لم تعرف ليئة غولدبرغ، إحدى شاعرات العبريّة الكبيرات، هذه اللغة في طفولتها. فهي بدأت تتعلمها في المدرسة فقط، وخلال نصف سنة أصبحت تتقنها. “المرأة التي اختارت العبريّة، واختارتها العبريّة أيضا”، هكذا وُصِفت بعد مرور عدة سنوات. خلافا لحياتها الرومانسية، كان عشقها للعبرية نجاحا باهرا، ولولاها لم تكن الثقافة العبرية المعاصرة تبدو كما هي الآن.
“أن أكتب بلغة غير العبريّة وكأني لا أكتب إطلاقًا. أريد أن أصبح شاعرة. هذا هو هدفي الوحيد”، هذا ما كتبته ليئة في يومياتها في سن 12 عاما، ساعية لتحقيق هذا الهدف.
عملت ليئة برعاية أطفال الأسر اليهودية الثرية، بينما لم يكن من المتبع أن تعمل النساء الوفيات آنذاك، ولكن لم يكن خيار أمامها لأن عائلتها كانت فقيرة. بعد أن جمعت مبلغا كافيا من المال، غادرت موطنها وعائلتها في ليتوانيا متجهة نحو برلين. نجحت في هذه العاصمة الأوروبية الحضارية، في أن “تبتسم دون سبب” للمرة الأولى، وفق ما كتبته في مذكراتها.
في سن 18 عاما، بدأت تحضّر ليئة للدكتوراه في جامعة بون الفرنسيّة العريقة. عندما كانت في سن 20 عاما، بدأت بنشر قصائدها في مجلات أوروبية ومنذ ذلك الحين لم تتوقف، لدرجة أنه قيل عنها: “قوة أدبية عظمى لامرأة واحدة”. وكشفت في يومياتها أن الإنسان الأقرب إليها أثناء تعليمها في فرنسا لم يكن يهوديا ولا أوروبيا، بل كان هنديا تحديدًا. فهو كان عشيقها الأول، لكن انتهت هذه العلاقة بخيبة أمل كما حدث مع سائر تجاربها الغرامية.
العزلة الأبدية مقابل حب الجمهور الكبير
بعد سيطرة النازيين على الحكم في ألمانيا في عام 1933، فهمت ليئة أنه من الأفضل أن تغادر برلين. أدى بها حبها إلى العبريّة إلى أن تسافر إلى تل أبيب، المدينة الوحيدة في العالم التي كانت العبريّة مستخدمة فيها في ذلك الوقت. فقالت عنها: “وجدت فيها أشخاصا قريبين مني”. كانت هذه الخطوة بالنسبة لغولدبرغ التي عاشت حياة العزلة غالبا، هامة جدا.
سريعا، اندمجت ليئة داخل مجموعات من الشعراء في تل أبيب. كانت المرأة الوحيدة تقريبا التي حظيت باحترام بين شعراء العبرية الكبار، لهذا كان عليها أن تكافح من أجل مكانتها أكثر من زملائها الرجال.
نجحت منشوراتها جدا، وعرفها أشخاص من كل أنحاء البلاد. مثلا، أصبحت قصصها للأطفال محبوبة جدا في روضات الأطفال وما زالت تُقرأ أو تغنى أغانيها حتى يومنا هذا أمام الأطفال الإسرائيليين. ولكن لم تكن لديها عائلة ولا أطفال.
يُحكى أن ليئة اعتادت على الجلوس في المقاهي في تل أبيب، وهي تمسك بيدها سيجارة دائمًا، وكان الدخان يخرج منها دون توقف بينما كانت تفكر مليا، مع زملائها الشعراء أحيانا أو وحدها. لقبت أحد كتبها بـ “حلقات الدخان”. في المحاضرات التي ألقتها في الجامعة العبرية، وهي تحمل السيجارة بيدها، كانت القاعة مليئة جدا. جلس الطلاب الجامعيون على الدرج وعند مدخل القاعة لسماع محاضراتها. خلافا لشخصيتها الحزينة في مذكراتها، كانت ليئة لامعة بشكل خاص بصفتها محاضرة وحظيت بالاحترام.
