في مقال بعنوان “أصل الدروز ليس عربيًّا“، نشر على موقع “المصدر” الإلكتروني، في تاریخ 26 نوفمبر/ تشرن الثاني 2016، لصاحبه الأستاذ عامر دکة، تحدث الكاتب عن دراسة للباحث الإسرائيلي البروفسور “عوز ألموج”، عالِم الاجتماع والمؤرخ والباحث في المجتمع الإسرائيلي من جامعة حيفا، وزمیل آخر لە هو الدکتور حایك، تخص أصل الدروز ودیانتهم. وقد توصل الباحثان إلی استناج مغایر لما هو شائع حتی الآن عن أصل الدروز. ومفاد الدراسة أن الدروز من الناحیة الإثنیة یرجعون إلی الشعوب الإیرانیة التي عاشت شمال شرقي تركيا وأرمينيا، وبین جبال زاغروس في العراق وجبل أرارات، وهو الأعلى في المنطقة الجبلية في تركيا (منطقة أرمينيا سابقًا). ودّدت هنا أن ألقي الضوء علی بعض الحقائق التاریخیة المتعلقة بالدروز.
الدیانات، وبالأخص الدیانات التي تسمی بالدیانات السماویة، بشکل عام ترتبط وتتداخل بعضها ببعض، وترجع في جذورها وتستند، وإن اختلفت بعض الشيء، إلی نمط واحد من التفكیر وتدعو الناس إلی الطریق نفسها وتبشرهم بالبشائر نفسها، واستنادا إلی ذلك، أستطیع القول إن هناك شبها کبیرا بین الدیانة الدرزیة والعدید من الدیانات الأخری المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص بعض الدیانات في منطقة کردستان، التي تضم شمال غرب إیران، شمال العراق، وسوریا والشمال الشرقي لترکیا وبعض المناطق الجنوبیة من أرمینیا بما فیها جبل أرارات.
ما أعنیە من هذە الدیانات، هي الیارسانیة (التي تسمی بالكاکائیة وأهل الحق أیضا) والیزيدیة. هاتان الدیانتان شائعتان في أوساط الكرد في کردستان. لا أرید الولوج في العمق التاریخي للتوصل إلی أصل هذە الدیانات ونشأتها، لكن كثيرا من الدلائل التاریخیة والطقوس التي يتبعها أتباع هذە الدیانات وأصحابها، تُقربنا من أن نقتنع بأن هذە الدیانات ما هي إلا انشعابات وتفرعات من الدین الإسلامي ومذاهبە المختلفة، بعد التوصل إلی اجتهادات وتفسیرات وقراءات أخری ومختلفة للإسلام وبعد الاختلاط والتأثر بالأدیان الأخری کالزرادشتية، والیهودیة، والمسیحیة، والنسطورية، والبوذیة، والهندوسیة، وبعض عناصر الفلسفة الیونانیة والصوفیة وغیرها، أصبحت تتحول إلی طوائف وأدیان مستقلة لذاتها، وینطبق هذا القول علی الدیانة الدرزیة أیضا.
ویٶکد الشیخ الراحل کمال جنبلاط أن العقیدة الدرزیة هي امتداد للمدارس الهرمسیة الیونانیة أو المصریة – مدارس السنة الباطنیة – التي انتقلت إلی التصوف الإسلامي وأن الديانة الدرزیة الحقیقیة هي الحكمة في العرفانیة (الغنوصیة) في الیونان ومصر وفارس والإسلام في آن واحد، وأن الدرزي هو کل توحیدي یؤمن بوحدة أدیان العالم جميعا، کائنا ما کانت طقوسها وشعائرها.
وتنسب بداية المذهب الدرزي إلى أبو عبد اللە محمد المتوفي سنة 1019م، فكان الداعي الأول للحاکم بأمراللە الفاطمي، إذ لجأ إلی لبنان وسوریا وبشر فیهما بمذهبە . ولكن معظم المصادر تؤكد أن الدیانة الدرزیة تعود في جذورها إلی الطائفة الإسماعیلیة – الشیعیة المسلمة.
