهود أكثر فأكثر. كان وزير المالية الأول للعراق في العصر الحديث يهوديًّا، اسمه حسقيل ساسون . اتّخذ ساسون عددًا من القرارات التي أسهمت في استقرار الاقتصاد العراقي في القرن العشرين، بما فيها تنظيم تصدير النفط إلى بريطانيا. وبشكل عامّ، أضحت أسرة ساسون البغداديّة إمبراطوريّة اقتصاديّة امتدّت من الهند شرقًا حتّى أوروبا غربًا.
أمّا ما زاد شهرة يهود العراق أكثر من أيّ شيء آخر في العصر الحديث فهو موسيقاهم. فقد اشتُهر الكثير من اليهود بفضل مواهبهم الموسيقيّة، وفي مسابقة الموسيقى في العالم العربي التي أُقيمت في القاهرة في الأربعينات، فاز الوفد العراقي، الذي تألّف من موسيقيين يهود ومُطرب مسلم واحد. ويُذكَر بشكل خاصّ صالح وداود الكويتي، اللذان أنشآ فرقة الإذاعة الموسيقية الوطنية في العراق، حتّى إنهما غنّيا في حفل تنصيب الملك فيصل الثاني.
التدهوُر والمغادَرة
حدث التدهوُر الأكبر في وضع يهود العراق مع صعود النازيين في ألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين. فقد عملت السفارة الألمانية في بغداد بوقًا لرسائل لاساميّة أدّت تدريجًا إلى تغيّر نظرة العراقيين المسلمين إلى إخوتهم اليهود. فعام 1934، فُصل عشرات الموظَّفين اليهود من وزارة الاقتصاد، عام 1935 فُرضت قيود على عدد اليهود في المدارس، وعام 1938 أُقفلت صحيفة “الحصاد”، لسان حال يهود العراق.
مجموعة حاخامات يهود في بغداد عام 1910 (Wikipedia)
وكانت الذروة عام 1941، بعد فشل الانقلاب الذي قاده رشيد عالي الكيلاني، الذي سعى إلى طرد البريطانيّين وإنشاء سُلطة ذات رعاية ألمانية – نازيّة. في تلك السنة، حدث ما يُعرف بالفرهود – المجزرة الأكبر بحقّ يهود العراق. في إطار الاضطرابات، قُتل 179 يهوديًّا، أصيب 2118، تيتّم 242 طفلًا، وسُلب الكثير من الممتلكات. وصل عدد الأشخاص الذين نُهبت ممتلكاتُهم إلى 50 ألفًا، ودُفن الضحايا في مقبرة جماعيّة في بغداد.
كانت النتيجة المباشرة للمجزرة تعزيز قوة الصهيونية، والإدراك أنّ فلسطين (أرض إسرائيل) وحدها تشكّل ملاذًا آمنًا ليهود العراق. فاقم إنشاء دولة إسرائيل ونتائج حرب العام 1948 أكثر وأكثر التوتر بين اليهود والمسلمين في العراق. فاليهود الذين اشتُبه في ممارستهم نشاطاتٍ صهيونية قُبض عليهم، احتُجزوا، وعُذِّبوا.
عام 1950، سنّت الحكومة العراقية قانونًا يسري مفعوله لعامٍ واحد، أتاح لليهود الخروج من البلاد شرطَ تنازُلهم عن جنسيّتهم العراقية. أُتيح لكلّ يهودي يبلغ عشر سنوات وما فوق أن يأخذ معه مبلغًا محدَّدًا من المال وبضعة أغراض. أمّا الممتلكات التي خلّفوها وراءهم فكان يمكنهم بيعها بمبالغ ضئيلة.
نتيجة ذلك، أطلقت دولة إسرائيل عملية باسم “عزرا ونحميا” تهدف إلى إحضار أكبر عددٍ ممكن من يهود العراق إلى البلاد. وكلّما زاد تدفّق اليهود الذين غادروا العراق، ازدادت مضايقات اليهود، حتّى إنّ البعض منهم فقد حياته.
عائلة يهودية عراقية
منذ 1949 حتّى 1951، فرّ 104 آلاف يهودي من العراق ضمن عمليات “عزرا ونحميا”، و20 ألفًا آخرون هُرِّبوا عبر إيران. وهكذا، تقلّصت الجالية التي بلغت ذروة من 150 ألف شخص عام 1947، إلى مجرّد 6 آلاف بعد عام 1951. أمّا الموجة الثانية من الهجرة فحدثت إثر ارتقاء حزب البعث السلطة عام 1968، إذ هاجر نحو ألف يهودي آخرين إلى إسرائيل. اليوم، يعيش في بغداد عددٌ ضئيل من اليهود، كما يبدو مجرّد ثمانية.
جمّدت السلطات العراقية الممتلكات الكثيرة لليهود الذين هجروا البلاد. ويُقدَّر أنّ قيمة الممتلكات كانت تبلغ نحو 30 مليون دولار في الخمسينات. أمّا بقيمة اليوم، فيمكن القول إنّ يهود العراق تركوا وراءهم ممتلكاتٍ تُقدَّر قيمتها بـ 290 مليون دولار.
خمسة إسرائيليّين – عراقيين عليكم أن تتعرفوا إليهم
عائلة يهودية عراقية تصل الى مطار اللد عام 1950 (WIKIPEDIA)
بدءًا من الخمسينات، ازدهرت جماعة يهود بابل في دولة إسرائيل. لم تكُن صعوبات الاستيعاب في الدولة الفتيّة بسيطة، وكان عليهم أن يناضلوا للحفاظ على هويّتهم الفريدة مقابل يهود أوروبا الشرقية، الذين رأوا فيهم ممثّلين أقل قيمة للحضارة العربية. لم تقدِّر السلطات الإسرائيلية الممتلكات الكثيرة والغنى الحضاري الذي تركوه وراءهم في بغداد والبصرة، ولم يتمكّن يهود العراق من إيجاد مكانة لهم بين سائر المهاجرين: المهاجرين من أوروبا الشرقية من جهة، والمهاجرين من شمال إفريقية من جهة أُخرى.
لكن كلّما مّرت السنون، تعرّف الشعب الإسرائيلي إلى أهمية وإسهامات المهاجرين من العراق، ووصل بعضٌ منهم إلى مواقع مركزيّة في السياسة، الثقافة، والمجال المهنيّ في إسرائيل. إليكم خمسة عراقيين يهود إسرائيليين، عليكم أن تتعرّفوا إليهم:
الحاخام عوفاديا يوسف – وُلد عام 1920 في بغداد باسم “عوفاديا عوفاديا”، وأصبح مع الوقت الزعيم الديني دون منازع لجميع يهود الشرق في إسرائيل. وضع الحاخام، الذي اعتُبر معجزة دينيّة منذ طفولته، أولى مؤلفاته الدينية في التاسعة من عُمره. يتذكّره كثيرون في إسرائيل بسبب إجازته الفقهيّة لعمليّة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكن أيضًا بسبب زلّات لسانه العديدة. فقد قال مثلًا عن أريئيل شارون: “ليُنزل عليه الله – تبارك وتعالى – ضربةً لا يقومُ منها”، ووصف رئيس الحكومة نتنياهو بأنه “عنزة عمياء”.
بنيامين “فؤاد” بن إليعيزر – الطفل الصغير من البَصرة الذي أمسى قائدًا عسكريًّا بارزًا في إسرائيل، وبعد ذلك سياسيًّا شغل عددًا كبيرًا من المناصب الوزارية، وكان صديقًا مقرَّبًا من الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك. فبعد أن كان وزير الإسكان في حكومة رابين، وزير الدفاع في حكومة شارون، ووزير الصناعة في حكومتَي أولمرت ونتنياهو، تتجه أنظار “فؤاد” الآن إلى المقام الأرفع، إذ يسعى إلى أن يكون أوّل رئيس عراقي لدولة إسرائيل.
دودو طاسا – حفيد داود الكويتي الذي أضحى هو نفسه موسيقيًّا كبيرا ورياديًّا في إسرائيل. يدمج تاسا بين الأسلوب الغربي وبين الموسيقى العراقية التقليدية، ويُذكَر بشكل خاصّ أداؤه لأغنية فوق النخل ، التي اشتُهرت بأداء جدّه. قادت الأغنية إلى ألبوم يعزف فيه تاسا أغاني الكويتيَّين (داود وصالح).
إيلي عمير– الأديب الذي جسّد أفضل من أيّ شخص آخر مشاعر القادِمين من العراق. عبّر كتابه “ديك الفِداء”، الذي كتبه على مدى 13 عامًا، بشكل دقيقٍ عن مصاعب شابّ ذي أصل عراقي يستصعب الوصل بين عالم والدَيه الماضي وبين عالَم رجال الكيبوتز ذوي الأصول الأوروبية، الذي أراد الاندماج فيه. بقيت لغته الأم عربية، وهو حزين للإكراه الثقافي الإسرائيلي، الذي ألزمه بمحو ماضيه. مع السنوات، أضحى عمير ناشطًا في حزب العمل الإسرائيلي.
إيلي يتسفان – كبير الكوميديين الإسرائيليين هو في الواقع من أصل عراقيّ. فرغم أنه وُلد في إسرائيل، والداه كلاهما عراقيّان. سمع يتسفان، أصغر خمسة أبناء، العربية العراقية تصدح في بيته، وأصبح مقلّدًا موهوبًا قادرًا على تمثيل شخصية أيّ إنسان، ولا سيّما شخصيات من العالم العربي. كاد تقليده للرئيس المصري محمد حسني مبارك (الذي أعطى مبارك لهجة مختلطة – مصريّة وعراقيّة) يقود إلى أزمة في العلاقات الإسرائيلية – المصريّة.
طوال قرون، كان يهود العراق من أكبر وأهمّ الجاليات اليهودية في العالم. في نهاية عشرينات القرن التاسع عشر، كان يعيش في العراق نحو 120 ألف يهودي، معظمهم في بغداد (نحو 90 ألفًا) والبصرة (نحو عشرة آلاف)، والباقي في الموصل، كركوك، السليمانية، أربيل، وبلدات وقرى صغيرة.
جالية انقرضت
شكّل اليهود نحو 2.5% من عدد السكّان عامّةً، ونحو 25% من سكّان العاصمة. في الثلاثينات، كان يهود العراق جالية منظّمة، مشاركة في الحياة الاقتصادية والسياسية في البلاد أكثر من باقي يهود المشرق. مع ذلك، غادر معظم اليهود العراق بعد الحرب العالمية الثانية، فوصل بعضهم إلى الصين مستقرّين في شنغهاي، أمّا البعض الآخَر فانتهى الأمر بهم في فلسطين، خصوصًا بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948. وانتهى الحال بالجالية العريقة وحضارة يهود العراق الممتدّة آلاف السنين إلى الانقراض والاضمحلال بشكل شبه كليّ.
فكيف جرى ذلك ولماذا؟ كانت نقطة التحوّل السلبية في وضع اليهود في تشرين الأول 1932، حين انتهى الانتداب البريطاني وأُعلن استقلال العراق، ولا سيّما بعد وفاة الملك فيصل الأول عام 1933. منذ موت فيصل حتى عام 1941، شهد العراق خمسة انقلابات عسكريّة. كانت الحركة الوطنية العراقية في مرحلة التبلوُر والتصاعُد، وتميّزت بكراهية الغرباء والأقليّات.
عائلة يهودية عراقية
ممثليّة نازية في العراق
حصلت التحوّلات الداخلية في العراق بالتوازي مع صعود النازيين إلى سدّة الحكم في ألمانيا، تعاظُم الدعاية النازية في العراق، وتدهوُر العلاقات بين العرب واليهود في فلسطين. في تشرين الأول 1932، وصلَ بغداد المندوبُ الألماني د. فريتز غروبا، مستشرِق نجح في ملاءمة الدعاية النازية لآمال العراقيين.
تملّكت السفارة الألمانية صحيفة “العالم العربي”، فنُشرت فيها على أجزاء اعتبارًا من تشرين الأول 1933 الترجمة العربية لكتاب هتلر “كفاحي”، وكذلك موادّ دعائية تمدح الأنظمة الفاشيّة. دُعي مثقّفون وضبّاط في الجيش إلى زيارة ألمانيا كضيوف للحزب النازي. وبتأثير الأيديولوجيات الفاشية، أُسّست في العراق تنظيمات قوميّة متطرّفة.
في أيلول 1934، بدأ تمييز رسميّ ضدّ اليهود مع إقالة عشرات الموظفين اليهود من المؤسسات الحكومية. وواجه اليهود الذين أرادوا السفر إلى فلسطين صعوبات بيروقراطية، وطُلب منهم أن يودعوا 50 دينارًا حتّى عودتهم؛ وتزايد الضمان مع الوقت حتّى بلغ 3000 دينار. في شباط 1936، أُقيل نحو 300 موظّف يهودي، كثيرون منهم على مستويات رفيعة.
مع اندلاع الثورة العربية في فلسطين عام 1936، ساءت النظرة إلى اليهود، إلى درجة إلحاق الأذى بهم. وفي تشرين الأول 1939، وصل إلى بغداد مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني (الذي كان كارهًا لليهود وربطته صلات وثيقة بهتلر، كما هو معلوم).
الحاج أمين الحسيني وأدولف هتلر، برلين 1941
منذ 1939، بات على جميع طلّاب المدارس الثانوية ومدرّسيهم الانضمام إلى “الفتوة”، تنظيم شبابي ربطته صلات وثيقة بالتنظيم الشبابي الألماني النازي، “هتلريوغند” (“شبيبة هتلر”)، حتّى إنّ التنظيمَين تبادلا زيارات الوفود.