شاعرة الأطفال التي لا أطفال لديها
خلافا لنجاحها الصاروخي كونها كاتبة وشاعرة، كانت علاقاتها الغرامية فشلا ذريعا متواصلا. مَن عرفها قال إنها كانت تميل إلى الرجال ولكنها لم تستطع أن تكون على علاقة معهم لأسباب مختلفة. كان أحدهم متزوجا. وكان رجل آخر مثليا. خلال علاقتها الغرامية مع المثقف الهندي، كان يغازل نساء أخريات بحضورها. وعندما سافرت لزيارة باحث إيطالي كانت تحبه، وجدته لمزيد الدهشة مع عشقية أمريكية شابة.
لم يكن لدى ليئة شريك حياة ولا أطفال. كانت هذه الحالة مفاجئة بشكل خاصّ لأن مؤلفاتها الخاصة بالأطفال كانت ناجحة جدا. لم يسألها زملاؤها حول الموضوع، ولكن يعتقد جزء منهم أنها كانت تخشى أن يرث أطفالها مرض نفسي عانى منه والده، وشكل صدمة لديها طيلة حياتها.
حظي والدها، الذي عاش حياة مأسوية، بمكانة هامة في مؤلفاتها. فهو هرب من موطنه إلى روسيا أثناء الحرب العالمية الأولى، وعندما أراد العودة إلى عائلته أمسك به الجيش عند عبوره الحدود متهمه بكونه شيوعيا. لهذا اجتاز تعذيبات، والأصعب هو التعذيب النفسي. طيلة عشرة أيام، طلب منه الجنود يوميا الوقوف بهدف إعدامه رميا بالرصاص معلنين عن نيتهم إعدامه ليعترف بالتهم المنسوبة إليه. أدت الصدمة التي مر بها إلى أن يعاني من مرض نفسي. لهذا دخل إلى مستشفى للأمراض النفسية، حتى اجتاح الألمان ليتوانيا وقتلوه إضافة إلى سائر اليهود الذين أمسكوا بهم.
في حين أن والدة ليئة حاولت إطلاق سراحه، بقيت ليئة ابنة الثماني سنوات لمدة ساعات وحدها في الحقل، وبحوزتها حقائب. لم يكن أحد بالقرب منها سوى الجنود. حدث ذلك بعد غروب الشمس. “تجمدت أقدامي وشعرت بنار تشتعل في رأسي”، كتبت ليئة في مذكراتها. بعد أن عادت والدتها وبصحبتها والدها، لم يعد والدها كما توقعت.
“يُحظر على الكاتب أن ينسى قِيَم الحياة الحقيقية”
لم توافق ليئة على شيء واحد مركزي مع سائر الكتّاب وهو أناشيد الحرب. لم تخفي غضبها ضد فنانين وأكاديميين مدمنين على أيدولوجيات سياسية، وحتى أنها نعتت كتّاب كتبوا أناشيد حرب، بعد الحرب العالمية الثانية، بـ “حمقى”. وفق رأيها، يُحظر على الشعراء أيضا في ذروة الحرب الإدمان على الحرب و “نسيان قيم الحياة الحقيقية”، وعليهم “إنشاد أناشيد الطبيعة، الأشجار المزدهرة، من أجل الأطفال ولإضحاكهم”، وكذلك عليهم “تذكير الإنسان أنه ما زال إنسانا”.
بعد أن كانت على فراش الموت في المستشفى بسبب مرض السرطان كتبت ليئة: “مَن يتذكرني يعرف – كانت وحيدة، وكانت مبنية من الظلام والضوء كسائر البشر. وليس هناك الكثير ما يمكن تذكّره”. إلا أن الجزء الثاني من الجملة كان خاطئا. ما زالت كتابات ليئة قائمة حتى يومنا هذا وما زالت تحظى باهتمام كبير. سُميت شوارع على اسمها، وتعلّم مدارس قصائدها، والمثير للسخرية أنها صارت شاعرة العاشقين الإسرائيلييون حيث الكثير منهم يحفظون اقتباسات من قصائدها الحب.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني