إن زيارة شوارع بيروت عبر خرائط جوجل (Google Maps) ممكنة، ولكن لا تعكس الجولة عبر شاشة الحاسوب نسيم البحر ورائحته، ضجيج الشارع، وأصوات المارة. سافرت ذات مرة في رحلة جوية مع صديقة إلى أوروبا، هبطنا خلالها في إسطنبول، من ثم تابعنا رحلتنا. وعندما وقفت في طابور الانتظار لختم جوازات السفر، وقف أمامي رجل وامرأة لبنانيان مع ابنتهما. تحدثت صديقتي معهما، وأصغيت إلى المحادثة مهتمة وتأملت عيونهما، لباسهما، لهجتهما، وتعابيرهما الجسدية. لقد وصل هذا الزوج من بيروت التي يحلم إسرائيليون كثيرون في زيارتها، وحاولت عبر نظراتهما أن أعرف إذا كانت تعكس أي شيء منها.
ولقد كنت منسجمة جدا أثناء الحديث ولكن لم أشارك فيه. خشيت من رد فعلهما عند سماع لهجتي الإسرائيلية. تخيّلت كيف سيندهشان عندما يعرفان أنني إسرائيلية، ومن ثم يصمتان صمت نفور وينظران إليّ نظرات معادية . واتضح عندما صعدنا إلى الطائرة أنهما يجلسان مع ابنتهما بالقرب منا. وتابعت صديقتي والزوجان الحديث طيلة الرحلة الجوية، وأما أنا فتابعت التفكير بصمت عم كنت سأتحدث معهما لو تجرأت.
كورنيش بيروت (Wikipeida/Varun Shiv Kapur)
وقد كان إسرائيليّون قليلون في لبنان. وحدث ذلك غالبا بطريقتين: فهناك المجموعة الأولى المؤلفة من إسرائيليين كانوا في لبنان أثناء خدمتهم الإلزامية في الجيش الإسرائيلي في حروب لبنان مع إسرائيل عندما كانوا في الجبهة. والمجموعة الثانية من اليهود الذين وُلدوا في لبنان وهربوا منه بعد إقامة دولة إسرائيل. أعضاء المجموعة الأولى لم يزر معظمهم بيروت خلال خدمتهم العسكرية ، بل كانوا في ثكنات عسكرية جنوب لبنان، حيث شاهد اليهود الآخرون من المجموعة الثانية بيروت للمرة الأخيرة قبل أكثر من 50 عاما. تراود أفراد كلا هاتين المجموعتين ذكريات صعبة من بيروت، سواء كانت ذكريات الحرب أو ذكريات المطاردة التي لحقت بيهود لبنان قبل أن فروا منه.
ولكن هناك من يدعي أن هناك مجموعة أخرى تتضمن بعض الإسرائيليين الذين زاروا لبنان في السنوات الأخيرة في رحلة سياحية. وُلد هؤلاء الإسرائيليون الشجعان، أو ربما من يعتقد أنهم متهورون، في دول خارج إسرائيل وهم يحملون جواز سفر آخر إضافة إلى الجواز الإسرائيلي وقرروا تحقيق حلمهم ورؤية باريس الشرق الأوسط.
أنا لا أنتمي إلى أية مجموعة من المجموعات الثلاث هذه، أي أنني لم أزر لبنان، رغم أني أريد زيارتها كثيرا. لهذا، يمكنني فقط أن أتخيل زيارة بيروت التي تبعد 200 كيلومتر جوا عن بيتي فقط. إليكم ثلاث محطات سأزورها في بيروت:
رأس بيروت (Wikipedia/Karan Jain)
المحطة الأولى
ما أجمل متابعة مشهد الموسيقى البديلة في بيروت. أكبر مثال على ذلك هو مشروع ليلى إذ أن سماع موسيقى هذه الفرقة في مقاهي وحانات كثيرة في تل أبيب وخارجها أصبح أمرا عاديا. ولكن يمكن الاستماع إلى أغاني الفرقة في عروض خارج الشرق الأوسط. رغم ذلك، هناك موسيقيون لبنانيون رائعون لا يعرضون أعمالهم في أنحاء العالم، ولكنها تعرض في حاسوبي الشخصي. على أية حال أحلم بزيارة الميوزيك هول في بيروت. هذه الزيارة ضرورية جدا دون الاهتمام بشكل خاص بالمطرب او المطربة في ذلك المساء. ربما سأسمع خلال هذه الزيارة عن نوادي عروض أصغر ومعروفة أقل.
