إيلي يتسفان

منظر لآثار مدينة بابل التاريخية (AFP)
منظر لآثار مدينة بابل التاريخية (AFP)

على أنهار بابل.. قصّة يهود العراق

يعيش اليوم في بغداد 8 يهود فقط، بقية لجالية عريقة تعود جذورها إلى أكثر من 2500 عام. اقرأوا قصة هذه الجالية وتعرفوا إلى 5 إسرائيليين معروفين انحدروا منها

01 يونيو 2017 | 11:16

“يهود بابل” – هذا هو اللقب الذي يستخدمه حتّى اليوم كثير من اليهود ذوي الأصل العراقيّ الذين يقطنون في إسرائيل للإشارة إلى أنفسهم. يهود بابل، لا يهود العراق. ليس بلا سبب تفضيلُ عديدين اللقب القديم على اسم الدولة العصرية التي أتَوا منها – فالجالية اليهودية في العراق ذات جذور تاريخية ضاربة في العمق، تصل إلى دمار الهيكل الأول في أورشليم عام 607 قبل الميلاد.

فقد سبا ملك الإمبراطورية البابلية، نبوخذنصر الثاني، اليهود من موطنهم التاريخي إلى بابل البعيدة، حيث نشأت جالية يهودية جديدة ومزدهرة. لم يتوقف يومًا الحنين إلى الموطن، ويتجلى ذلك في المزمور 137، العدد 1: “عَلَى أَنْهَ‍ارِ بَ‍ابِ‍لَ،‏ هُنَ‍اكَ جَلَسْنَ‍ا.‏  بَ‍كَيْنَ‍ا أَيْضً‍ا عِنْ‍دَمَ‍ا تَ‍ذَكَّرْنَ‍ا صِهْيَ‍وْنَ”. لكن في فترةٍ متأخرة أكثر تاريخيًّا، مثل فترة كورش، التي أُجيز فيها لليهود بأن يعودوا إلى أورشليم، بقيت جالية يهود بابل قائمة وكبيرة.

النموّ والازدهار

كانت جالية يهود بابل الأكبر والأكثر ازدهارًا بين الجاليات اليهودية، حتّى حين تشتّت اليهود في كلّ أرجاء المعمورة. فقد كانت الجالية مركزًا تجاريًّا وحضاريًّا مزدهرًا، فضلًا عن كونها مركزًا روحيًّا ودينيَّا ذا أهمية كبرى. تجمّع جميع حكماء الديانة اليهودية بين نهرَي دجلة والفرات، وأقاموا هناك قرونًا. تعاملت الإمبراطورية البارثية التي سيطرت على المنطقة جيّدًا مع اليهود، ومنحتهم حقوقًا بإدارة مستقلّة وحريّة ثقافيّة. في هذه الفترة، بلغ الفِكر اليهودي إحدى ذُراه، في تأليف “التلمود البابلي”. كذلك في السنوات اللاحقة، تحت حُكم الساسانيّين، كان اليهود محميّين من أيّ أذى.

قبر حزقيال (ذو الكفل) في مدينة الكفل العراقيه (AFP)
قبر حزقيال (ذو الكفل) في مدينة الكفل العراقيه (AFP)

مع انتشار الإسلام وسيطرة الخلفاء، بدءًا من القرن السابع الميلادي، تحسّن كثيرًا وضع يهود بابل، إذ أصبح للمرة الأولى معظم يهود العالم تحت السيادة نفسها – سيادة الإسلام. لكنّ هذا التعامُل لم يكُن ثابتًا، إذ كان وضع اليهود يعتمد على نظرة الحاكم. ورغم أنّهم نعموا غالبًا بالأمان، لكنهم كانوا تحت تهديد أحكامٍ – مثل حظر الخليفة عُمر بن عبد العزيز في مطلع القرن الثامن أن يلبسوا كالعرب أو أن يعيشوا حياة رفاهية، أو حُكم الخليفة المتوكّل في القرن التاسع، الذي ألزمهم بلبس ثياب خاصّة تكون علامة عار. في فترة الخليفة المأمون، دُعي اليهود “أخبث الأمم”، ودُمّرت مجامع يهودية كثيرة في عهده. في القرون الوسطى، هجر يهود كثيرون بغداد ومحيطها للسكن في الأندلُس، التي أصبحت مركزًا إسلاميًّا مزدهرًا في العالم.