وتتميز بعض الديانات بأنها تكون خاصة بقوم أو عرق معین من البشر، وتستخدم في طقوسها لغة ذلك العرق أو القوم، کالدیانة الیهودیة التي تخص الشعب الیهودي، والدیانتين الیارسانیة والیزيدیة اللتان تخصان الشعب الكردي، إلا أنني لا أؤمن بحصر دین، أو مذهب، أو فلسفة، أو تیار فکري معین بعرق أو قومیة معینة، وإعطائه هویة قومیة أو عرقیة، وتنطبق هذه الفكرة علی الديانة الدرزية أیضا، إذ من الممكن لأي فرد من أي قومیة أو عرق، استبدال دیانة بأخری، ومذهب بآخر، واعتناق ما یحلو له من أفکار وفلسفات. فالدین لیس شیئا ثابتا، بل قابل للتغییر کما الأشیاء الأخری في الحیاة.
أما من الناحیة الإثنیة، فالباحثان ألموج وحایك، حسب ما كتب الأستاذ دکة، یذکران أن الدروز یرجعون إلی الشعوب الإیرانیة التي عاشت شمال شرقي تركيا وأرمينيا، وبین جبال زاغروس في العراق وجبل أرارات. المناطق التي یذکرها الباحثان، ماهي إلا مناطق مرتبطة بعضها ببعض، وتشكل منطقة ذات طابع خاص، تسمی منطقة “کردستان”، يسكنها شعب یدعی “الشعب الكردي”. لیس الكرد وحدهم يسكنون تلك المنطقة، وإنما هم یشكلون أکثریة سکان تلك المنطقة، وهم السكان الأصلیون في تلك المنطقة.
لا الباحثان ولا السید دکة، کاتب المقال، تطرقوا أو ذکروا اسم “کردستان” أو “الكرد”، عند تحدثهم عن تلك المنطقة التي جاء منها الدروز، وعن انتمائهم الإثنيّ لشعوب تلك المنطقة.
لست من مؤيدي فكرة النقاء العرقي والصفاء القومي الخالص، أي أن المنتمين لقومیة أو عرق واحد یرجعون إلی أصل واحد ودم واحد، کما کانت النازیة تعتقد بنقاء العرق والدم الآري الخالص، فهذە لیست إلا فکرة عنصریة ومخالفة للطبیعة والتفكیر السلیم. الأقوام والأعراق، کما الدیانات، تختلط مع بعضها وتمسح الحدود وتجعلنا بشرا وأناسا قبل أن نكون أعراقا وأقواما. الانتماء إلی عرق أو قومیة معینة ما هو إلا الإحساس بذلك الانتماء. فحين سئل زعیم الكرد، مصطفی البارزاني، مرة: من هو الكردي؟ أجاب: “من أحس بأنە کردي، ومن يعتبر نفسە کردیا فهو کردي”. ینطبق هذا القول علی کل إنسان وکل قومیة وعرق.
حسب موسوعة بريتانيكا البريطانية (Encyclopædia Britannica)، طبعة 1911، فإن الدروز خلیط من قبائل شرق- أوسطیة ولاجئون، أغلبهم عرب، یعودون أصلا إلی قوم من سكنة الجبال، ودم آرامي. من أشهر هذە القبائل: تنوخ ومعن، التي أنجبت أشهر زعیم درزي وهو فخر الدین بن معن. یٶکد الدکتور محمد الصویري أن “المعنيين هم من سلالة معن بن ربيعة الأيوبي الكردي، كان أجدادهم يعيشون في بلاد فارس ثم في الجزيرة الفراتية، ومنها انتقل جدهم معن بن ربيعة الأيوبي الكردي إلى جبل لبنان في القرن السادس عشر الميلادي”، وقد أكد صحة هذا النسب ما ذكره المؤرخ محمد أمين المحبي في كتابه “خلاصة الأثر” بقوله إن بعض أحفاد فخر الدين المعني كانوا يروون عنه أنه كان يقول: ” أصل آبائنا من الأكراد سكنوا هذه البلاد”، وأصبح أحفاد هذا الأمير من أشهر حكام جبل لبنان والشوف خلال سنوات 1516-1697م، وعرفوا بأمراء الدروز.
زعماء الدروز أصلهم كردي
أما أشهر العوائل التي قادت الطائفة الدرزیة في التاریخ عائلة عماد، التي يرجع أصلها إلی مدینة العمادیة الكردیة في جنوب کردستان، وعائلة جنبلاط (جانبولاد باللغة الكردیة وتعني الروح الفولاذیة) التي ترجع أصلها إلی شمال کردستان، وکذلك عائلة أطرش (أو هتروش) الذین ینحدرون أصلا من منطقة أتروش في جنوب کردستان. وهناك عائلة أرسلان، مع أن الاسم فارسیا وترکیا، لكنها تدعي أنها ترجع إلی ملوك الحیرة العرب. بالنسبة للعائلة الجنبلاطیة، أو “آل جنبلاط”، فهي من العائلات المشهورة في لبنان، وهم کرد في الأصل، دروز المذهب، يسكنون اليوم في الشوف بجبل لبنان، وتعد بلدة ” المختارة” قاعدة لهم.
وقد قامت هذه الأسرة بدور سياسي فاعل أيام الدولة العثمانية في شمالي الشام، وفي جبل لبنان، كما أدت دورًا مماثلاً في تاريخ لبنان الحديث. تنتسب هذه الأسرة إلى الأمير “جان بولاد بن قاسم بك بن أحمد بك بن جمال بك بن عرب بك بن مندك الأيوبي الكردي”، المنحدر من عشائر الأيوبيين الكرد، اشتهر بشجاعته وجسارته، مما حببه إلى السلطان سليمان القانوني، الأمر الذي دعا جان بولاد الطلب منه بإعادة ملك أبيه له، فلبى طلبه وأعادت الدولة ملكه بفرمان سلطاني، وهناك سار في خطة حازمة وأسس مقاطعته (حلب وكلس) بكل جدّ وثبات، وصار أمير الأمراء، عاش 90 عامًا، وتوفي سنة 1572م. ويعد الجد الأكبر والمؤسس لأسرة جان بولاد (جنبلاط)، ويذكر في كتاب “الشرفنامة” أنه ترك 70 ولدًا. وشهد التاريخ لهذه الأسرة بدورها الحافل في حلب واستانبول ولبنان، وكان لبعضهم تحالفات مع المعنيين الكرد في جبل لبنان. وقد بدأت أولى سلالتهم في لبنان سنة 1630م عندما نزل جان بولاد بن سعيد، وابنه رباح، لبنان بدعوة من الأمير فخر الدين المعني الثاني لما كان بينهما من ود وصداقة، ورحب به أكابر جبل لبنان ودعوه إلى الإقامة في بلادهم، فأقام في مزرعة الشوف، واعتمد عليه الأمير فخر الدين الثاني في مهمات أموره.
وكلمة جنبلاط أصلها من كلمة (جان بولاد) كردية التي تعني (الروح الفولاذية)، وقد لقبوا بها لشدة بأسهم، وفرط شجاعتهم، وحسن سياستهم، وقد حرفت لتصبح جنبلاط . وقد جاء في المنجد في اللغة والاعلام أن “جنبلاط، أسرة لبنانیة درزیة، کردیة الأصل، تنتسب إلی جنبلاط بن قاسم، حالفت الأمیر فخرالدین الثاني المعني. استوطنت لبنان منذ 1630 وأصبح مشایخها من زعماء الإقطاع في الشوف”.
أما آل العماد (العماديون) فهم أسرة كبيرة معروفة تقيم في جبل لبنان وذات منابت إقطاعية، تعود بنسبها إلى جدهم (عماد)، وهو كردي الأصل قدم من مدينة ( العمادية) القريبة من مدينة الموصل في كردستان العراق، إذ جاء مهاجرًا إلى لبنان وسكن قرية (مرطحون)، ثم ارتحل إلى الباروك، ومنها انتقل أحفاده إلى منطقة الشوف، فاعتنقوا المذهب الدرزي الشائع هناك وأصبحوا من كبار الملاكين، كما اعتنق بعضهم الديانة المسيحية المارونية. ومما يؤيد كرديتهم ما كتبه الدكتور سليم الهيشي بقوله: “يمتون بصلة القربى إلى عماد الدولة الديلمي الكردي الذي حكم منطقة العمادية…”.