وعرضت ذات مرة على صديقي كليبا فيه أغان سياسية لبنانية بأسلوب ريغي. قال لي صديقي، الذي لا يتحدث العربية، مندهشا أنه يبدو وكأن الكليب التُقط في تل أبيب: “يشبه شاطئ البحر، اللباس، الهيبسترز، الفكاهة، وكل شيء آخر ما يحدث في تل أبيب”. ولكن بعد تفكير للحظة فإن حقيقة الشبان الذين يعيشون في الجهة الثانية من الحدود التي لا يجوز اجتيازها، ويتمتعون بالموسيقى المستقلة ويحبون الفن، الموضة العصرية، البيرسينج والوشم، ليست مفاجئة. تابعت وسائل الإعلام في إسرائيل أيضًا مظاهرات “طلعت ريحتكم” في لبنان عام 2015 بدهشة كبيرة. شارك في هذه الاحتجاجات شبان لديهم وعي سياسي، يستغلون طاقتهم في تنظيم المظاهرات، مُلصَقات الاحتجاج اللاذعة ضد السياسيين والتقاط صور السلفي للمتظاهرين وفي الخلفية أفراد الشرطة – وهم يتحدثون بصرخة الشبان الإسرائيليين ذاتها التي سُمِعت أثناء الاحتجاج الاجتماعي في صيف 2011 في تل أبيب.
لقطة شاشة من كليب “جنرال سليمان” للمنتج الموسيقي زيد حمدان
المحطة الثانية
يظهر تقريبا في كل رواية عربية أشتريها في إسرائيل اسم دار نشر لبناني. يشارك أصحاب المكاتب العربية في إسرائيل بين فينة وأخرى في معارض كتب في دول عربية مثل مصر، الأردن ودبي، ويشترون كتبا كثيرة، مطبوعة غالبا في لبنان. على أية حال، عندما أزور لبنان سأذهب إلى المكتبة الوطنية اللبنانية.
وعندها سأطلب مشاهدة مخطوطات لكتاب أحب قراءة كتبهم بشكل خاص مثل إلياس خوري، ميخائيل نعيمة، وهدى بركات. سأطلع على ماضي الدولة الثقافي الغني الذي يتجسد في مخطوطات المفكرين اللبنانيين الكبار.
وسأنتقل من المكتبة إلى الكافيتيريا إذ ستفوح رائحة القهوة بدلا من رائحة الكتب القديمة. شاهدت في كافيتيريا المكتبة الوطنية الإسرائيلية دائمًا باحثين كبارا وهم يرتشفون القهوة بعد أن قضوا ساعات طويلة وهم يقرأون نصوصا مختلفة ويحللونها. وأتساءل هل سيجلس باحثون لبنانيون أعرفهم من خلال قراءة أبحاثهم إلى جانب إحدى الطاولات في الكافيتيريا.
شواطئ بيروت (AFP / ANWAR AMRO)
المحطة الثالثة
وإذا شعرت بالحنين إلى بيتي في إسرائيل، سأزور شاطئ بيروت. تبدو شواطئها، في الصور على الأقل، شبيهة بشواطئ مدينة تل أبيب ذات ساحل البحر الذي يفصل شارع قصير بينه وبين المباني المدينية. وعندها سأجلس بهدوء في شاطئ البحر المليء بالأطفال وأصوات الأمواج. ولكن هذا الضجيج يختلف عن ضجيج المدينة. سأنظر جنوبا وأفكر في أن البعد بين مدينة تل أبيب الإسرائيلية ولبنان الذي يبلغ 200 كيلومتر فقط، في الواقع هو ساحل البحر ذاته، ويتضمن الرمال ذاتها، وفي فترات معيّنة خلال السنة تصل إليه قناديل البحر ذاتها.
وكم من الوقت يا تُرى ستستمر الحياة في تل أبيب وبيروت في الوقت ذاته دون أن تلتيقا وبالتوازي.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني