بالرغم من أن اتفاق سايكس ـ بيكو بُني على أنقاض الخلافة العثمانية، إلا أنه لم يلتفت إلى واحدة من أهم أخطاء تلك الخلافة، وهو تجاهل الأقليات العرقية والدينية الموجودة في المنطقة العربية
في ظل الأزمات والصراعات التي تطيح بما باتت تعرف منذ زمن بعيد بالمنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، هناك حاجة إلى التفكير المتأني، والتحليل العميق في أسباب ظهور هذه الصراعات والنزاعات ودوافعها. إذ هذه في قسوتها وأحداثها الحربين العالميتين، الأولى والثانية، لاسيما بعد أن امتد تأثير تلك الأحداث إلى قارات أخرى خارج النطاق الإقليمي لها. وفي هذا الإطار الذى يتوافق مع مئوية سايكس ــــ بيكو، يكون السؤال الأبرز هو: لماذا انهارت الدول التي ظهرت نتيجة الاتفاقية؟
قد تتعدد الإجابات وتختلف، لكن، في النهاية، سوف تؤدى إلى نتيجة حتمية لا مفر منها، وهى أن ما يحدث في المنطقة سببه صراع “الهوية”، ذلك الصراع الذى لم تنجح التغيّرات العديدة، والمحاولات المريرة التي مرت على تاريخ المنطقة في تغييره، فمع تغيّر الهوية الدينية واللغوية لشعوب ما بات يعرف اليوم بالعالم العربي، نرى أن الدين الواحد أو اللغة الواحدة لم يفلحا في تحقيق نوع من التوازن والثبات في المنطقة هذه لفترات طويلة تذكر.
فمنذ اللحظات الأولى ظهر قتال ما بين المسلمين وبعضهم البعض على أساس طائفي (سني/شيعي)، اختلط فيه ما هو ديني بما هو سياسي، وحتى ظهور الأنظمة السياسية المختلفة بداية بعصر الخلفاء، مرورًا بالدولة الأموية، والعباسية، والمماليك، انتهاءً بآخِر الخلافات وهي الخلافة العثمانية التي شهدت سقوطا مدويا، بدأ من 1908- 1922. فالسقوط هنا للكيانات الكبيرة المبنية على أساس طائفي لا يكون مرة واحدة أو دفعة واحدة، بل يكون على فترات تطول أو تقصر على حساب الظروف والمسببات.
وبالرغم من أن اتفاق سايكس ــــ بيكو بُني على أنقاض الخلافة العثمانية، إلا أنه لم يلتفت إلى واحدة من أهم أخطاء تلك الخلافة، وهو تجاهل الأقليات العرقية والدينية الموجودة داخل أراضي تلك الخلافة المنهارة، فأخذت كل من القوى الاستعمارية الفرنسية والبريطانية، متمثلة في شخص سايكس ــــ بيكو، بتشكيل دول جديدة غير متجانسة، على أسس غير منصفة.
واستمرار هذه الدول والحدود التي نشأت عن الاتفاق لقرابة 100 عام، لا يعنى أنها كانت دولا ناجحة أو مستقرة، على العكس تمامًا، لأن هذه الدول محكوم عليها بالفشل والانتهاء منذ البداية، ولكن التشكيلات والقوى العالمية التي كانت سائدة في الفترات السابقة هي التي كانت تمنح تلك الدول، ولكى نكون أكثر دقة الأنظمة التي كانت موجودة في هيئة دول، شرعية الاستمرار، نتيجة الحاجة لها كمحاور ومحطات كان يدار من خلالها، وعلى أرضها، وعبر حدودها، صراعات تحديد القوى والنفوذ بين القطبين الكبار إبّان فترة الحرب الباردة.
ولهذا كان يتم التغاضي عن وجود أنظمة ديكتاتورية تضطهد وتبيد الأقليات العرقية والدينية، وتقمع الحريات الشخصية والفردية، فارضة نوعا من العزلة على شعوبها، حتى لا يتأثر بحركة الحرية والتحرر التي بدأت تجتاح المجتمعات الغربية بعد سقوط النازية والفاشية، وفي الوقت الذى كانت فيه أوروبا تعيد بناء نفسها على أسس ليبرالية بمساعدة الولايات المتحدة، كانت أغلب تلك المجتمعات تدخل تحت عباءة الاتحاد السوفيتي الذى كان لا يؤمن بحرية الفرد.
وطوال تلك الفترة، كان هناك على الطرف الآخر التيارات الدينية الراديكالية، تنشط وتنمو في هذه المجتمعات، وتقدم نفسها كتيار بديل عن التجربة السوفيتية أو الغربية الليبرالية العلمانية، التي كان ينظر لكلاهما نظرة ريبة وشك من أتباع هذه التيارات، وبدأت التيارات الدينية الراديكالية تنمو وتجد لها كل يوم مزيدا من الأتباع والمريدين، وبدأت الأنظمة الحاكمة تارة تستخدم العنف ضد تلك التيارات، وتارة تستخدم تلك التيارات لضرب تيارات أخرى.
ووسط كل هذه الحالة من عدم الاستقرار الفعلي لهذه الدول ذات الهياكل الهشة، كان هناك العديد من الفِرق والتيارات الأخرى التي وجدت نفسها داخل دول لا تعرف كيف تكونت، ولا كيف ذهب الحكم فيها لجماعات معينة دون أخرى، لا تجد لها أي فائدة من تلك الدول بصيغتها الحالية، لأن تلك الدول كانت لا تعترف بحقوق أقلياتها العرقية أو الدينية، وصراع السلطة بداخلها دائمًا ما ينحصر بين السلطات العسكرية والتيارات الدينية التي تحتكر الحق الإلهي لنفسها في التعامل مع الآخرين.
ومن هنا أصبحت الخريطة الحالية، بتكويناتها وتركيبتها، لا تخدم مصالح الجميع، ونشأت الصراعات الدامية التي متوقع لها أن تمتد أكثر من ذلك لتشمل كل المنطقة من المحيط إلى الخليج، لأن أسباب قيام تلك الصراعات متوفرة في كل ربوع المنطقة.
