في السنوات الأخيرة، وخصوصا في العام الماضي، تزايدت في إسرائيل الأصوات التي تُحذر من أنّ الديموقراطية الإسرائيلية في خطر. هناك من سيضيف ويقول إنّها في خطر قاتل، وإنّ الديمقراطية في إسرائيل، التي هي الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، تعاني من الاحتضار.
أطلق أكاديميون، سياسيون وإعلاميون ليبراليّون مرارا وتكرارا في السنة الماضية دعوات تحذير ضدّ اتجاهات إضعاف النظام الديمقراطي، والتي تتمثّل بحسب رأيهم في عدّة مجالات.
التشريعات على غرار محمد مرسي
النموذج الأكثر بروزا في الفترة الأخيرة هو اقتراح “قانون أساس إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي”، والذي يُدعى “قانون القومية”.
اقتُرح القانون من قبل أحزاب اليمين في الكنيست الأخير وحظي بموافقة الحكومة، ولكن لم يتم تشريعه لأنّ الكنيست تفرّق قبل التمكّن من تشريعه.
اعتقد الكثيرون في إسرائيل أنّ هذا القانون يعني تفضيل الخصائص اليهودية لإسرائيل على الخصائص الديمقراطية. إنها تدعو القضاة والمشرّعين الإسرائيليين إلى الأخذ بعين الاعتبار تقاليد الشريعة اليهودية في عملهم. وقالت وزيرة العدل سابقا، تسيبي ليفني، في هذا الصدد “من المؤكد أنّ الاقتراح ليس ديمقراطيا، لأنّ مبادئ الديمقراطية أصبحت قضية تافهة، وبأفضلية ثانية تحويل إسرائيل إلى “بيت الشعب اليهودي” الذي سيتم تفسير التشريعات بحسبه”.
والقلق في إسرائيل هو أنّ القانون يجسّد في داخله – رغم عدم تشريعه في نهاية المطاف – طموح الكثيرين في إسرائيل للحدّ من الديمقراطية. وقد قارن رئيس الشاباك السابق، يوفال ديسكين، بين جهود إقرار قانون يهودية إسرائيل ومحاولات محمد مرسي والإخوان المسلمين لفرض القوانين الإسلامية على مصر.
بالإضافة إلى ذلك، هناك من يرى في قانون رفع نسبة الحسم في انتخابات الكنيست، والذي تم تشريعه قبيل الانتخابات القادمة، علامة أخرى على تزايد الاتجاه المناهض للديمقراطية في إسرائيل.
إنّ رفع نسبة الحسم إلى 3.5% معناه أنّه سيكون من الأصعب على الأحزاب الصغيرة الفوز بتمثيل في الكنيست، وبشكل خاصّ إذا لم تتوحّد القوائم العربية. في الوضع الحالي أيضًا يعاني المواطنون العرب من تمثيل غير كاف في الكنيست، رغم أنّ نسبتهم من سكان البلاد هي نحو خمس، فهم ممثّلون في الكنيست من قبل 12 عضو كنيست فقط، أي عُشر مجموع أعضاء الكنيست. إنّ رفع نسبة الحسم الذي سيدخل حيّز التنفيذ ابتداءً من الانتخابات القادمة قد يقلّص من تمثيلهم بشكل أكبر.
تقييد أيدي القضاة
جبهة أخرى جرى فيها صراع حادّ في السنة الماضية وهو سؤال استقلاليّة المحكمة العُليا في إسرائيل. وفقا لمبادئ الديموقراطية الإسرائيلية، فلدى المحكمة العُليا صلاحية إلغاء القوانين التي يشرّعها الكنيست، إذا لم تكن تتماشى مع القوانين الأساسية في البلاد.
أثير النقاش حول استقلاليّة المحكمة بشكل خاصّ بعد أن ألغت تعديلا أقرّه الكنيست لـ “قانون التسلّل”، والذي وُضع لحبس المهاجرين الأفارقة الذين تسلّلوا إلى إسرائيل. للمرة الثانية خلال العام، حكمت المحكمة بأنّ القانون الذي أقرّه الكنيست غير دستوري، وقامت بإلغائه. كانت ردود الفعل في النظام السياسي الإسرائيلي غاضبة: هاجم وزير الداخلية السابق، جدعون ساعر، الذي اقترح صياغة القانون الذي أُلغي، المحكمة ودعا إلى الحدّ من صلاحيّاتها.
