الأسرى السوريون

أسرى سوريون بعد اعتقالهم في مدينة حلب السورية (AFP)
أسرى سوريون بعد اعتقالهم في مدينة حلب السورية (AFP)

تعذيب 17000 سوري في مراكز الاعتقال التابعة لبشار الأسد

تقرير جديد لمنظمة "العفو الدولية" يكشف عن شهادات صعبة لمواطين كانوا محتجزين في مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري

تم تعذيب أكثر من 17,000 سجين سوري حتى الموت في مراكز الاعتقال الحكومية السورية في السنوات الخمس الأخيرة، أو أنهم قد ماتوا نتيجة الإصابة بأمراض لم تتم معالجتها، هذا ما يتضح من تقرير جديد نشرته اليوم (الخميس) منظمة العفو الدولية، أمنستي، التي تعنى بقضايا حقوق الإنسان.

يتضمن التقرير الذي ورد تحت عنوان “يدمرون البشر”، 65 ناجيا من التعذيب، الذين وصفوا لمجري المقابلة ظروف المعيشة غير الإنسانية في السجن العسكري قرب دمشق، وفي مراكز الاعتقال الرسمية الأخرى.

وتثير الشهادات تفاصيل صعبة حول طرق التعذيب التي يجتازها المحتجزين، وأبرزها هو جعل جسم الضحية مشوها ومحدبا، وجلد كفتي القدمين. في حالات أخرى، تم تعذيب الضحايا بضربات كهربائية، ممارسة عنف جنسي واغتصاب، اجتثاث الأظافر، وحرق الجلد بالماء المغلي، وبالسجائر.

بدأت الاعتقالات وممارسة أعمال العنف الصعبة مع اندلاع الفوضى في سوريا ضد الرئيس بشار الأسد عام 2011. أشعل القمع الصعب الذي مارسه النظام ضد المعارضين وصعود مجموعات المعارضة المسلحة، نيران الحرب الأهلية التي حصدت حياة ربع مليون مواطن حتى اليوم. إضافة إلى ذلك، فإن نصف سكان الدولة أجبروا على ترك منازلهم، ونحو 4.8 مليون مواطن هربوا من الدولة وأصبحو لاجئين.

اقرأوا المزيد: 173 كلمة
عرض أقل
مقاتلو داعش يأسرون الطيار الأردني معاذ الكساسبة
مقاتلو داعش يأسرون الطيار الأردني معاذ الكساسبة

التعامل مع أسرى الحروب وفقًا للشريعة الإسلامية

حُدد واجب التعامل الإنساني مع أسرى الحرب منذ عهد النبي محمد، واعتُمد من قبل المذاهب الفقهية الأربع في الإسلام السني منذ القرون الوسطى. في الغرب تم إرساء مثل هذه المعاملة فقط في معاهدة جنيف الثالثة عام 1929

أثارت استعراضات مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذين يحرقون معارضيهم وهم أحياء ردود فعل قاسية ضدّ الدين الإسلامي في الخطاب العام في البلاد وفي العالم. وقد أثار السؤال إذا ما كان تنظيم داعش يمثّل حقّا النواة “الحقيقية” للإسلام نقاشا فقهيا إسلاميا داخليا عاصفًا حول موقف المسلم تجاه العدوّ الذي يسقط في الأسر. تطرّق الفقهاء والباحثون إلى أسئلة عديدة، ومنها التعامل المناسب مع الأسرى والمختطفين.