سمعت وقرأت مرات ومرات مقابلات وتصریحات للشیخ الراحل کمال جنبلاط، والشیخ ولید جنبلاط، وهما شیوخ وسادة وزعماء الطائفة الدرزیة، أن أصلهم کردي، وأن الطائفة الدرزیة کردیة الأصل. یذکر کمال جنبلاط أن العائلة الجنبلاطیة ترجع أصلا إلی شمال سوریا، إذ أسس جدهم الکبیر الأمیر جانبولاد (الإسم الکردي للعائلة) مملکة تشمل حمص وحماە وحلب ودمشق وقسما من ترکیا الأناضولیة وبعد خلافات وعداء مع الدولة العثمانیة ومعارك معها، إضطر الجنبلاطیون إلی الهجرة إلی لبنان ومنطقة الشوف وسکنوا المختارة وأصبحوا سادة الدروز . إذا فکمال جنبلاط، من عائلة کردیة نزلت من شمال کردستان أصلا إلی غرب کردستان وبعدها إلی جبل لبنان والمختارة وقد هاجرت إلی لبنان في العهود الأیوبیة. في سنة 1973 زار کمال جنبلاط العراق وأصر علی زیارة الزعیم مصطفی البارزاني، فالتقی بە في ناوبردان مقر إقامة البارزاني آنذاك.
کما وأن الشیخ ولید جنبلاط زار أربیل، عاصمة إقلیم کردستان العراق، في تموز/ یولیو سنة 2011، والتقی الرئیس مسعود البارزاني. ولید جنبلاط، أکد مرارا أنە وعائلتە الجنبلاطیة هم کرد في الأصل. إذ عندما التقی الأمير تحسین بك جانبولاد، أمیر الإیزدیة، في معبد لالش في کردستان، أکد الاثنان أنهما يتحدّران من عائلة كردية وأصول واحدة. وفي هذا قال جنبلاط: “أزور كردستان العراق للمرة الأولى، ويسرني أن ألتقي بالأمير تحسين بك وألبي دعوته وتربطنا صلة كل على طريقته. نحن الموحدون الدروز لنا تقاليد وأعراف، لكننا نعود في مكان ما إلى الإسلام ونحن مسلمون، ولا يوجد أي فرق بين الأديان عامة، فلكل دين فلسفته، وطبائعه الدينية وشعائر المحبة”.
وأشار إلى أن والدە كمال جنبلاط عندما زار العراق العام 1973: “أصر على أن يزور المرحوم الملا مصطفى البارزاني في كردستان، ونحن نفتخر لكون أصولنا كردية وقد رحلنا في فترة معينة إلى لبنان“. وأضاف “كان والدي يردد كل الوقت أنه من أصول كردية ويبدو أنه حفظ عن ظهر قلب شجرة العائلة الجنبلاطية وأماكن دفن أجداده في بلاد الكرد” . قلَّة تعرف أصل العائلة الجنبلاطية، التي لعبت دورًا سياسيًا فاعلًا في لبنان والمنطقة، قبل تأسيس دولة لبنان الكبير في العام 1920. اعترف العثمانيون بعائلة جانبولاد، وعينوا علي باشا جانبولاد حاكمًا على حلب، حيث بقوا حكامًا، حتى ثار على العثمانيين. فقضوا على ثورته، واعدموه في العام 1511. يؤكد المؤرخون أن علي باشا جانبولاد كان كرديًا سنيًا، واعتنقت العائلة الديانة الدرزية بعد ذلك.
الدروز شأنهم شأن کل الأعراق والأقوام في العالم، فهم لیسوا شعبا خالصا ونقیا من عرق وأصل ودم واحد، لأنە لا یوجد في الكون شعب أو عرق أو قومیة صافية. هم ینتمون إلی أصول مختلفة، أما أنهم یعتبرون أنفسهم عربا في الوقت الحاضر، فلا إشكال في ذلك، لأن الانتماءات القومیة والعرقیة، قابلة للتغییر، والقومیة هي إحساس وثقافة قبل أي شيء آخر.
کاتب من کردستان العراق، مقيم في السوید منذ 1981