وصرّحت عضو الكنيست ميري ريغيف تصريحات أكثر حدّة: “هذا القرار هو خزي ووصمة عار. النظام القضائي بعيد عن الشعب. إنّ إلغاء القانون يمثّل أزمة ثقة بين الكنيست والسلطة القضائية وعلى الكنيست الإسرائيلي أنّ يدرس الحدّ من صلاحيّات محكمة العدل العليا في إلغاء قوانين الكنيست”. ورغم أنّ اقتراح القانون في هذا الموضوع قد تم إقراره في الحكومة، إلا أنّه لم يتم إقراره في الكنيست.
أما من جاء في صالح المحكمة فقد كان رئيس الدولة، رؤوفين ريفلين، والذي عبّر عن تأييده الصريح لسلطة قضائية قوية ومستقلّة. “محكمة قوية، مستقلة، شجاعة، عنيدة، متمرّدة في بعض الأحيان، مستقلّة، هي القلب النابض والحيّ للمجتمع الديمقراطي الطبيعي. هي شريان حياته. عيونه المفتوحة، ومصدر الفخر الإسرائيلي في البلاد وحول العالم”، كما قال ريفلين.
شاشات تلفزيون مظلمة
يتفق الجميع على أنّ وسائل الإعلام النقدية والمستقلّة، والتي تسمح بالاستبدال العادل والنزيه لآراء الشعب، هي ضرورة للديمقراطية الفاعلة. تم وضع هذا المجال أيضًا في السنة الماضية تحت علامة سؤال كبيرة. قبل يومين فحسب تم تعتيم شاشة القناة الإسرائيلية العاشرة، على خلفية دَين مالي على القناة. تدّعي القناة أنّ رئيس الحكومة نتنياهو، الذي يتولى أيضًا منصب وزير الإعلام، كان بإمكانه التدخّل من أجل تأجيل دفع الدَّين والسماح للقناة بالاستمرار في الوجود، ولكن بسبب الانتقادات السياسية التي صدرت تجاهه من أفواه محلّلي القناة، عمل نتنياهو على إغلاقها.
وهناك أيضًا تدخّل رئيس الدولة ريفلين لمصلحة الديمقراطية. قال ريفلين في التصريح الذي نشره في صفحته في الفيس بوك: “نظرا للمنافسة المحدودة في سوق الإعلام الإسرائيلي، لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بخسارة بثّ قناة، وخصوصا في فترة نحن بحاجة فيها إلى التعرّض لطيف الآراء والمواقف. الحوار الديمقراطي المتنوّع هو شرط للديمقراطية السليمة”.
ولكن المقرّبين لنتنياهو نفسه أيضًا زعموا أنّهم ضحايا لإسكات الأفواه. وقفت صحيفة “إسرائيل اليوم”، المتعاطفة مع مواقف نتنياهو، وهناك من يدّعي أنّها في الواقع دعاية من أجل نتنياهو، مؤخرا أمام تهديد من الكنيست للإضرار بها. بادر خصوم نتنياهو في الكنيست إلى اقتراح قانون يحظر توزيعها مجانا كما يتمّ اليوم، وبذلك يضرّون بانتشارها.
أثارت محاولة الإضرار بصحيفة “إسرائيل اليوم” من جديد النقاش حول مكانة الإعلام في النظام الديمقراطي. من جهة، ادّعى بعض اليساريّين أنّ “إسرائيل اليوم” ليست صحيفة في الواقع، وإنما أداة دعاية، ولذلك فهي في الحقيقة ليست حيوية للديمقراطية. ومن جهة أخرى، ادّعى المدافعون عن الصحيفة أنّ مؤيدي القانون منافقون، حيث إنّهم يكثرون من التركيز على أهمية الديمقراطية فقط عندما يناسب الأمر مصالحهم السياسية.
وممّا زاد الارتباك المحيط بالنقاش حول دور الإعلام هو تصريحات رجل الأعمال شيلدون أديلسون، ناشر صحيفة “إسرائيل اليوم”، والذي ادّعى أنّه “ليس مكتوبا في أي مكان أن على إسرائيل أن تكون ديمقراطية”. أوضح أديلسون في وقت لاحق أنّه قال كلامه مازحا.