كانت الفترة العثمانية أيضًا فترةً مفعمة بالتقلّبات بالنسبة للجالية في العراق. لكن كلّما ازدادت موجات الدمقرطة، تحسّن وضع اليهود، الذين شكّلوا جزءًا هامًّا من الحياة العامّة والتجاريّة في العراق. عام 1908، حصل جميع يهود العراق على مساواة في الحقوق وحرية دينية كفلها القانون، حتّى إنّ بعضهم أُرسل لتمثيل العراق في البرلمان العُثمانيّ.

كنيس مهجور في مدينة الفلوجة (ِAFP)
كنيس مهجور في مدينة الفلوجة (ِAFP)

بعد الحرب العالمية الأولى وتتويج فيصل ملكًا على البلاد، تحسّن وضع اليهود أكثر فأكثر. كان وزير المالية الأول للعراق في العصر الحديث يهوديًّا، اسمه حسقيل ساسون‎ ‎‏. اتّخذ ساسون عددًا من القرارات التي أسهمت في استقرار الاقتصاد العراقي في القرن العشرين، بما فيها تنظيم تصدير النفط إلى بريطانيا. وبشكل عامّ، أضحت أسرة ساسون البغداديّة إمبراطوريّة اقتصاديّة امتدّت من الهند شرقًا حتّى أوروبا غربًا.

أمّا ما زاد شهرة يهود العراق أكثر من أيّ شيء آخر في العصر الحديث فهو موسيقاهم. ‏‎ ‎فقد اشتُهر الكثير من اليهود بفضل مواهبهم الموسيقيّة، وفي مسابقة الموسيقى في العالم العربي التي أُقيمت في القاهرة في الأربعينات، فاز الوفد العراقي، الذي تألّف من موسيقيين يهود ومُطرب مسلم واحد. ويُذكَر بشكل خاصّ صالح وداود الكويتي، اللذان أنشآ فرقة الإذاعة الموسيقية الوطنية في العراق، حتّى إنهما غنّيا في حفل تنصيب الملك فيصل الثاني.

التدهوُر والمغادَرة

حدث التدهوُر الأكبر في وضع يهود العراق مع صعود النازيين في ألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين. فقد عملت السفارة الألمانية في بغداد بوقًا لرسائل لاساميّة أدّت تدريجًا إلى تغيّر نظرة العراقيين المسلمين إلى إخوتهم اليهود. فعام 1934، فُصل عشرات الموظَّفين اليهود من وزارة الاقتصاد، عام 1935 فُرضت قيود على عدد اليهود في المدارس، وعام 1938 أُقفلت صحيفة “الحصاد”، لسان حال يهود العراق.

مجموعة حاخامات يهود في بغداد عام 1910 (Wikipedia)
مجموعة حاخامات يهود في بغداد عام 1910 (Wikipedia)

وكانت الذروة عام 1941، بعد فشل الانقلاب الذي قاده رشيد عالي الكيلاني، الذي سعى إلى طرد البريطانيّين وإنشاء سُلطة ذات رعاية ألمانية – نازيّة. في تلك السنة، حدث ما يُعرف بالفرهود – المجزرة الأكبر بحقّ يهود العراق. في إطار الاضطرابات، قُتل 179 يهوديًّا، أصيب 2118، تيتّم 242 طفلًا، وسُلب الكثير من الممتلكات. وصل عدد الأشخاص الذين نُهبت ممتلكاتُهم إلى 50 ألفًا، ودُفن الضحايا في مقبرة جماعيّة في بغداد.