وما زال استخدام الدين والبعد الطائفي السلاح الأقوى، فنجد تنظيم الدولة الإسلامية، “داعش”، يمثل القوى السنية، يقابله قوى شيعية متمثلة في المليشيات والقوى الشيعية من حزب الله، وميليشيات الحوثي والحشد الشعبي في مواجهات مستمرة ممتدة من اليمن إلى سوريا والعراق ولبنان والبحرين.
كلاهما يبحث عن التمدد على حساب الآخر، غير عابئين بالمكونات الأخرى للمجتمعات محل الصراع الدائر بينهم، وسط استخدام الدين كهوية للدولة، وفي استمرار مريع لهدم فكرة الدولة والمواطنة واحترام التعددية والهويات المختلفة لمكونات تلك المجتمعات.
وفي النهاية، نجد أن محاولة توحيد مجتمعات ذات أصول ثقافية وتاريخية مختلفة، باستخدام الدين واللغة لإيجاد ما يعرف (بالمجتمعات العربية)، هي فكرة مصيرها الفشل من اللحظة الأولى، إذ نشأ عنها الصراع السني/ الشيعي الذى لم يتوقف حتى الآن، وبناء على ذلك الأساس في كل مآسي هذه المنطقة هو صراع الهوية، ومحاولة ضم مجموعات غير متجانسة داخل حدود دولة واحدة.
المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، دوري غولد (Hadas Parush/Flash90)
“مصير المبادرة الفرنسية الراهنة كمصير سايكس – بيكو”
شبّه دوري غولد، المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، المبادرة الفرنسية الراهنة، باتفاقية سايكس – بيكو التاريخية، قائلا إن مصير الأولى الفشل مثل الثانية
إسرائيل تواصل رفضها لمؤتمر السلام الدولي المقرر بباريس: قارن المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، دوري غولد، بين المبادرة الفرنسية الراهنة وبين اتفاق سايكس – بيكو قائلا “قبل مائة عام سعى اتفاق سايكس – بيكو إلى فرض نظام جديد في الشرق الأوسط، تلك المبادرة فشلت، وهذا ما سيحصل للمبادرة الحالية”.
وشدد المتحدث الإسرائيلي، الذي يعبر عن موقف الحكومة، على أن الطريق الوحيد لتحقيق السلام سيكون عبر المفاوضات المباشرة، من دون شروط مسبقة، وبدعم الدول العربية.
وأضاف سائلا “لو كنت في حالة خصام مع جارك، لا داعي للسفر إلى فرنسا، ودعوة دولة السنغال، من أجل التوصل إلى حل”.
في بداية السنة السادسة على الأزمة السورية يقف أمامنا سؤالان كبيران. الأول، لماذا لم يوفر كل الذين يقفون إلى جانب الشعب الثائر صواريخ ضدّ الطائرات وضدّ الدبابات؟ الثاني، الذي يبرز على خلفية هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في تدمر، لماذا كل التحالفات والقوى التي (لم) تُفعَّل ضدّ داعش في سوريا لم تهزم التنظيم أو تحد من سيطرته؟ هناك إجابة واحدة عن كلا السؤالين: لم يكن جميع اللاعبين المشاركين مستعدين على المضي في الطريق بأكملها من أجل تحقيق تصريحاتهم.
لم يرغب بعض المشاركين في الأزمة السورية في سقوط نظام الأسد. لا يدور الحديث فقط عن الدول المشتبه بها مباشرة مثل إيران وروسيا؛ ولكن إسرائيل أيضًا لم ترغب في رحيل الأسد، فقد استفادت وستستمر في الاستفادة من الأزمة. الولايات المتحدة أيضًا، رغم تصريحاتها وإظهار عضلاتها، لم تكن مستعدة لدفع الثمن مقابل رحيل الجزار من دمشق. هل هناك طريقة أخرى لتفسير منع وصول السلاح المضادّ للدبابات والطائرات إلى أيدي الثوار، رغم أن كل جندي مبتدئ يمكن أن يدرك أنّه من دونها ليس لديهم أي احتمال ضدّ قوات الجيش السوري، الإيراني، الروسي وحزب الله؟ بكلمات أخرى، فقدان الشرعية الداخلية لنظام الأسد، كنتيجة لجرائم الحرب التي اقترفها، كان قد توازَن مع الدعم الخارجي الذي حظي به من إيران وروسيا ومع انعدام الرغبة الغربية والعربية في تسليح الثوار بشكل فعال.
سايكس بيكو 2
وهكذا وجد الشعب السوري، الذي تظاهر بشكل سلمي ضدّ القمع على مدى تسعة أشهر، وجد نفسه وحيدا في المعركة ضدّ نظام مدعوم من قبل قوى دولية عظمى (روسيا) وقوى إقليمية (إيران)، في الوقت الذي يستخدم فيه الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، عبارات تلطيفية كذريعة لإخفاقه.
كذلك فيما يتعلق بداعش دق الكثيرون طبول الحرب وعمل القليلون، القليل جدا وفي وقت متأخر جدا. إن القضاء عسكريا على تنظيم الدولة الإسلامية هو مهمة تستغرق شهرين أو ثلاثة من خوض حرب حقيقية، ولكن الكثير من الدول، وعلى رأسها نظام الأسد نفسه، استغلت داعش لاحتياجاتها بدلا من قتالها. استخدم الأتراك، على سبيل المثال، داعش من أجل زيادة الصعوبة على الأكراد في شمال سوريا، بل وتاجروا مع التنظيم بالنفط ومنتجاته. هكذا بقيت داعش على قيد الحياة، بل وتعزّزت، عسكريا ولا سيما اقتصاديا.
سايكس بيكو 2
كذلك المملكة العربية السعودية وتركيا، اللتان ترغبان في رحيل الدكتاتور وصعود نظام حليف في سوريا، لم توفّرا للثوار وسائل قتاليّة فعّالة بشكل عام. وذلك في الوقت الذي تقوم فيه إيران، عدوّتهما اللدودة، بكل ما يحلو لها في سوريا. يبدو أنّ الولايات المتحدة هي التي منعت كلا القوتين الإقليميتين السنيّتين من دعم الثوار. الولايات المتحدة وروسيا، واللتان تبدو مصالحهما في سوريا موحّدة في هذه المرحلة، هما اللتان تمليان سير الأزمة. يجري بينهما إجماع في شأن المفاوضات لإيجاد حلّ للأزمة وفرضه على الأطراف، وتتعاونان ميدانيا ضدّ جميع الجهات التي تجرؤ على معارضة خططهما.