يعتقد فقهاء التيار الرئيسي في الإسلام (الوسطية) أنّ عناصر داعش ينتهكون بشكل واضح ويومي الشريعة الإسلامية.‎ ‎أكّد الفقهاء الوسطيون مرارًا وتكرارا أنّ أسس التعامل اللائق تجاه الأسرى، سواء كانوا مقاتلين أم مدنيين، وتجاه الشعوب التي احتُلّت من قبل المسلمين، قد تقرّرت منذ عهد النبي محمد. في الفترة التي سبقت الإسلام انتشر في شبه الجزيرة العربية عدم استقرار سياسي، اقتصادي، اجتماعي، وأخلاقي. في فترات الحرب تم قتل الأسرى بالسيف أو حرقهم وهم أحياء. ومع انتشار الإسلام أمر نبي المسلمين بإدارة حروبهم من أجل الدفاع الذاتي عن الأراضي المحتلة والسكان الذين يعيشون فيها، وفي المقابل نشر السلام والهدوء في كل مكان حولهم. بل إنّه شجّع المؤمنين على التوصّل إلى اتفاقات سياسية مع أعدائهم.

عندما أعلن النبي عن نفسه كرسول الله واندلعت الحروب بين القبائل العربية وبين المسلمين الأوائل كان عليه أن يقرّر قواعد وأنظمة واضحة بخصوص التعامل مع الأسرى. وقد تأسست تلك القواعد بشكلٍ رسميّ في فترة مستقرّة وهادئة نسبيًّا، من قبل النعمان بن ثابت أبو حنيفة (699-768 للميلاد)، مؤسس المذهب الحنفي، المذهب الفقهي الليبرالي في الدين الإسلامي. حرّر أبو حنيفة ملفّ “الأحكام الإسلامية في الحرب والسلم”، والذي شكّل لاحقا أساسا لتقرير القوانين الدولية في الإسلام، السِيَر.

وقع أسرى الحرب الأوائل في معركة بدر (632 للميلاد) والتي دارت بين جيش النبي محمد وبين قبائل مدينة مكة. أمر النبي بعدم أذيّتهم بل وتوفير الحماية والطعام لهم حتى تقرير مصيرهم. وقرر أنه يجب معاقبتهم فقط إذا حاولوا الهرب أو الإضرار بحرّاسهم، (رغم الاحتمالات المستحيلة في النجاة في الظروف الصحراوية الصعبة، فلم تكن محاولات الهروب أو الإضرار بالحراس شائعة لأنّ أيدي الأسرى رُبطت بأعناقهم فقط بينما كانت أرجلهم حرّة).

وفقا للشريعة التي تقررت حينذاك كان من الواجب إبداء الرحمة تجاه أسرى الحرب، المسلمين وغيرهم، حتى لو سعوا إلى الإضرار بالمسلمين. في حال انسحب جنود جيش العدوّ يجب على صفوف المسلمين حمايتهم. وقد حرّم النبي قطع أعضاء من أجسام الأسرى أو تجويعهم حتى الموت، وأمر بإيوائهم في ظروف مناسبة قدر الإمكان، بل وسمح للأسرى بإقامة طقوس الشعوذة أو الصلوات الأخرى. كان واجبا تقديم المساعدة الطبية للأسير المريض. عندما يصبح الأسير عبدا لمسلم كان واجبا عليه أن يوفّر له الطعام، الملابس وظروف إقامة مماثلة لتلك التي لدى سيده. وفقا للروايات، فقد أمر النبي بإحضار الطعام والماء للأسير الذي اشتكى أمامه بأنّه جائع وظامئ، وطلب من أحد مساعديه إعطاء قميصه لأسير آخر كان عاريا في القسم العلوي من جسمه.

تقيّد القوانين الدولية في الإسلام إمكانية استعباد أسرى الحرب وتشجّع تحريرهم مقابل دفع كفارة، فضة أو ذهب، أو تبادل أسرى. بل وذُكرت في التاريخ الإسلامي إمكانية تجنيد الأسرى الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة في وظائف معلّمين للأطفال المسلمين. تحرّك هؤلاء المعلّمون بحرية ولدى انتهاء فترة “تشغيلهم” أصبحوا أحرارا وتم الإفراج عنهم. بالإضافة إلى ذلك تأمر الشريعة بعدم الفصل بين أسرى الحرب الذين سقطوا في الأسر وبين أسرهم. تم اعتماد هذه القوانين بشكل كامل من قبل المذاهب الفقهية الأربع في الإسلام السني منذ القرون الوسطى. إنّ مكانة وحقوق أسرى الحرب، والتي تم إرساؤها في إطار معاهدة جنيف الثالثة في العام 1929 فقط، مماثلة لهذه المبادئ الإسلامية.