كانت النتيجة المباشرة للمجزرة تعزيز قوة الصهيونية، والإدراك أنّ فلسطين (أرض إسرائيل) وحدها تشكّل ملاذًا آمنًا ليهود العراق. فاقم إنشاء دولة إسرائيل ونتائج حرب العام 1948 أكثر وأكثر التوتر بين اليهود والمسلمين في العراق. فاليهود الذين اشتُبه في ممارستهم نشاطاتٍ صهيونية قُبض عليهم، احتُجزوا، وعُذِّبوا.

عام 1950، سنّت الحكومة العراقية قانونًا يسري مفعوله لعامٍ واحد، أتاح لليهود الخروج من البلاد شرطَ تنازُلهم عن جنسيّتهم العراقية. أُتيح لكلّ يهودي يبلغ عشر سنوات وما فوق أن يأخذ معه مبلغًا محدَّدًا من المال وبضعة أغراض. أمّا الممتلكات التي خلّفوها وراءهم فكان يمكنهم بيعها بمبالغ ضئيلة.

نتيجة ذلك، أطلقت دولة إسرائيل عملية باسم “عزرا ونحميا” تهدف إلى إحضار أكبر عددٍ ممكن من يهود العراق إلى البلاد. وكلّما زاد تدفّق اليهود الذين غادروا العراق، ازدادت مضايقات اليهود، حتّى إنّ البعض منهم فقد حياته.

عائلة يهودية عراقية
عائلة يهودية عراقية

منذ 1949 حتّى 1951، فرّ 104 آلاف يهودي من العراق ضمن عمليات “عزرا ونحميا”، و20 ألفًا آخرون هُرِّبوا عبر إيران. وهكذا، تقلّصت الجالية التي بلغت ذروة من 150 ألف شخص عام 1947، إلى مجرّد 6 آلاف بعد عام 1951. أمّا الموجة الثانية من الهجرة فحدثت إثر ارتقاء حزب البعث السلطة عام 1968، إذ هاجر نحو ألف يهودي آخرين إلى إسرائيل. اليوم، يعيش في بغداد عددٌ ضئيل من اليهود، كما يبدو مجرّد ثمانية.

جمّدت السلطات العراقية الممتلكات الكثيرة لليهود الذين هجروا البلاد. ويُقدَّر أنّ قيمة الممتلكات كانت تبلغ نحو 30 مليون دولار في الخمسينات. أمّا بقيمة اليوم، فيمكن القول إنّ يهود العراق تركوا وراءهم ممتلكاتٍ تُقدَّر قيمتها بـ 290 مليون دولار.

خمسة إسرائيليّين – عراقيين عليكم أن تتعرفوا إليهم

عائلة يهودية عراقية تصل الى مطار اللد عام 1950 (WIKIPEDIA)
عائلة يهودية عراقية تصل الى مطار اللد عام 1950 (WIKIPEDIA)

بدءًا من الخمسينات، ازدهرت جماعة يهود بابل في دولة إسرائيل. لم تكُن صعوبات الاستيعاب في الدولة الفتيّة بسيطة، وكان عليهم أن يناضلوا للحفاظ على هويّتهم الفريدة مقابل يهود أوروبا الشرقية، الذين رأوا فيهم ممثّلين أقل قيمة للحضارة العربية. لم تقدِّر السلطات الإسرائيلية الممتلكات الكثيرة والغنى الحضاري الذي تركوه وراءهم في بغداد والبصرة، ولم يتمكّن يهود العراق من إيجاد مكانة لهم بين سائر المهاجرين: المهاجرين من أوروبا الشرقية من جهة، والمهاجرين من شمال إفريقية من جهة أُخرى.