هذا العام سيكون قدّ مرّ 100 عام على اتفاقية سايكس- بيكو بين بريطانيا وفرنسا، والتي حسمت مصير سكان الشرق الأوسط وشكّلت طابع الدول وطابع تطوّرها. هناك شكّ أنّنا أصبحنا نعيش في ذروة عصر آخر تُحدد فيه القوى العظمى مصير الشعب السوري بشكل يخدم رغباتها، من دون علاقة بإرادة الشعب السوري وإرادة المجموعات التي يتألف منها.
هناك احتمال عندما تزورون مصر أن تسمعوا حكاية مزعجة بحسبها فإنّ سمكة القرش التي هاجمت سائحا على الشاطئ في شرم الشيخ كانت قد دُرّبت من قبل الموساد الإسرائيلي. نظريات المؤامرة، بطبيعة الحال، ليست حصرية بالشرق الأوسط. فالناس في جميع أنحاء العالم قد تربّوا على قصص مثل “لم يهبط الإنسان على القمر أبدا” و”إلفيس ما زال حيّا”. مع ذلك، لا يمكن أن ننفي بأنّ نظريات كهذه هي أكثر شعبية لدى العرب والفرس. وإليكم بعض النماذج:
1. الدولة الإسلامية قد أُنشِئت من قبل الغرب.
2. الولايات المتحدة اتصلت بالإخوان المسلمين من أجل تدمير مصر. كان مرسي يخطّط لإعطاء كلّ شبه جزيرة سيناء لحماس.
3. تعرض إحدى حلقات “عائلة سمبسمون” كيف أنّ الولايات المتحدة متّهمة بإشعال الربيع العربيّ.
4. جلبت معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر السرطان، التهاب الكبد وغيرها من الأمراض إلى الدولة العربية.
5. وضع هنري كيسنجر خطّة لطرد جميع المسيحيين من مصر عندما اندلعت الحرب الأهلية عام 1975.
6. الأسرة السعودية المالكة هي في الواقع يهودية. وهكذا أيضًا القذافي والخليفة أبو بكر البغدادي، الذي اسمه الحقيقي هو شمعون إليوت.
7. أعطت الولايات المتحدة الدفعة الأخيرة لصدام قبل غزو الكويت.
8. يحتوي مشروب الكوكا كولا والبيبسي على الخنزير والكحول.
9. كان الخميني، قائد الثورة في إيران، في الواقع، عميلا بريطانيّا سرّيا.
10. اليهود هم المسؤولون عن مقتل كينيدي ولينكولن ويقفون وراء الثورة الفرنسيّة.
11. قرش فقط؟ أرسل الموساد نسرًا للتجسّس على السعودية.
12. خططت الولايات المتحدة وإسرائيل لأحداث الحادي عشر من أيلول.
هجمات ال- 11 من سبتمبر 2001 (AFP)
عندما يتمّ تحليل نظريات المؤامرة هذه لأجزاء، يبدو أنّها تتبع نمطا معيّنا. في غالب الحالات، فهي تتعلّق بأحداث شهيرة، على سبيل المثال حادثة الحادي عشر من أيلول، صعود الإخوان المسلمين في مصر ومقتل كينيدي. وهي تعرض أيضًا وجهة نظر مثنوية وتميل إلى توجيه الاتهامات لإسرائيل و/أو إلى الغرب (يُوصف كلاهما بالشيطان الأكبر). في المقابل، تلك في الواقع مجرّد نظريّات، نظريّات لا يمكن دائما دحضها بواسطة النظر أو التجربة، ممّا يزيد جدّا من صعوبة محاربة وجودها.
ومن المثير للاهتمام أنّ هذه النظريّات ليست شائعة في أوساط “الرعاع” فحسب. إذ تتبنّاها أيضًا شخصيات مثقّفة وسياسية شهيرة. على سبيل المثال، هناك الكثير من السياسيّين الذين ما زالوا يزعمون أنّ أحداث الحادي عشر من أيلول وُضعت ونُفّذت من قبل الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، تلعب وسائل الإعلام دورا مهمّا. فإنّها لا تُحضر فقط موقف الطرفين، وإنما تسمح أيضًا لكلّ نظرية غريبة أن تصل إلى جمهور واسع. هناك معضلات لم يتمّ حلّها مثل اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، تنشئ شائعات ونظريات مؤامرة وتصبح بمثابة فخّ.
أداة سياسية؟
Mossad
على الرغم من طابعها المثير للسخرية، تعتبر نظريات المؤامرة أداة سياسية وموشور عملي عندما يتم تحليل العلاقات بين الحكومات والمجتمعات في الشرق الأوسط. بالنسبة للمواطنين، فإنّ هذه النظريات تعرض طريقة للتعبير عن إحباطهم من التعتيم على صنع القرار، ولكنها من الممكن أيضًا أن تتسبّب بحالات من تجاهل مظالم النظام. في نهاية اليوم، ترسم هذه النظريات القادة كضحايا أكثر من أن يكونوا منفّذين لمظالم. وهي أيضًا أداة ذات قيمة للسيطرة، وطريقة لدراسة ولاء الجمهور والتأكد من أنه ملتزم وموحّد ضدّ الأعداء الخارجيين. استخدم صدام حسين مثل هذه النظريات بمهارة كبيرة خلال حرب الخليج.
الشيطان الأكبر ؟
وكثيرا ما تتغذّى نظريات المؤامرة هذه على الجهل، النابع من عدم فهم التاريخ. هذه الحالة هي نتيجة لأوجه القصور في الأنظمة التعليمية في تلك الدول نفسها، والتي يعبّر حتى زعماؤها عنها. ولكن لا تكون دائما الحالة كذلك؛ ففي الكثير من البلدان يخشى المواطنون من التعبير عن أفكارهم ويخترعون نظريات أو يعتقدون بها، بحيث تعرض زعماءهم بشكل إيجابي، مهما كانت غريبة.