اليهود يُمسون أهدافًا حيّة
في أيلول 1936، قُتل ثلاثة يهود. وفي يوم الكفارة من السنة نفسها، أُلقيت قنبلة على الكنيس في بغداد، لم تتسبّب بكارثة بالصدفة. وبات التحريض الواضح على اليهود في التظاهرات، الصحف، والبيانات أمرًا شائعًا. عام 1938، أُقفلت صحيفة “الحاصد”، التي كان يملكها يهود. وازدادت وتيرة التحريض اللاساميّ والاعتداءات الجسدية.
خلال الخرب العالمية الثانية، شهد العراق انقلابًا، أدّى إلى وصول مجموعة ضبّاط بقيادة رشيد عالي الكيلاني إلى السلطة وتأسيسها حزبًا داعمًا للألمان. فشهد الإعلام والتجمّعات الجماهيرية انتشار دعاية مضادّة للإنجليز ولليهود. ونُظّمت تظاهرات ضدّ اليهود، انتهى بعضُها باعتداءات. تعرّضت أموال الجالية للابتزاز، وخُصّص الكثير من المال لمحاربة الإنجليز. فسُجن اليهود وعُذِّبوا بتهمة التجسس أو بعُذر أنهم يوجّهون الطائرات البريطانية التي كانت تحلّق في سماء بغداد.
أوكلت حقيبتا الإعلام والأمن الداخلي ليونس السبعاوي، الذي كان نصيرًا للنازيين وعُرف بلا ساميّته، إذ شجّع اضطهاد اليهود. تعرّضت المدارس اليهودية للاعتداء وعانى اليهود من هجمات عنيفة على منازلهم في بغداد.
كان أحدُ الأحداث البارزة في تاريخ يهود العراق السطوَ الكبير على متاجر يهود البصرة. حدث ذلك بعد احتلال البريطانيين المدينة وفرار سلطات الكيلاني، ممّا أبقى المدينة دون سلطة عمليًّا. في 19 أيّار، استغلّ الرعاع الوضع، اقتحموا الحيّ التجاريّ في البصرة، وسلبوا وخرّبوا المتاجر والحوانيت اليهودية، غير مُبقين فيها شيئًا تقريبًا.
“ليلة البلور” ليهود العراق
حدث أخطر الأحداث في تاريخ يهود العراق بعد بضعة أيّام، بعد أن احتلّ الإنجليز العاصمة بغداد. ففي أوّل حزيران، عشية عيد الأسابيع اليهودي، اصطدم في جسر الخور جنود عراقيّون، مُحبَطون جرّاء الهزيمة أمام الإنجليز، بيهود خرجوا لاستقبال الوصيّ المناصر لبريطانيا، الأمير عبد الإله، القادم إلى العاصمة. انضمّ الجموع إلى الجنود، وخلال ساعات قليلة جرى اقتحام الأحياء اليهودية في المدينة.
بين الرعاع كان مسلمون من الطبقات الفقيرة، بعض المسيحيين الذين قادوا المُهاجِمين إلى بيوت اليهود، ولاحقًا بدوٌ من المنطقة أيضًا. لم تتحرّك الشرطة، ولم تتدخل السلطات العسكرية الوقتية سوى بعد الخشية من خروج الفوضى عن السيطرة وإلحاق الأذى بغير اليهود. تصدّرت المُشاغِبين كتائبُ الشبيبة “الفتوة”، التي درّب بعض مجموعاتها يونس السبعاوي نفسُه.
راح ضحيّة الهجمات 179 شخصًا، فيما أُصيب 2118. تيتّم 242 ولدًا، وسُلبت ممتلكات 48,584 شخصًا. تُثير الأعمال الوحشية التي جرت أثناء المذبحة الاشمئزاز، فقد شملت قتل أطفال رُضَّع، نساء، وشيوخ مع التمثيل بجثثهم، اغتصابات، وكذلك اعتداءات على كُتب توراة وأغراض مقدّسة يهودية. لُقّبت الاعتداءات لاحقًا “الفرهود”، وهي تُدعى أحيانًا “ليلة البلّور ليهود العراق”، إشارةً إلى الليلة الشهيرة التي شهدت قبل بضع سنوات في ألمانيا وحشيّة ضدّ اليهود، إذ فُجّرت دور عبادة وأُحرقت كتب دينية يهودية.