لكن كلّما مّرت السنون، تعرّف الشعب الإسرائيلي إلى أهمية وإسهامات المهاجرين من العراق، ووصل بعضٌ منهم إلى مواقع مركزيّة في السياسة، الثقافة، والمجال المهنيّ في إسرائيل. إليكم خمسة عراقيين يهود إسرائيليين، عليكم أن تتعرّفوا إليهم:

  • الحاخام عوفاديا يوسف – وُلد عام 1920 في بغداد باسم “عوفاديا عوفاديا”، وأصبح مع الوقت الزعيم الديني دون منازع لجميع يهود الشرق في إسرائيل. وضع الحاخام، الذي اعتُبر معجزة دينيّة منذ طفولته، أولى مؤلفاته الدينية في التاسعة من عُمره. يتذكّره كثيرون في إسرائيل بسبب إجازته الفقهيّة لعمليّة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكن أيضًا بسبب زلّات لسانه العديدة. فقد قال مثلًا عن أريئيل شارون: “ليُنزل عليه الله – تبارك وتعالى – ضربةً لا يقومُ منها”، ووصف رئيس الحكومة نتنياهو بأنه “عنزة عمياء”.
  • بنيامين “فؤاد” بن إليعيزر – الطفل الصغير من البَصرة الذي أمسى قائدًا عسكريًّا بارزًا في إسرائيل، وبعد ذلك سياسيًّا شغل عددًا كبيرًا من المناصب الوزارية، وكان صديقًا مقرَّبًا من الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك. فبعد أن كان وزير الإسكان في حكومة رابين، وزير الدفاع في حكومة شارون، ووزير الصناعة في حكومتَي أولمرت ونتنياهو، تتجه أنظار “فؤاد” الآن إلى المقام الأرفع، إذ يسعى إلى أن يكون أوّل رئيس عراقي لدولة إسرائيل.
  • دودو طاسا – حفيد داود الكويتي الذي أضحى هو نفسه موسيقيًّا كبيرا ورياديًّا في إسرائيل. يدمج تاسا بين الأسلوب الغربي وبين الموسيقى العراقية التقليدية، ويُذكَر بشكل خاصّ أداؤه لأغنية فوق النخل‏‎ ‎‏، التي اشتُهرت بأداء جدّه.‎ قادت الأغنية إلى ألبوم يعزف فيه تاسا أغاني الكويتيَّين (داود وصالح).
  • إيلي عمير الأديب الذي جسّد أفضل من أيّ شخص آخر مشاعر القادِمين من العراق. عبّر كتابه “ديك الفِداء”، الذي كتبه على مدى 13 عامًا، بشكل دقيقٍ عن مصاعب شابّ ذي أصل عراقي يستصعب الوصل بين عالم والدَيه الماضي وبين عالَم رجال الكيبوتز ذوي الأصول الأوروبية، الذي أراد الاندماج فيه. بقيت لغته الأم عربية، وهو حزين للإكراه الثقافي الإسرائيلي، الذي ألزمه بمحو ماضيه. مع السنوات، أضحى عمير ناشطًا في حزب العمل الإسرائيلي.
  • إيلي يتسفان – كبير الكوميديين الإسرائيليين هو في الواقع من أصل عراقيّ. فرغم أنه وُلد في إسرائيل، والداه كلاهما عراقيّان. سمع يتسفان، أصغر خمسة أبناء، العربية العراقية تصدح في بيته، وأصبح مقلّدًا موهوبًا قادرًا على تمثيل شخصية أيّ إنسان، ولا سيّما شخصيات من العالم العربي. كاد تقليده للرئيس المصري محمد حسني مبارك (الذي أعطى مبارك لهجة مختلطة – مصريّة وعراقيّة) يقود إلى أزمة في العلاقات الإسرائيلية – المصريّة.