ويجب أن نأخذ بالحسبان أيضًا الجانب التاريخي. فقد عانت منطقة الشرق الأوسط من التدخّل الأجنبي الكبير على مدى التاريخ، والذي تضمّن بذاته مؤامرات؛ من سايكس بيكو وحتى أزمة السويس عام 1956. ولذلك فإنّ انعدام الثقة هو صفة مفهومة جدّا على ضوء حقيقة أنّ سكان المنطقة يتّهمون الغرب بتحطيم الوعود.
المرشد الاعلى للاخوان المسلمين محمد بديع خلف قضبان المحكمة في القاهرة (AFP)
لقد نمت المجتمعات العربية على فكرة السرّية، ولذلك فإنّ مثل هذه الأنواع من النظريّات وُلدتْ من التشكّك تجاه السلطة، السياسيين والدولة؛ فالمواطن العربي معتاد على أن يكذبوا عليه. وفي بعض الأحيان، يكون الواقع المؤسسي على درجة من التعقيد بحيث يصبح التوجّه إلى النظريّات المبسّطة أكثر سهولة ببساطة. في النهاية، فقد نمت نظريّات المؤامرة أيضًا كتوجّه موحّد مع اختلاف الأيديولوجيّات – القومية العربية، والإسلامية، الشيوعية وغيرها – داخل المجتمعات المنقسمة بشكل منتظم. نظريات المؤامرة هي بمثابة حلم يؤدي إلى الشعور بالراحة لـ “الدماغ المحاصَر” لدى المواطنين العرب.
اشتراك دول عربية في الهجمات على الإسلاميين يدل على مرحلة جديدة في الصراع العربي الداخلي، التي تفتت الترتيب السياسي القائم ولا تعرض حلولا للمشاكل الأساسية للمجتمعات العربية فقط عندما يذوّت السياسيون العرب الحاجة إلى التنازل، ستبدأ عملية المصالحة، البناء والتعامل مع المشاكل الأساسية للمجتمعات العربية
في صباح يوم الثلاثاء، 23 من أيلول، انضمت طائرات من السعودية، البحرين، الأردن، الإمارات العربية وقطر إلى الهجمات الجوية التي قادتها الولايات المتحدة ضد داعش في سوريا. لم تكن هذه أول هجمات جوية تجريها الدول العربية ضد متطرفين إسلاميين. قبل شهر، عندما احتلت مليشيات إسلامية مطار طرابلس عاصمة ليبيا، نُفذت ضدها عمليات قصف غامضة. لم تعترف أي دولة بأن طائراتها هي التي نفذت القصف، لكن من الراجح نسبتها إلى مصر والإمارات. أي أن السلاح الجوي للدول السنية هاجم سنيين ينتمون للإسلام المتطرف. إن الحقيقة القائلة بأن سنيين معتدلين، والذين يشكلون الأغلبية الساحقة من المسلمين، ينضمون إلى صفوف الجيوش الغربية ويقاتلون معهم الإسلام المتطرف يجب أن توقظ من جديد الفكرة عند من يعتقد أن داعش تتمتع بدعم عارم من السنيين.
قادة دول المجلس في قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية (AFP PHOTO / SPA)
يؤجج دخول جيوش من الدول العربية إلى دول أخرى الصراع في العالم العربي، ويشكل جزءا من عملية أوسع يحاول فيها العالم العربي أن يشكل نظاما سياسيا جديدا. لسنا نشهد فقط تفتتا للدول التي أقامها البريطانيون والفرنسيون في نهاية الحرب العالمية الأولى، بل ونرى عدم توافق على سمات المبنى السياسي المقترح من قبل الحركات والسياسيين المختلفين على الساحة العربية.
في المجتمعات العربية في هذه الأيام، تعمل ثلاث مجموعات تحاول تشكيل ترتيب سياسي جديد. المجموعة الأبرز، التي تحظى بأغلب الانتباه، هي مجموعة الإسلاميين المتطرفين، مثل داعش، جبهة النصرة، وتنظيمات أخرى مقربة من القاعدة وتطمح لاستبدال دول المنطقة بالخلافة. حسب طريقة هؤلاء الإسلاميين، اتفاقية سايكس بيكو، التي أدت إلى إقامة دول الشرق الأوسط، هي جزء من مؤامرة غربية أعدت لتقسيم العرب والمسلمين ولإضعاف صراعهم ضد الغرب. هدف الإسلاميين طويل المدى هو السيطرة على المناطق العربية وتوحيدها، والسيطرة شيئا فشيئا على باقي العالم.
مقاتلو داعش في العراق (AFP)
المجموعة الثانية هي مجموعة زعماء الدول العربية الحالية، التي يدير أغلبها حكما استبداديا يتجاهل الجماهير الواسعة ومصالحها. زعماء هذه الدول، ومنها مصر، السعودية، الأردن وغيرها، هي طبقات تستغل موارد الدولة لإثراء نفسها. الآن، يحس هؤلاء الزعماء بالتهديد من المنظمات الإسلامية، ولذلك يرسلون الطيّارين الخاصين بهم لقصفهم في المناطق التي يتحصنون فيها.
المجموعة الثالثة تتألف من مواطني الدول العربية. القليل من بينهم هم أولئك الشباب المتحرر الذي قاد “الربيع العربي”. في البداية، استطاعوا أن يبرموا عهودا مع الإسلاميين المعتدلين، وعلى أساس هذه العهود قاموا بتشكيل قوة شعبية عزلت الحكام الفاسدين لتونس، ليبيا، ومصر، لكن في وقت قصير نُقضت هذه العهود على يد زعماء متصلبين وطموحين من كل التيارات، والآن نشهد عودة مجموعات القوى التقليدية.
عمليات إرهابية ضد القوات المصرية في سيناء (AFP)
صنعَ فشل القوى التي صعدت في “الربيع العربي” والقضاء على الحكام المحليين في دول مثل ليبيا وسوريا فراغا في السلطة. إلى داخل هذا الفراغ تسللت الفئات الإسلامية التي تهدد بتحويل سوريا ومعها العراق وليبيا، إلى بدايات جسر الانقلاب الإسلامي المتطرف. مقابلها تقف منظمات ودول ليس بيدها إمكانية الوصول لاتفاق حول رؤيا سياسية مشتركة.