نشر هذا المقال لأول مرة في موقع منتدى التفكير الإقليمي

اقرأوا المزيد: 544 كلمة
عرض أقل
لاجئ من درعا: "أخبرونا دائما أنّ إسرائيل هي الشيطان. استطاع الأسد أن يتلاعب بنا ونحن صدّقناه" (Noam Moskowitz)
لاجئ من درعا: "أخبرونا دائما أنّ إسرائيل هي الشيطان. استطاع الأسد أن يتلاعب بنا ونحن صدّقناه" (Noam Moskowitz)

من جحيم الأسد – إلى إسرائيل

لمحة عن الحياة المأساوية للجرحى السوريين الذين يتلقّون علاجًا في إسرائيل، وعن الإسرائيليين الذين يعالجونهم

“الحرب طاحنة. لم أتخيّل في أحلامي الأكثر جموحًا أبدا، أن أصل إلى حالة أضطرّ فيها إلى أن أحمل ابني الصغير على يديّ طالبة مساعدة الأطبّاء في الجانب الإسرائيلي من الحدود لإنقاذ رجله”، قالت لي نرمين (اسم مستعار) هذه الكلمات، وهي أم شابّة ولاجئة سورية، وصلت مع ابنها البالغ من العمر سبع سنوات، لتلقّي العلاج الطبّي في مستشفى “زيف” في مدينة صفد في الشمال، على الحدود الدامية بين سوريا وإسرائيل.

[mappress mapid=”17″]

لم تترك الحرب الضارية في سوريا، والقائمة منذ أكثر من أربع سنوات، الكثير من الخيارات أمام عشرات الآلاف من اللاجئين والنازحين السوريين، الذين يطرقون أبواب دول الجوار ومن بينها الأردن، لبنان وإسرائيل. وفجأة في مسرح الشرق الأوسط العبثي، تُفتتح أبواب وحدود مادّية ومعنوية بين دول عدوّة.

أحمد الطفل السوري من مدينة درعا يتلقى علاج في مستشفس إسرائيلي (Noam Moskowitz)
أحمد الطفل السوري من مدينة درعا يتلقى علاج في مستشفس إسرائيلي (Noam Moskowitz)

“لعب أحمد (اسم مستعار) خارج منزلنا في مدينة درعا”، التي كانت إحدى المدن السورية الأولى التي تطوّر فيها النضال ضدّ نظام بشار الأسد. “سمعنا صوت قصف فجأة، وبعد ذلك جاء الهدوء الفظيع. فهمتُ أنّ شيئا ما حدث لابني، لذلك خرجتُ من المنزل فرأيته ملطخًا بالدم في الساحة. استدعينا الإسعاف الأولي، وتلقّى ابني علاجا أوليًّا في المستشفى الميداني والمؤقّت في المدينة. كلّما مرّت الأيام، أدركت أنّ ابني لن يعود كما كان. أحدثت الإصابة القاسية من شظايا القذيفة، التواءً في رجله اليُمنى. سافرنا بما تبقّى لدينا من قوة إلى دمشق، وموّلنا من مالنا الخاصّ 17 عمليّة جراحيّة مختلفة كانت قد أجريت في رجله. قرّر الأطبّاء السوريون في دمشق، أن أحمد لن يستطيع المشي مجدّدا على رجله اليُمنى. لقد فقد أحمد الأمل، وتلاشى الفرح والسعادة اللذان كانا على وجهه. فهو طفل، ولا يفهم تماما أو يتقبّل الإصابة. لقد فهم أنّه فقد جزءًا من جسده. استغرق منّي الأمر بضعة أيام حتى أستعيدُ قواي وأقرّر الذهاب مع ابني إلى الحدود بين إسرائيل وسوريا. كنت مضطرّة إلى أن أكافح من أجل حياته، لم يكن بإمكانه أن ينجو من الحرب في سوريا مع قدم مبتورة. وهكذا حملته على يدي وأحضرته إلى المستشفى في صفد”، كما أخبرتني نرمين بألم كبير.

“منقذُ جميع الجرحى السوريين”

أحمد الطفل السوري من مدينة درعا يتلقى علاج في مستشفس إسرائيلي (Noam Moskowitz)
أحمد الطفل السوري من مدينة درعا يتلقى علاج في مستشفس إسرائيلي (Noam Moskowitz)

أخبرني البروفيسور أليكس ليرنر، الذي أشرف على عملية لدى أحمد، عن رحلته الطويلة للتعافي، “بعد 17 عمليّة جراحية، قرّر الأطبّاء السوريون أنّه لن يمشي، وأنظر إليه اليوم يستطيع ركل الكرة. وصل الطفل إلينا في حالة صعبة وقرّرنا إعادة تأهيل ساقه. بعد عملية واحدة إضافية، فهمنا كيف يجب إعادة تأهيلها وهكذا بواسطة قطع حديدية تم تثبيتها في ساقه نجحنا في تقويمها”. البروفيسور ليرنر، هو خبير ذو شهرة عالمية في علاج الصدمات في العظام ولا سيما إصابات الحرب، وقد اكتسب مؤخرًا أيضًا لقب المنقذ في أوساط الجرحى السوريين. لقد عالج المئات منهم، من بينهم مَن فقد كلّ أمل بأن يستطيع المشي مرة أخرى، ولكن وبفضل علاجه والعمليّات الجراحية المعقّدة التي أجراها عادوا إلى سوريا وهم يمشون على كلتا رجليهم، أو على أطراف صناعية مُنحت لهم بمساعدة الصليب الأحمر.

تبدو الحالة في مستشفى “زيف” وفي بعض المستشفيات الحكومية الكبرى في شمال إسرائيل (مستشفى بوريا في طبريا، مستشفى نهاريا ومستشفى رمبام في حيفا) غريبة في نظر الإسرائيليين والسوريين على حدٍّ سواء. وها هي حرب أهلية واحدة تتسبّب في اضطرابات كبيرة يختلط فيها كلّ شيء: مواطنون سوريون، من الذين قيل لهم خلال السنين من قبل النظام، إنّه من وراء السياج يكمن “الشيطان الأكبر”، يقيمون علاقة مع مرضى إسرائيليين، وفرق طبّية ويتلقّون المساعدات الإنسانية لإنقاذ حياتهم. وكذلك، يلتقي مواطنون إسرائيليون للمرة الأولى في حياتهم بجيرانهم السوريين، من منكوبي الحرب الذين تدمّر عالمهم.

مدير المستشفى، البروفيسور سلمان زرقا (Noam Moskowitz)
مدير المستشفى، البروفيسور سلمان زرقا (Noam Moskowitz)

حاولتُ أن أفهم من مدير المستشفى، البروفيسور سلمان زرقا، كيف تجري عملية نقل الجرحى السوريين المعقّدة، من سوريا إلى تلقّي العلاج في المستشفيات في إسرائيل. “لقد بدأ ذلك كعمل إنساني جميل ومؤثّر بقرار من الحكومة الإسرائيلية. في شهر شباط عام 2013، نُقل إلى هنا سبعة جرحى سوريين أصيبوا في المعارك في الحرب الأهلية خلف الحدود. ما بدأ حينذاك، قبل نحو عامين، أصبح اليوم مشهدًا اعتياديًّا. هناك أكثر من 1300 جريح سوري، مقاتلين، رجال، نساء وأطفال تمّ علاجهم في مستشفيات الشمال حيث وصل إلى مستشفى “زيف” حتى الآن 500 جريح. للتوضيح، هناك في المستشفى 300 سرير فقط ونحن قمنا بعلاج 500 جريح”.