التحدّي العنصري
على ما يبدو أنّ العقبة الأخطر التي تقف أمام الديمقراطية الإسرائيلية اليوم هي عقبة العنصرية. تمثّلت هذه العقبة بشكل خاصّ في فترة حرب غزة في الصيف الأخير، والتي صدرت فيها التصريحات العنصرية ضدّ العرب وضدّ اليهود أكثر من أي وقت مضى، وخصوصا في الشبكات الاجتماعية.
وأوضح البروفيسور زئيف شطيرنهل، وهو متخصص في صعود الحركات الفاشية، في الصيف الماضي في مقابلة مع صحيفة “هآرتس” حجم قلقه قائلا: “أنت ترى في إسرائيل التآكل التدريجي لقيم التنوير وترى هذا الفقدان، الذي كان دائما موجودا على الهامش، وشيئا فشيئا اقترب، حتى سيطر اليوم على المركز. عندما يظنّ الناس أنّ الديمقراطية تقوّض القومية ويرفضون الاعتراف بقيمة القيم العالمية كقيود على الديمقراطية، فهذه وصفة للقضاء عليها”.
ولكن هل تُشير كلمات البروفيسور شطيرنهل وآخرين إلى الهاوية المعادية للديمقراطية والتي تسقط إسرائيل فيها؟ وهل ستفتخر إسرائيل في السنوات القادمة أيضًا بلقب “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”؟ إذا سألتم رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، فإنّ مجرّد النقاش حول مستقبل النظام في إسرائيل يثبت بأنّ إسرائيل دولة ديموقراطية.
“كانت إسرائيل دائما جزيرة من الاستقرار والديمقراطية داخل بحر عاصف”، هكذا اعتاد نتنياهو أن يقول في كلّ فرصة والذي أوضح قبل شهر مرة أخرى: “نحن دولة ديموقراطية نموذجية، هكذا كانت وهكذا ستكون. تجسّد إسرائيل المساواة في الحقوق. أنا لا أعرف دولة أكثر ديمقراطية وحيوية. الديموقراطية هنا مضمونة”. اعتاد نتنياهو أيضا في خطاباته في الأمم المتحدة على مدح إسرائيل على الحقوق التي تمنحها للأزواج من مثليي الجنس، على النقيض من التعامل الذي يواجهونه في الدول العربيّة وفي إيران.
وأيضا إذا أخذنا بالحسبان بأنّ تصريحات نتنياهو تهدف إلى الثناء على إسرائيل، ولا ينبغي اعتبارها إثباتا لكون إسرائيل ديمقراطية، فعلينا أن ننظر إلى الأمور بطريقة مدروسة. منذ قيام إسرائيل، فهي تقيم انتخابات عامة، حرة ومساوية. لم يحدث قطّ طوال تاريخ الدولة أنْ فكّر أحد من رؤساء الحكومة أو الوزراء بإلغاء مؤسسة الانتخابات المهمّة لاستمرار وجودها.
فضلًا عن ذلك، رغم جميع العقبات التي فيها، فلا تزال إسرائيل تسمح بحرية التعبير إلى حدّ كبير، وتوفّر حماية عالية لحقوق المواطن الذي يعيش فيها، كما هو منصوص عليه في القانون الأساسي “كرامة الإنسان وحريّته”، والذي هو أعلى مكانة من القانون العادي. إنّ الهجوم على المحكمة على وجه التحديد والذي تم وصفه أعلاه يظهر إلى أي مدى هي قوية اليوم، وإلى أي مدى تحمي حقوق الإنسان في إسرائيل في واقع سياسي معقّد.
إنّ الانتقادات الحادّة الصادرة عن كلّ من ينتقد محاولات الحدّ من خطوات المحكمة، عرقلة وسائل الإعلام وتشريع قوانين إشكالية تثبت أنّ الحوار الديمقراطي في إسرائيل لم يضعف.
ولكن فوق كلّ ذلك تعود وتأتي دائما نفس “الأشباح”، السيطرة الإسرائيلية على أجزاء كبيرة من الضفة الغربية. ليس هناك في إسرائيل الكثيرون ممن يعتقدون أنّ إسرائيل قادرة على الاستمرار بالسيطرة بهذا الشكل أو غيره على حياة ملايين الفلسطينيين، والاستمرار في تقديم نفسها كديمقراطية. وهكذا، حتى لو واصلنا الاعتقاد أنّه ليس هناك خطر حقيقي يواجه الديمقراطية الإسرائيلية، فعلى الأقل علينا الاعتراف بأنّ استمرار وجودها يتطلّب الصمود أمام تحدّيات ليست بسيطة.