والأسوأ من ذلك، أن التيارات والقوى التي تعمل على الساحة العربية غير مستعدة للتنازل فيما بينها. من اللحظة النادرة التي عمل فيها معا إسلاميون معتدلون وليبراليون جنبا إلى جنب، بقيت دولة واحدة، تونس، التي نجحت في إقامة بنية سياسية فاعلة. في دول أخرى، رفضت القوى المختلفة أن تصل إلى تسوية، وبسبب ذلك ضعُفت، وبهذا مكنوا الحكام التقليديين الفاسدين من العودة للحكم. تسللت إلى عدد من الدول التي اغتيل فيها الحكام التقليديون (ليبيا) أو تضرروا كثيرا (سوريا)، فئات إسلامية تسعى إلى تفتيت حدود الدول واستبدالها بطريقة سياسية مختلفة تماما- الخلافة. المقام المشترك لكل هؤلاء هو رفضهم- أو عدم قدرتهم- على التعامل مع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي أشعلت ثورات “الربيع العربي”.
تونس، الدولة التي أشعلت “الربيع العربي” (AFP)
يبدو إذا أن العالم العربي غارق في فترة حروب طويلة الأمد. ما دامت الجهات السياسية المتخاصمة تلعب لعبة مبلغ الصفر فستبقى منقسمة، ضعيفة، وعديمة القدرة على التعامل مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تلقي بثقلها على مواطني الدول العربية. الطريقة الوحيدة التي يمكن للعالم العربي أن يخرج بها من دائرة العنف والدمار هي التوقف عن الطلبات بعيدة المدى من الجوانب المختلفة، وتقديم التنازلات، وبهذا يمكن إقامة التحالفات التي يمكن أن تستجيب للخلافات في المجتمعات العربية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال زيارته في الولايات المتحدة (Flash90/Avi Ohayon)
الواقع الاستراتيجي الجديد في الشرق الأوسط يختلف عن الواقع الذي يخطط له نتنياهو
التدرجات السوداء التي تحدث عنها رئيس الحكومة في خطابه في الأمم المتحدة قائمة حقًا. ولكن، الاستنتاج الذي يقول إن إسرائيل هي الهدف الرئيسي للإسلام المتطرف، يتجاهل مسألة الصراع التاريخي الذي يدور الآن والذي تمارس فيه إسرائيل دورًا هامشيًا
في الخطاب المصقول الذي ألقاه رئيس الحكومة في الجمعية العامة للأمم المتحدة أول البارحة (الإثنين) تم وصف الشرق الأوسط، بنوع من التعميم، كمنطقة مليئة بالمخاطر وإسرائيل في وسط ذلك الخطر. يجب أخذ الحيطة والحذر – وعلى اليهودي أساسًا أن يفكر مرتين قبل أن يخرج من بيته.
في العالم، وفقًا لكلام بنيامين نتنياهو، الإسلام موجود في كل مكان والأكثرية منهم متطرفين وتواقين للانقضاض على فريسة. إيران هي الدولة الإسلامية، أي داعش، أي حماس. وجميعها معًا أو كل واحدة على حدة مصممة على محاربة الغرب وبرأس حربتها، إسرائيل. تكمن الإمكانية الإيجابية من ناحية إسرائيل ليس في السلام الممكن مع ذاك الشخص المعروف بإنكاره للهولوكوست، أبي مازن، بل بوعد غير واضح تمامًا فيه التقاء مصالح مع دول سنية معتدلة مثل الأردن ومصر.
https://www.youtube.com/watch?v=WEW7-kCb8Ro
الخمسين تدرجًا للون الأسود في المنطقة التي تحدث عنها رئيس الحكومة قائمة بالفعل. وأيضًا هنالك مصداقية كبيرة في تحذيره للمجتمع الدولي ألا ينسوا تهديد النووي الإيراني، فقط بسبب التركيز الجديد الأخطر من قبل التنظيمات الجهادية السنية وعلى رأسها داعش.
إيران، بالنسبة لإسرائيل، هي عدو ذكي وإشكالي جدًا. ليس فقط بسبب النووي، بل بسبب الدعم الكبير الذي تمنحه للتنظيمات الإرهابية والحركات السرية في كل منطقة الشرق الأوسط. وأظهرت محادثة مع مسؤول أمني كبير، ساعات قبل خطاب نتنياهو، صورة مختلفة بعض الشيء عن الواقع الاستراتيجي في المنطقة. ربما أقل تماسكًا وأقل إقناعًا من الناحية التفسيرية، ولكنها أكثر تعقيدًا.
إسرائيل، وفقًا لهذه الصورة، ليست في مركز القصة الإقليمية: ليس فقط لأن حل الصراع الفلسطيني لم يعد يُعتبر مفتاحًا لحل كل المشاكل في الشرق الأوسط، إلا أنه بسبب ما يحدث خارج حدودها في العام – عامين الأخيرين (كنتيجة لاحقة لاندلاع ثورات الربيع العربي) وهو أمر كبير إلى أبعد حد منذ زمن وحضور إسرائيل فيه هو هامشي جدًا. يلقي صراع البقاء بين الشيعة والسنة المتطرفين بظلاله ليس فقط داخل الحدود التي حددتها “اتفاقية سايكس بيكو” فقط بل يغيّر بشكل كبير حياة عشرات ملايين الأشخاص الذين يسكنون في المنطقة الواقعة بين لبنان وحدود العراق مع إيران.
الدبلوماسيون الكبار من الدول الست الكبرى خلال لقائهم الأخير مع وزير الخارجية الايراني ظريف في فِييَنَّا (DIETER NAGL / AFP)
هذا صراع تاريخي، واسع، لا تظهر بوادر نهايته في الأفق. أصبح ذلك أكثر حدة مع الظهور الفجائي لتنظيم داعش، الذي دخل الفراغ الذي خلفه ضعف نظامي الحكم في سوريا والعراق. لولا اندفاع التنظيم بغوغائيته وبحربه الإعلامية الطائشة، وقراره إعدام ثلاثة صحفيين وناشطين غربيين في طواقم الإغاثة بين نهاية آب ومنتصف أيلول لكان من الممكن أن يستمر ويقتل آلاف الشيعة، العلويين واليزيديين.