من العراق إلى إسرائيل
بعد أحداث 1941، ظلّت القيادة التقليدية تعتقد أنّ أحداث “الفرهود” كان عابرة، وأنه يجب محاولة الاندماج في المجتمع العراقي، لا سيّما في ظلّ إغراءات الغنى إثر الازدهار الاقتصادي الذي تلا انتصار البريطانيين، ولكنّ الشبّان بدأوا بالبحث عن واقع أفضل. فقد توجّه معظم الشبّان إلى الصهيونية، أنشأوا تنظيمات محلية، وأسّس لاحقًا مبعوثون من فلسطين فرعًا لتنظيم “الهاغاناه” في العراق. التحق شبّان آخَرون بالحركات الشيوعية، التي بدأت تكتسب شعبيّة إثر تعزّر قوّة الروس في الحرب. وعملت جميع هذه القوى تحت الحظر.
عائلة يهودية عراقية تصل الى مطار اللد عام 1950 (WIKIPEDIA)
خلال الحرب، وأكثر أيضًا بعد انتهائها وإنشاء دولة إسرائيل، بدأت تعمل التنظيمات اليهودية المحظورة لتهريب اليهود إلى فلسطين (أرض إسرائيل)، رغم الحظر الشديد على مغادرة العراق، بشكل خاصّ عبر إيران. وفي مطلع الخمسينات، قادت السلطات الإسرائيلية حملة ضخمة أفضت إلى تهريب 110,618 يهوديًّا من العراق إلى إسرائيل عبر الطائرات. ولم يبقَ سوى بضع مئات من اليهود، معظمهم كبار في السنّ، أصرّوا على البقاء أو لم ينجحوا في المغادرة. ولم يبقَ من الجالية اليهودية العريقة التي استوطنت العراق في الماضي، وفق التقديرات، سوى ثمانية يهود.
وافقت لجنة التربية في الكنيست اليوم قبيل القراءة الثانية والثالثة على اقتراح قانون لإحياء ذكرى مغادرة وطرد يهود الدول العربية وإيران. سيدخل القانون حيّز التنفيذ بعد الموافقة عليه من قبل الهيئة العامة للكنيست.
في السنوات التي سبقت تأسيس دولة إسرائيل، عاش مئات الآلاف من اليهود في دول شمال إفريقيا، الشرق الأوسط والخليج العربي. وعقب الصراع العربي – الإسرائيلي تضرّر اليهود في الدول العربية وإيران من العنف والقوانين التمييزية على خلفية يهوديّتهم، ولم يحظوا بحماية السلطة الحاكمة في تلك البلاد. حتى أنه في بعض الدول حدث طرد اليهود.
حسب ادعاء المبادرين إلى القانون، فإنّ الأغلبية الساحقة لليهود الذين تركوا تلك البلاد، أو طُردوا منها، تركوا خلفهم ممتلكاتهم أو ممتلكات تابعة للجالية اليهودية وحُظر عليهم حظرًا تامًّا استخدامها أو إخراجها من البلاد.
جوقة يهودية في الإسكندرية (Wikipedia)
في العراق وقعت حادثة الفرهود في حزيران عام 1941، وهو اسم أطلق على سلسلة من أعمال الشغب التي قُتل فيها 179 يهودي، وأصيب 2,118، وأصبح 242 طفلا أيتامًا وتمّ نهب الكثير من الممتلكات. وبلغ عدد الأشخاص الذين نُهبتْ ممتلكاتهم خلال الفرهود نحو 50,000 شخص. بعد ذلك، عانى سائر يهود البلاد العربية من المذابح: بعد قرار الأمم المتحدة بإقامة دولة يهودية وعربية في 29 تشرين الثاني عام 1947 أقيمتْ مذابح ضدّ يهود عدن، وقُتل 82 يهوديًّا. وقد أقيمت في المغرب بعد إعلان دولة إسرائيل مذابح وجدة وجرادة والتي قُتل فيها 42 يهوديًّا. هذه هي ثلاثة نماذج من بين مواجهات كثيرة أخرى.
يقترح قانون إحياء ذكرى مغادرة وطرد اليهود من الدول العربية أن يتمّ تحديد يوم الثلاثين من تشرين الثاني، وهو اليوم الذي تلا قرار التقسيم في الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1947، باعتباره يوم ذكرى مغادرة وطرد اليهود من الدول العربية وإيران. ستتطرّق الكنيست إلى هذا اليوم في نقاش خاصّ، سيختصّ بحالة يهود الدول العربية وحقوقهم.
لا يعيش أكثر من ثمانية يهود اليوم في بغداد، لكنهم بقيّة جاليةٍ مجيدة تعود جذورها إلى أكثر من ألفَين وخمسمائة عام؛ وأيضًا: خمسة عراقيين إسرائيليين يجب أن تتعرفوا إليهم
“يهود بابل” – هذا هو اللقب الذي يستخدمه حتّى اليوم كثير من اليهود ذوي الأصل العراقيّ الذين يقطنون في إسرائيل للإشارة إلى أنفسهم. يهود بابل، لا يهود العراق. ليس بلا سبب تفضيلُ عديدين اللقب القديم على اسم الدولة العصرية التي أتَوا منها – فالجالية اليهودية في العراق ذات جذور تاريخية ضاربة في العمق، تصل إلى دمار الهيكل الأول في أورشليم عام 607 قبل الميلاد.