“نكافح من أجل كلّ يد ورجل”

فارس عيسى العامل الاجتماعي في المستشفى يرافق كل المصابين (Noam Moskowitz)
فارس عيسى العامل الاجتماعي في المستشفى يرافق كل المصابين (Noam Moskowitz)

امتنع البروفيسور زرقا عن تقديم إجابات قاطعة بخصوص الطريقة التي ينقلُ فيها الجيش الإسرائيلي الجرحى لتلقّي العلاج الطبّي، ولكنّه أوضح بأنّ الجهات العسكرية لا تتدخّل في الإجراءات الطبّية للجرحى وأنّ المهنية الطبّية هي التي تقف في أعلى سلّم الأولويّات. “من المقبول حول العالم، في المناطق المنكوبة التي يتم فيها تقديم المساعدات الإنسانية إجراء عمليّات بتر الأطراف. الأساس المنطقي وراء هذا التفكير هو معالجة أكبر عدد ممكن من الجرحى، والتقليل بشكل كبير من وقت العلاج في المستشفيات وتخفيض التكاليف. ولكن في إسرائيل، قرّرنا أن نكافح من أجل الجرحى الذين معظمهم مصابي الأطراف. تخيّل أنّه كان بإمكاننا تقليص مدّة العلاج بشكل كبير لعشرات الرجال والأطفال السوريين الذين جاؤوا إلينا فقط لو قرّرنا بتر الأعضاء المصابة. تطوّرت في مستشفى “زيف” الخبرة ويكافح الفريق الطبّي ليلا ونهارا من أجل كل جريح وجريح انطلاقًا من العلم أنّ تلك الأطراف التي ننقذها ستساعد الجرحى على البقاء على قيد الحياة في الحرب التي في بلادهم”. وعن عملية إعادة الجرحى السوريين يقول البروفيسور زرقا إنّ السوريين أنفسهم يطلبون العودة إلى قراهم وبلادهم.

خديجة: "خرجتُ من منزلي لالتقاط الأعشاب وأنواع من النباتات البرّية. ودون أن أنتبه دُستُ على لغم. هكذا فقدت ساقاي".
خديجة: “خرجتُ من منزلي لالتقاط الأعشاب وأنواع من النباتات البرّية. ودون أن أنتبه دُستُ على لغم. هكذا فقدت ساقاي”.

التقيت بفارس عيسى، العامل الاجتماعي الذي يرافق الجرحى في مستشفى “زيف”، في خضمّ يوم حافل. كان قد قرّر تماما أن يخرج في جولة زيارة طبّية للجرحى. من جهة، تكشف تعابير وجهه الجادّة والقاسية التعب، ومن جهة أخرى، تكشف العزيمة والإصرار. “رأيت كلّ شيء. فكّر أنه عندما يأتي إلى هنا جريح سوري، رجل، امرأة، طفل أو طفلة، بالنسبة لهم فهم في دولة عدوّ. يكون العبء العاطفي ثقيلا. عندما ينقلهم الجيب العسكري التابع للقوات الطبّية إلى غرفة الطوارئ، أنتظرهم هناك مع الفريق الطبّي المهني. أحرص على أن أوضح لهم عن مكان وجودهم، فهذا يخفّف عنهم عندما يسمعوا بأنّ هناك من يتحدّث بلغتهم. أسألهم كيف يشعرون؟ أين يؤلمهم؟ كم من الوقت مرّ منذ الإصابة وحتى الوصول إلى الحدود؟ ماذا حدث لعائلاتهم؟ وهل لديهم حساسية لأدوية معيّنة؟ ورغم ذلك، فإنّ عالم المصطلحات لدى السوريين، رغم أنّهم عرب مثلي، مختلف. جاء إلينا قبل مدّة جريح بُترتْ ساقه في دمشق واكتشف الطبيب الجرّاح، هنا في “زيف”، أنّ الجرح قد خُيّط. من الناحية الطبّية، لا يجوز تخييط الجرح بعد البتر من أجل منع التلوّث ومنح الأنسجة فرصة الشفاء. سألت الشاب السوري من الذي خاط له هذه الغُرز، فقال لي بالعربية “الدكتور”، في وقت لاحق اتّضح لي أنّ المطهّر في مدينته هو الذي خاط له هذه الغُرز وليس طبيبًا جرّاحًا. هذه الأمور مهمّة”. الأمر الأكثر فظاعة ممّا أخبرني به عيسى بهدوء عندما قال: “اضطُررت أحيانا إلى اختراع أمّهات متبنِّيات. جاء إلى هنا بعض الأطفال دون مرافقة شخص كبير واضطُررت إلى الطلب من أمهات سوريات كنّ يمكثن في المستشفى أن يهتممن برعاية الأطفال الوحيدين”.

الطفلة ريهام (12) بعد عملية استئصال ورم سرطاني من بطنها (Noam Moskowitz)
الطفلة ريهام (12) بعد عملية استئصال ورم سرطاني من بطنها (Noam Moskowitz)

وعندما صعدنا باتجاه الطابق العلوي، حيث تُعالَج امرأتان سوريّتان كبيرتان في السنّ، فايزة وخديجة (اسمان مستعاران)، تغيير ما طرأ على تعابير وجه فارس، وارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه. لقد دخل قبل المصوّر الخاص بي وقبلي، وطلب منهما الإذن بالتحدث معهما. “الشعب السوري مُشكِّك بطبيعته، فلتفهم أنّه ليس سهلا عليهما وبالطبع بعد كل الذي اجتزنَهما”، كما أضاف.

توجّهتُ إلى خديجة (49)، وهي ملتزمة الفراش. لقد كافح الأطبّاء على كلتا ساقيها ولم ينجحوا في إنقاذهما. في النهاية اضطرّوا إلى بترهما. حاولت التحدّث إلى هذه المرأة الطيبة والتي حصلت في نفس الوقت على هدية راديو ترانزستور جديد كي تستطيع الاستماع إلى القليل من الموسيقى العربية. لم يكن سهلا عليّ، فمع ذلك فإنّ المرأة التي وقفتُ أمامها، والتي هي قريبة من سنّ أمّي وها هي فاقدة لأطرافها السفلى وتبتسم ابتسامة مؤلمة. “حجّة، هذا عامر وهو صحفيّ جاء ليسألك بضعة أسئلة، حسنًا؟”، ساعدني فارس.

من جحيم الأسد - إلى إسرائيل (Noam Moskowitz)
من جحيم الأسد – إلى إسرائيل (Noam Moskowitz)

“ما في مشكلة بس ما يصوّر. فارس لا تنس أن تحضر لي زجاجة كولا صغيرة، من فضلك”، قالت خديجة. رويدا رويدا تحرّرت وكشفتْ عن قصّتها المؤلمة: “أنا من درعا. وأمكث هنا منذ عدّة أشهر، وفي هذه الأثناء أنتظر الحصول على الأطراف الاصطناعية التي من المفترض أن تصل قريبًا”.

تحدّثت خديجة بصوت يرتجف عمّ مرّت به وكيف فقدت ساقيها: “خرجتُ من منزلي لالتقاط الأعشاب وأنواع من النباتات البرّية. ودون أن أنتبه دُستُ على لغم. كان الوصف موجزًا وتقشعرّ له الأبدان. لم يكن عندي ما أضيفه.