ولكن، نجاح داعش كان مدمرًا. هز نَشْر الفيديوهات المروعة، التي تظهر فيها عملية قطع الرؤوس، الغرب وأيقظه من غفوته ليتم تشكيل التحالف العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة. هكذا جاء في القرار، قيام الغرب بشن غارات جوية داخل الحدود السورية والعراق. الأمر الذي لم تفعله ثلاث سنوات من المجازر المروعة التي ارتكبها نظام الأسد ضد المواطنين المصطفين في المعسكر المعادي للنظام في سوريا، ولا ذلك الهجوم بالأسلحة الكيميائية في شهر آب المنصرم، ولكن قد فعلت ذلك ثلاثة فيديوهات قتل كانت الضحايا فيها من الأمريكيين والبريطانيين. بالنظر إلى إسرائيل، الغارات الجوية ضد تنظيم داعش تعطي نتائجها الأولية وتنطوي أيضًا على نتائج أفضل بكثير.
تراجعت قوات التنظيم تحت الضغط الذي يمارس عليها في عدة مناطق في سوريا، بما في ذلك المنطقة الكردية التي تحرك فيها التحالف متأخرًا. يلائم تنظيم داعش أيضًا نفسه تدريجيًا للواقع الجديد ويعمل على تقليص الظهور العسكري له بغرض التخفيف من حجم التعرض للغارات الجوية. لن تكون، على أي حال، الغارات الجوية كافية للقضاء على داعش أو دعم جهات المعارضة السورية الأكثر اعتدالاً في حربها ضد بشار الأسد. يتمنون في إسرائيل أن تكون هذه الغارات الجوية بُشرى جيدة تُشير إلى تغيير النهج الأمريكي، والذي سينتج عنه، وإن كان ذلك متأخرًا جدًا، دعم كبير بالمال والسلاح لتنظيمات مثل الجيش الحر.
طائرة تورنادو بريطانية تحط في قاعدة اكروتيري في قبرص بعد المشاركة في الغارات (AFP)
في هذه الأثناء، تمكنت جماعات المتمردين من السيطرة على 90% من الحدود مع إسرائيل، ما عدا “جبل الشيخ” وقرية حضر الدرزية المجاورة. بقيت الميليشيات المعتدلة ملتزمة بما يمكن تسميته التزامًا تجاه إسرائيل ومنعت في غالبية المناطق من تواجد التنظيم الأكثر تطرفًا، جبهة النصرة، من الاقتراب من الحدود ذاتها. هذا وضع حساس ولكن أجهزة الأمن لا تجد في ذلك الأمر خطرًا محدقًا حاليًا.
ما هي مكانة إسرائيل في كل هذه الصراعات؟ أجهزة الأمن المختلفة تُبدي إجماعًا. على إسرائيل أن تنتبه من الانجرار إلى وسط صراعات لا تعنيها. عليها أن تستمر بالتصرف بمسؤولية، أن تُظهر صرامة بمسألة أي محاولة للمس بأراضيها، ولكن عليها أن تفهم أنها ليست هي التي تحدد الحيثيات الإقليمية. تعني الإدارة الذكية خلق تحالف، راسخ وأحيانًا مؤقت، مع دول وحتى مع تنظيمات محلية. كل ذلك يجب أن يتم من خلال فهم بأن كل الأحداث التي تقع حاليًا ستهز المنطقة لفترة طويلة.
الشهاب الجديد في سماء الإرهاب العالمي يتسابق عاصفًا نحو بغداد، والعالم يشعر بالحرج. فتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" يترك وراءه ذيلا من الجثث والأشلاء في جميع أنحاء العراق وسوريا في طريقه ليصبح كيانًا سياسيًّا حقيقيّا
الآن أصبحت هذه حقيقة معروفة: في كلّ مرّة يقوم فيها عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) باحتلال منطقة جديدة يمكننا أن نتوقّع الأسوأ. أصبحت الشهادات على المجازر والتطهير العرقي مسألة شائعة، فمن كل جهة تصل تقارير عن قطع رؤوس علني، جلد وإعدام، بغضّ النظر عن جنس أو عمر الضحية. فعلى سبيل المثال، في حادثة مروّعة حدثت في بداية العام، أطلق عناصر داعش النار حتى الموت على شاب عمره 14 عامًا بعد أن قام بسبّ اسم محمد، وكلّ ذلك أمام عيون والديه.
يقف عناصر التنظيم وراء عمليات صلب الأشخاص المتّهمين بـ “الكفر” والمسيحيين، وأيضًا بتر الأطراف بسبب السرقة وقتل المدنيين والأسرى. مؤخرًا، لم يستطع البابا فرنسيس أيضًا تجاهل الأخبار عن صلب النصارى واستنكر أفعالهم. فهناك نموذج آخر لمستوى الوحشية الذي وصل إلينا في حزيران هذا العام، وفقًا لمنظمة حقوق الإنسان “منظمة العفو” حين قام عناصر التنظيم باحتلال بلدة كردية في منطقة الحسكة شمال سوريا. ولأنّه تم الاشتباه بسكّانها بمساعدة الانفصاليين الأكراد، قام عناصر التنظيم بقتل الكثير من المدنيين، من بينهم أطفال، نساء ورجال. وتم طرد الكثير غيرهم.
لا يمكن الفصل بين العراق والحرب الأهلية في سوريا، التي تغذي داعش وتزوّد صفوفها بآلاف المقاتلين الأجانب والدم الجديد. أحد هؤلاء المقاتلين الأجانب هو مهدي نموش، وهو الإرهابي الذي نفّذ هجومًا إرهابيًّا على المتحف اليهودي في بروكسل. يعتبر نموش واحدًا فقط من بين آلاف آخرين، يأتون إلى سوريا بسهولة، يجتازون معسكرات التدريب مع سلاح ويتلقّون تثقيفًا متطرّفًا. تشرّع عقيدة داعش القتل العشوائي لـ “الكافر”، الذي يهدّد الأمة الإسلامية، ويسعى – كما يُفترض – إلى إذلالها، التضييق عليها، احتلال أراضيها واستعباد مواردها. ولذلك، فإنّ كلّ إضرار بهؤلاء الكفار المتآمرين هو وصية والتزام مفروض على المسلمين الأصوليّين الذين ينتمون إلى داعش ونظرية الجهاد العالمي.
في الأيام الأخيرة، أنهى تنظيم داعش سيطرته على مدينة الموصل في شمال العراق، وهي إحدى مراكز النفط المهمّة في البلاد المقسّمة والنازفة. بالإضافة إلى ذلك، فقد نجح مقاتلو داعش من احتلال الحدود السورية العراقية وتعزيز قبضتهم على المكان، إلى جانب النجاحات السابقة في جبهات الأنبار، نينوى وصلاح الدين. وحتى الآن فيبدو أنّ الهدف التالي هو العاصمة بغداد. وكما يقول الجهاديون أنفسهم فهو لا ينوون أخذ أسرى.
جيش الدولة الإسلامية في العراق والشام (AFP)
الأسود يعلو
ما هو هدف داعش النهائي؟ الرأي السائد هو أنّ داعش تسعى إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية، إذ تستطيع من خلالها أن تستأنف حربًا عالمية مقدّسة (الجهاد). وكما يبدو، فإنّ الطريق إلى الخلافة الإسلامية الجديدة يمرّ، وسيمرّ، ببرك من الدماء. تشكل سوريا العراق وبلجيكا البداية فقط، ومن المرجح أن نرى “ارتدادات” الحرب في سوريا تنفجر في جميع أنحاء الشرق الأوسط، في أوروبا وربما أيضًا في دولة إسرائيل.
تقول التقارير المختلفة إنّ موجة الاحتلالات قدّ أدّت إلى هروب جماعي للمسيحيين. ونقل أحد مواقع الأخبار الإيرانية عن مقتدى الصدر، وهو أحد الزعماء الشيعة الكبار في العراق، ويدعو المسيحيين والشيعة للاتحاد وإقامة قوات حماية تواجه داعش وتحمي الأماكن المقدسة للمسيحيين والشيعة. كما ونشر الصدر رسالة كتب فيها أنّه مستعد “لتأسيس وحدات سلام (بهدف) حماية الأماكن المقدّسة” والعمل بالتعاون مع الحكومة العراقية برئاسة المالكي.
من المهم أن نفهم بأنّ ذلك ليس حادثًا محلّيًا ينحصر في حدود العراق. إنّ سلسلة الأحداث تهزّ كلّ توازن القوى الإقليمي وأكثر من ذلك. وتؤثّر الآثار الثقيلة حاليًّا وستؤثّر مستقبلا على جميع دول الجوار، بما في ذلك الأردن، سوريا، دولة إسرائيل، إيران، الخليج العربي، وبطبيعة الحال الولايات المتحدة وأوروبا.
ولا تريد أيّ من تلك الجهات التي ذكرناها السماح للجهاديين بأن ينموا. فهناك تقديرات مزعجة بأنّ هذه الأوضاع ستقرّب تحديدًا بين الولايات المتحدة وإيران، ومن المفترض أن يتم ذلك التقارب تحت شعار مكافحة العدو السلفي الجهادي المشترك: ستسمح الولايات المتحدة، التي لا ترغب بإرسال قوات لاحتلال العراق من جديد بالتدخّل العسكري الإيراني، وبالمقابل تذيب الجليد أكثر في علاقتها معها. ومن ناحية التهديد الواقع على الأردن، فهناك خطر بأن يحاول مقاتلو عناصر الإرهاب بالتسلل إلى المملكة وتنفيذ عمليات إرهابية ضدّ أهداف مختلفة داخلها، أو بدلا من ذلك، أن يشجّعوا ويحفّزوا العناصر المتطرّفة في الأردن لمواجهة النظام والقوى الأمنية.
بالنسبة لإيران، فالوضع واضح تمامًا: لا يجوز السماح لداعش والسُنة بالسيّطرة على مناطق استراتيجية في العراق. وقد تمّ التعبير عن هذه الرؤية في كلام الرئيس الإيراني، حسن روحاني، الذي قال إنّ بلاده مستعدّة لدعم جهود الحكومة العراقية لقتال داعش والقبائل السنّية في البلاد والتي تعارض الحكومة. ووفقًا لتقرير مجلة “الغارديان”، فقد أرسل النظام في طهران نحو 2,000 مقاتل إلى العراق في الأيام الأخيرة، من أجل قتال الجهاديين، وهي خطوة لم تصاحبها أيّ معارضة أمريكية، ممّا يجدر ذكره.
شرق أوسط جديد. مرّة أخرى
إنّ السيّطرة العسكرية – المدنية لداعش على مناطق مختلفة في أنحاء العراق، جنبًا إلى جنب مع ترسّخه في سوريا خلال العامين الماضيين؛ تُكمّل في الواقع تجاوزًا إقليميّا يُلغي الحدود القديمة، والتي فُرضت على سكّان الشرق الأوسط من قبل القوى العظمى الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى. وفقًا لنشرة التنظيم نفسه، فإنّ النجاحات الأخيرة في ساحة المعركة تبشّر بإلغاء اتفاقية “سايكس-بيكو”، والتي تمّ توقيعها بين بريطانيا وفرنسا خلال الحرب العالمية الأولى.
جيش الدولة الإسلامية في العراق والشام يبشّر بإلغاء اتفاقية “سايكس-بيكو”(Twitter)
وفي الخريطة التي تمّ إعدادها من قبل Long War Journal، وهو مشروع تابع لـ “صندوق حماية الديمقراطية”، تظهر داعش وهي تسيّطر حتى الآن على 22 بلدة ومدينة في أنحاء العراق، بالإضافة إلى سبع بلدات ومدن في سوريا. جاء في أحد التقارير أنّ “تقدّم داعش الأخير في شمال ووسط العراق يجعل المجموعة الإرهابية (داعش) تسيّطر على ما يقارب ثلث البلاد”. ويتمّ الاحتلال بينما ينهار الجيش العراقي، المموّل والمدرّب من قبل الأمريكيين، تمامًا. انسحبت وحدات كاملة من الجيش العراقي من أمام قوى صغيرة من الجهاديين. وقد جعلت المهانة رئيس حكومة العراق، نوري المالكي، يتّهم جهات مختلفة في الجيش بـ “الخيانة” مدّعيًا أنّ المسؤولية ملقاة على عاتق القوات الأمنية في البلاد وليس عليه.
قال البروفيسور عوزي رابي، وهو خبير في الشؤون الإيرانية من جامعة تل أبيب، في مقابلة ببرنامج “لندن وكيرشنباوم” (الأربعاء، 11 حزيران) إنّه من الممكن “أن نرسم في خريطة افتراضية خطّا في الوسط فيه “شبكات” قوية لجميع الإسلاميين من حلب في سوريا حتى الموصل وربما إلى الأسفل حتى بغداد. […] المالكي الشيعي يجلس في بغداد، وبشار الأسد يجلس في دمشق، وفي المنتصف هناك نوع من الدولة الافتراضية. إن البروفيسور رابي صادق تمامًا. ومع ذلك، يمكننا أن نضيف بأنّ هذه الدولة ليست افتراضية؛ فسرعان ما تتحوّل الأراضي التي يسيّطر عليها مقاتلو التنظيم إلى معسكرات تدريب ضخمة، يعيش فيها مئات الآلاف من المواطنين. يُدعى أولئك للتجنّد في صفوف التنظيم واعتماد رؤيته الصارمة. بالمقابل، يقوم التنظيم بتوفير حاجياتهم الأساسية ويحلّ مكان السلطات الحكومية المختلفة.
ويدعم باحثون آخرون من مجال الإرهاب العالمي هذا التوجّه في مقالهم، ويدّعون أنّ داعش تحوّلت إلى كيان ماديّ ملموس يسيّطر على المنطقة الإقليمية الواقعة بين العراق وسوريا: “يشكّل هذا الواقع الجديد تحدّيًا يتجاوز المشكلة الشائعة في الحرب على الإرهاب. ولم تعد داعش الآن قائمة باعتبارها خلايا صغيرة يمكن تحييدها بـ (مساعدة) إطلاق صواريخ وفرق كوماندوس صغيرة”، هكذا كتبوا. فلقد أصبحت داعش كيانًا سياسيًّا حقيقيًا، حتى لو لم يكن معترفًا بها من قبل المجتمع الدولي. في الواقع، تُذكّر داعش بتجسّدها الحالي نظام طالبان في أفغانستان أكثر من تنظيم القاعدة.
إعدامات جماعية” لجنود عراقيين في تكريت
شهاب في سماء الجهاد العالمي
يدّعي الكثيرون اليوم أنّ داعش قد “تجاوزت” قاعدة الظواهري، وتحوّلت إلى أكثر أهمية وتأثيرًا بالنسبة للإسلاميين في أنحاء العالم. يعود أحد أسباب ذلك إلى القائد الاستثنائي للتنظيم: أبو بكر البغدادي.
بعد غزو الولايات المتحدة لأفغانستان (تشرين الأول 2001) انقسمت حركة الجهاد العالمي، عندما هربت القيادة (بزعامة بن لادن، نائبه الظواهري وآخرين) إلى الحدود الباكستانية – الأفغانية. كما وانتقل آخرون إلى إيران ومن هناك في نهاية المطاف إلى العراق. من بين هؤلاء، كان الأردني أبو مصعب الزرقاوي، الذي بدأ يعمل في البلاد بعد الغزو الأمريكي للعراق عام (2003) على رأس تنظيم “التوحيد والجهاد”. كان هذا التنظيم وراء المئات، إنْ لم يكن الآلاف، من العمليات الإرهابية القاتلة ضدّ السكان الشيعة في العراق، والقوات الحكومية وقوات حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة. يعتبر الزرقاوي نفسه مسؤولا عن عدد كبير من عمليات الإعدام للمخطوفين والرهائن الذين تمّ توثيق عمليات قتلهم ونُشرت في الإنترنت. وقد بلغ تعداد أفراد التنظيم، وفقًا للتقديرات، المئات من العناصر، ولكن رغم أنّه لم يكن كبيرًا من الناحية الكمّية، فكان لا يزال يعتبر إحدى الجهات الأكثر خطورة في العراق.
في عام 2004، أقسم الزرقاوي الولاء لزعيم القاعدة حينذاك أسامة بن لادن، واعتمد اسم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”. بعد عامين من ذلك، في حزيران 2006، تم اغتياله من قبل الأمريكيين، وانقسم تنظيمه إلى قسمين: قسم استمرّ تحت الاسم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” وقسم آخر تحت اسم “مجلس شورى المجاهدين”. في النهاية، نشأ من التنظيم الثاني تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، والذي اعتمد – بعد دخوله إلى الحرب في سوريا – اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. وتضمّ داعش في تجسّدها الحالي جيشًا من آلاف المقاتلين (تشير التقديرات إلى أنّ عدد عناصر التنظيم هو 7,000 مقاتل) وعدد كبير من المؤيّدين، الداعمين والمساندين في جميع أنحاء العالم.
“هذا هو الوقت لنسيان الظواهري”، هكذا كتب البروفيسور جان بيير فيليو، المؤرخ والخبير في دراسات الشرق الأوسط: “من اليوم فصاعدًا فإنّ زعيم داعش، أبو بكر البغدادي، هو الذي يمثّل أكبر مصدر إلهام بالنسبة للجهاد العالمي”. وتدعم مجلة “تايم” المرموقة ادّعاء البروفيسور فيليو، والتي اختارت البغدادي ليتألّق في قائمة أكثر 100 شخصية مؤثّرة في العالم للعام 2013. وقد عرّفت صحيفة “واشنطن بوست” زعيم داعش باعتباره “الزعيم الجهادي الأقوى”، ويصفه آخرون بأنّه “أسامة بن لادن الجديد”، على ضوء حجم التأييد والشعبية التي يحظى بها لدى الجهاديين في جميع أنحاء العالم.
جيش الدولة الإسلامية في العراق والشام (AFP)
ستخبرنا الأيام إذا كان النجم الصاعد في سماء الإرهاب العالمي سيسقط بنفس السرعة التي صعد بها، أم سينجح البغدادي في إقامة خلافة إسلامية جديدة، والتي من شأنها أن تغيّر وجه الشرق الأوسط على المدى البعيد.