فقد سبا ملك الإمبراطورية البابلية، نبوخذنصر الثاني، اليهود من موطنهم التاريخي إلى بابل البعيدة، حيث نشأت جالية يهودية جديدة ومزدهرة. لم يتوقف يومًا الحنين إلى الموطن، ويتجلى ذلك في المزمور 137، العدد 1: “عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ، هُنَاكَ جَلَسْنَا. بَكَيْنَا أَيْضًا عِنْدَمَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ”. لكن في فترةٍ متأخرة أكثر تاريخيًّا، مثل فترة كورش، التي أُجيز فيها لليهود بأن يعودوا إلى أورشليم، بقيت جالية يهود بابل قائمة وكبيرة.
شاهدوا حفل زفاف عراقيًّا يهوديًّا تقليديًّا:
http://youtu.be/Uu5skKgA_PM
النموّ والازدهار
كانت جالية يهود بابل الأكبر والأكثر ازدهارًا بين الجاليات اليهودية، حتّى حين تشتّت اليهود في كلّ أرجاء المعمورة. فقد كانت الجالية مركزًا تجاريًّا وحضاريًّا مزدهرًا، فضلًا عن كونها مركزًا روحيًّا ودينيَّا ذا أهمية كبرى. تجمّع جميع حكماء الديانة اليهودية بين نهرَي دجلة والفرات، وأقاموا هناك قرونًا. تعاملت الإمبراطورية البارثية التي سيطرت على المنطقة جيّدًا مع اليهود، ومنحتهم حقوقًا بإدارة مستقلّة وحريّة ثقافيّة. في هذه الفترة، بلغ الفِكر اليهودي إحدى ذُراه، في تأليف “التلمود البابلي”. كذلك في السنوات اللاحقة، تحت حُكم الساسانيّين، كان اليهود محميّين من أيّ أذى.
قبر حزقيال (ذو الكفل) في مدينة الكفل العراقيه (AFP)
مع انتشار الإسلام وسيطرة الخلفاء، بدءًا من القرن السابع الميلادي، تحسّن كثيرًا وضع يهود بابل، إذ أصبح للمرة الأولى معظم يهود العالم تحت السيادة نفسها – سيادة الإسلام. لكنّ هذا التعامُل لم يكُن ثابتًا، إذ كان وضع اليهود يعتمد على نظرة الحاكم. ورغم أنّهم نعموا غالبًا بالأمان، لكنهم كانوا تحت تهديد أحكامٍ – مثل حظر الخليفة عُمر بن عبد العزيز في مطلع القرن الثامن أن يلبسوا كالعرب أو أن يعيشوا حياة رفاهية، أو حُكم الخليفة المتوكّل في القرن التاسع، الذي ألزمهم بلبس ثياب خاصّة تكون علامة عار. في فترة الخليفة المأمون، دُعي اليهود “أخبث الأمم”، ودُمّرت مجامع يهودية كثيرة في عهده. في القرون الوسطى، هجر يهود كثيرون بغداد ومحيطها للسكن في الأندلُس، التي أصبحت مركزًا إسلاميًّا مزدهرًا في العالم.
كانت الفترة العثمانية أيضًا فترةً مفعمة بالتقلّبات بالنسبة للجالية في العراق. لكن كلّما ازدادت موجات الدمقرطة، تحسّن وضع اليهود، الذين شكّلوا جزءًا هامًّا من الحياة العامّة والتجاريّة في العراق. عام 1908، حصل جميع يهود العراق على مساواة في الحقوق وحرية دينية كفلها القانون، حتّى إنّ بعضهم أُرسل لتمثيل العراق في البرلمان العُثمانيّ.
كنيس مهجور في مدينة الفلوجة (ِAFP)
بعد الحرب العالمية الأولى وتتويج فيصل ملكًا على البلاد، تحسّن وضع اليهود أكثر فأكثر. كان وزير المالية الأول للعراق في العصر الحديث يهوديًّا، اسمه حسقيل ساسون . اتّخذ ساسون عددًا من القرارات التي أسهمت في استقرار الاقتصاد العراقي في القرن العشرين، بما فيها تنظيم تصدير النفط إلى بريطانيا. وبشكل عامّ، أضحت أسرة ساسون البغداديّة إمبراطوريّة اقتصاديّة امتدّت من الهند شرقًا حتّى أوروبا غربًا.