معظم متلقي العلاج هم من الرجال الشباب

معظم متلقي العلاج هم من الرجال الشباب (Noam Moskowitz)
معظم متلقي العلاج هم من الرجال الشباب (Noam Moskowitz)

أخبرني فارس أنّ المستشفى قد عالج حتّى الآن نحو 500 سوري، حيث إنّ معظم الجرحى هم من الرجال الشباب وأنّه يفترض بأنّه كان من بينهم مقاتلون وليس فقط مدنيّون أبرياء. “أجرينا أيضًا علاجات لمدنيّين لم يصابوا نتيجة الحرب. كما وأشرفنا على ولادة لعشر نساء وهناك الآن امرأة قد وصلت للحصول على علاج بعد أن اكتشفت بأنّ لديها تلوّث التهابي حادّ في المسالك البوليّة. وهي موجودة هنا منذ خمسة أيام وقد وصلت إلى هنا بتوصية طبيب من درعا، والذي توسّل فعلا كي تذهب إلى إسرائيل لتلقّي العلاج قبل أن يفوت الأوان”.

ولدى الدخول إلى الغرفة رقم 10 في المستشفى، وُضع هناك جندي لحراسة الغرفة لمنع دخول الغرباء. في الغرفة نفسها، كان هناك أربعة رجال جرحى ممن لديهم درجات إصابة خطيرة. أُصيب بعضهم كنتيجة لإلقاء “براميل متفجرة” على بلدات مدنية وهو ما يقوم به سلاح الجوّ السوري في الكثير من الأحيان. “أُصِبتُ بقذيفة أُطلِقتْ صوب منزلي”، كما أخبرنا رائد (اسم مستعار)، وهو شاب في سنّ الثالثة والعشرين، وهو أيضًا لاجئ من درعا. “أخبرونا دائما أنّ إسرائيل هي الشيطان. استطاع الأسد أن يتلاعب بنا ونحن صدّقناه”. صعّبتُ الأمر على الشاب، وحاولت أن أفهم إذا ما كان قد شارك في القتال بجانب الثوار. لم أتمكّن من الحصول على إجابة، ولكن كان واضحا من مظهره أنّه هو والشباب الذين كانوا بقربه ينتمون إلى تيّار إسلامي ما، ربّما جبهة النصرة، ولكن ربّما لن أستطيع معرفة ذلك أبدا.

في آخر الغرفة، ظهر شاب مرهق، كان يبلغ من العمر 17 عامًا. توجّهتُ إليه وحاولت إجراء محادثة معه. اخترقتْ نظرته الميّتة روحي. تحدث الشاب قائلا: “أطلقت دبّابة تابعة للأسد النيران صوب منزلنا، وتلقّيت أنا معظم الضربة، لذلك اضطُرّ الأطبّاء إلى بتر ساقي. أتعالج في مستشفى “زيف” منذ 70 يومًا. يقوم الفريق الطبّي هنا، مرّة كلّ أسبوع، بالاتصال بأسرتي. لا أذكر تماما كيف وصلت إلى إسرائيل، فقد كنت فاقدا للوعي لعدّة أيام”.

من جحيم الأسد - إلى إسرائيل (Noam Moskowitz)
من جحيم الأسد – إلى إسرائيل (Noam Moskowitz)

وعند اقتراب نهاية الزيارة حُفرتْ في ذاكرتي صورة واحدة. وذلك عندما طلب أحمد اللعب مع ريهام (اسم مستعار) وهي طفلة (12 عامًا) سورية من القنيطرة، جاءت لتلقّي العلاج الطبّي في المستشفى بعد أن لم يجد الأطبّاء في قريتها طريقة لإجراء عملية جراحية لها واستئصال ورم سرطاني من بطنها (استأصل الأطبّاء في “زيف” من بطنها ورمًا سرطانيّا يزنُ كيلوغرامَين وأنقذوا حياتها). لقد أجبر أحمد ريهام، التي استجابت برأفة، على رفعه على الكرسي المتحرّك، وبيده وعاء من الكعك. طلب منها أن تأخذه لزيارة الأطفال الإسرائيليين في القسم. لقد أصرّ على إكرامهم بالكعك الذي حصل عليه للتوّ من أحد الزوّار.

اقرأوا المزيد: 1645 كلمة
عرض أقل