أمّا ما زاد شهرة يهود العراق أكثر من أيّ شيء آخر في العصر الحديث فهو موسيقاهم. فقد اشتُهر الكثير من اليهود بفضل مواهبهم الموسيقيّة، وفي مسابقة الموسيقى في العالم العربي التي أُقيمت في القاهرة في الأربعينات، فاز الوفد العراقي، الذي تألّف من موسيقيين يهود ومُطرب مسلم واحد. ويُذكَر بشكل خاصّ صالح وداود الكويتي، اللذان أنشآ فرقة الإذاعة الموسيقية الوطنية في العراق، حتّى إنهما غنّيا في حفل تنصيب الملك فيصل الثاني.
التدهوُر والمغادَرة
حدث التدهوُر الأكبر في وضع يهود العراق مع صعود النازيين في ألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين. فقد عملت السفارة الألمانية في بغداد بوقًا لرسائل لاساميّة أدّت تدريجًا إلى تغيّر نظرة العراقيين المسلمين إلى إخوتهم اليهود. فعام 1934، فُصل عشرات الموظَّفين اليهود من وزارة الاقتصاد، عام 1935 فُرضت قيود على عدد اليهود في المدارس، وعام 1938 أُقفلت صحيفة “الحصاد”، لسان حال يهود العراق.
مجموعة حاخامات يهود في بغداد عام 1910 (Wikipedia)
وكانت الذروة عام 1941، بعد فشل الانقلاب الذي قاده رشيد عالي الكيلاني، الذي سعى إلى طرد البريطانيّين وإنشاء سُلطة ذات رعاية ألمانية – نازيّة. في تلك السنة، حدث ما يُعرف بالفرهود – المجزرة الأكبر بحقّ يهود العراق. في إطار الاضطرابات، قُتل 179 يهوديًّا، أصيب 2118، تيتّم 242 طفلًا، وسُلب الكثير من الممتلكات. وصل عدد الأشخاص الذين نُهبت ممتلكاتُهم إلى 50 ألفًا، ودُفن الضحايا في مقبرة جماعيّة في بغداد.
كانت النتيجة المباشرة للمجزرة تعزيز قوة الصهيونية، والإدراك أنّ فلسطين (أرض إسرائيل) وحدها تشكّل ملاذًا آمنًا ليهود العراق. فاقم إنشاء دولة إسرائيل ونتائج حرب العام 1948 أكثر وأكثر التوتر بين اليهود والمسلمين في العراق. فاليهود الذين اشتُبه في ممارستهم نشاطاتٍ صهيونية قُبض عليهم، احتُجزوا، وعُذِّبوا.
عام 1950، سنّت الحكومة العراقية قانونًا يسري مفعوله لعامٍ واحد، أتاح لليهود الخروج من البلاد شرطَ تنازُلهم عن جنسيّتهم العراقية. أُتيح لكلّ يهودي يبلغ عشر سنوات وما فوق أن يأخذ معه مبلغًا محدَّدًا من المال وبضعة أغراض. أمّا الممتلكات التي خلّفوها وراءهم فكان يمكنهم بيعها بمبالغ ضئيلة.
نتيجة ذلك، أطلقت دولة إسرائيل عملية باسم “عزرا ونحميا” تهدف إلى إحضار أكبر عددٍ ممكن من يهود العراق إلى البلاد. وكلّما زاد تدفّق اليهود الذين غادروا العراق، ازدادت مضايقات اليهود، حتّى إنّ البعض منهم فقد حياته.
عائلة يهودية عراقية
منذ 1949 حتّى 1951، فرّ 104 آلاف يهودي من العراق ضمن عمليات “عزرا ونحميا”، و20 ألفًا آخرون هُرِّبوا عبر إيران. وهكذا، تقلّصت الجالية التي بلغت ذروة من 150 ألف شخص عام 1947، إلى مجرّد 6 آلاف بعد عام 1951. أمّا الموجة الثانية من الهجرة فحدثت إثر ارتقاء حزب البعث السلطة عام 1968، إذ هاجر نحو ألف يهودي آخرين إلى إسرائيل. اليوم، يعيش في بغداد عددٌ ضئيل من اليهود، كما يبدو مجرّد ثمانية.
جمّدت السلطات العراقية الممتلكات الكثيرة لليهود الذين هجروا البلاد. ويُقدَّر أنّ قيمة الممتلكات كانت تبلغ نحو 30 مليون دولار في الخمسينات. أمّا بقيمة اليوم، فيمكن القول إنّ يهود العراق تركوا وراءهم ممتلكاتٍ تُقدَّر قيمتها بـ 290 مليون دولار.
خمسة إسرائيليّين – عراقيين عليكم أن تتعرفوا إليهم
عائلة يهودية عراقية تصل الى مطار اللد عام 1950 (WIKIPEDIA)
بدءًا من الخمسينات، ازدهرت جماعة يهود بابل في دولة إسرائيل. لم تكُن صعوبات الاستيعاب في الدولة الفتيّة بسيطة، وكان عليهم أن يناضلوا للحفاظ على هويّتهم الفريدة مقابل يهود أوروبا الشرقية، الذين رأوا فيهم ممثّلين أقل قيمة للحضارة العربية. لم تقدِّر السلطات الإسرائيلية الممتلكات الكثيرة والغنى الحضاري الذي تركوه وراءهم في بغداد والبصرة، ولم يتمكّن يهود العراق من إيجاد مكانة لهم بين سائر المهاجرين: المهاجرين من أوروبا الشرقية من جهة، والمهاجرين من شمال إفريقية من جهة أُخرى.
لكن كلّما مّرت السنون، تعرّف الشعب الإسرائيلي إلى أهمية وإسهامات المهاجرين من العراق، ووصل بعضٌ منهم إلى مواقع مركزيّة في السياسة، الثقافة، والمجال المهنيّ في إسرائيل. إليكم خمسة عراقيين يهود إسرائيليين، عليكم أن تتعرّفوا إليهم:
الحاخام عوفاديا يوسف – وُلد عام 1920 في بغداد باسم “عوفاديا عوفاديا”، وأصبح مع الوقت الزعيم الديني دون منازع لجميع يهود الشرق في إسرائيل. وضع الحاخام، الذي اعتُبر معجزة دينيّة منذ طفولته، أولى مؤلفاته الدينية في التاسعة من عُمره. يتذكّره كثيرون في إسرائيل بسبب إجازته الفقهيّة لعمليّة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكن أيضًا بسبب زلّات لسانه العديدة. فقد قال مثلًا عن أريئيل شارون: “ليُنزل عليه الله – تبارك وتعالى – ضربةً لا يقومُ منها”، ووصف رئيس الحكومة نتنياهو بأنه “عنزة عمياء”.
بنيامين “فؤاد” بن إليعيزر – الطفل الصغير من البَصرة الذي أمسى قائدًا عسكريًّا بارزًا في إسرائيل، وبعد ذلك سياسيًّا شغل عددًا كبيرًا من المناصب الوزارية، وكان صديقًا مقرَّبًا من الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك. فبعد أن كان وزير الإسكان في حكومة رابين، وزير الدفاع في حكومة شارون، ووزير الصناعة في حكومتَي أولمرت ونتنياهو، تتجه أنظار “فؤاد” الآن إلى المقام الأرفع، إذ يسعى إلى أن يكون أوّل رئيس عراقي لدولة إسرائيل.
دودو طاسا – حفيد داود الكويتي الذي أضحى هو نفسه موسيقيًّا كبيرا ورياديًّا في إسرائيل. يدمج تاسا بين الأسلوب الغربي وبين الموسيقى العراقية التقليدية، ويُذكَر بشكل خاصّ أداؤه لأغنية فوق النخل ، التي اشتُهرت بأداء جدّه. قادت الأغنية إلى ألبوم يعزف فيه تاسا أغاني الكويتيَّين (داود وصالح).
إيلي عمير– الأديب الذي جسّد أفضل من أيّ شخص آخر مشاعر القادِمين من العراق. عبّر كتابه “ديك الفِداء”، الذي كتبه على مدى 13 عامًا، بشكل دقيقٍ عن مصاعب شابّ ذي أصل عراقي يستصعب الوصل بين عالم والدَيه الماضي وبين عالَم رجال الكيبوتز ذوي الأصول الأوروبية، الذي أراد الاندماج فيه. بقيت لغته الأم عربية، وهو حزين للإكراه الثقافي الإسرائيلي، الذي ألزمه بمحو ماضيه. مع السنوات، أضحى عمير ناشطًا في حزب العمل الإسرائيلي.
إيلي يتسفان – كبير الكوميديين الإسرائيليين هو في الواقع من أصل عراقيّ. فرغم أنه وُلد في إسرائيل، والداه كلاهما عراقيّان. سمع يتسفان، أصغر خمسة أبناء، العربية العراقية تصدح في بيته، وأصبح مقلّدًا موهوبًا قادرًا على تمثيل شخصية أيّ إنسان، ولا سيّما شخصيات من العالم العربي. كاد تقليده للرئيس المصري محمد حسني مبارك (الذي أعطى مبارك لهجة مختلطة – مصريّة وعراقيّة) يقود إلى أزمة في العلاقات الإسرائيلية – المصريّة.