شاهدوا إيلي يتسفان العراقي يقلّد حسني مبارك:

اقرأوا المزيد: 1338 كلمة
عرض أقل
معبر الحدود بين مصر ولإسرائيل في سيناء (AFP)
معبر الحدود بين مصر ولإسرائيل في سيناء (AFP)

خمس لحظات امتحان حاسمة في تاريخ معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر

عرفت السنوات الست والثلاثون التّي مرت منذ توقيع المعاهدة في حديقة البيت الأبيض مدًّا وجزرًا، انتفاضتَين، وثورات. واجهت المعاهدة خمسة مفترقات طرق حاسمة شكّلت محكًّا هدّد مُستقبلها، لكنها بقيت صامدة رغم كلّ شيء

سريعًا جدًّا، مرّت لحظات الغبطة التي رافقت توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 26 آذار 1979. حلّ الارتياب محلّ آمال تطبيع العلاقات بين الشعبَين، وأضحى التفاؤل خوفًا.

علَّمَنا التاريخ الإقليميّ أنّ الشرق الأوسط مكان غير متوقَّع وغير مستقرّ. داخل كلّ فوضى الثّورات، الحروب، سفك الدماء، والتظاهرات الكبرى، لم تتخذ الدعوات المتكررة إلى إلغاء أو على الأقل “إعادة دراسة” الاتّفاقات أيّ طابع رسميّ أبدًا. حتّى كتابة هذه السطور، بدت معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر إحدى آخر الصخور الثابتة المتبقّية في الشرق الأوسط.

1981 – اغتيال السادات

أتى المحكّ الأول لاتّفاق السلام في 6 تشرين الأول 1981، بعد عامٍ ونصف من دخول الاتّفاق حيّز التنفيذ. خشيت إسرائيل من أنّ منفّذي عملية الاغتيال الذين نزلوا من الآلية العسكرية خلال مسيرة إحياء الانتصار في حرب تشرين 1973، لم يقتُلوا الرئيس فقط، بل كلّ موروثه أيضًا.

اغتيال السادات (MAKARAM GAD ALKAREEM / AFP)
اغتيال السادات (MAKARAM GAD ALKAREEM / AFP)

“السؤال المركزي المطروح الآن مع اغتيال الرئيس السادات هو إلى أيّ حدّ ستستمرّ السياسة التي وضع أسُسها بعد وفاته”، كُتب في اليوم التالي للاغتيال في صحيفة “دافار” الإسرائيلية، التي حذّرت من أنّ “تجربة الماضي غير البعيد تُثبت أن تبادُل السلطة في مصر أدّى إلى تغيير جوهريّ في الخطّ السياسيّ”. مع ذلك، ساد التقدير أنّ وريث السادات، محمد حسني مبارك، معنيّ بالحفاظ على الاتّفاق، وهو ما حدث فِعلًا.

اهتمّ مبارك طوال السنين بالحفاظ على معاهدة السلام، لكنّه لم يتحمّس يومًا للتقريب بين الشعبّين حقًّا. فخلافًا لسلَفه، تجنّب مبارك زيارة إسرائيل، باستثناء زيارته اليتيمة عام 1995، للمشاركة في تشييع إسحاق رابين.

1982 – حرب لبنان

صيفَ العام 1982، اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان بهدف التخلُّص من خطر الصواريخ على حُدودها الشماليّة، وطرد منظمة التحرير الفلسطينية المتحصّنة في بيروت، فواجهت معاهدة السلام وضعًا إشكاليًّا. كلّما تقدّمت القوّات الإسرائيليّة في عُمق لبنان، كانت صورة إسرائيل تصبح أكثر اسودادًا لدى الشعب المصري. أمّا القشة التي قصمت ظهر البعير فكانت المجزرة التي نُفّذت في مُخيَّمَي اللاجئين الفلسطينيين صبرا وشاتيلا، التي أدّت بالحكومة المصرية إلى سحب سفيرها في إسرائيل وإعادته إلى القاهرة، بهدف التشاوُر.

جنود اسرائيليون في بيروت خلال حرب 1982 (Wikipedia)
جنود اسرائيليون في بيروت خلال حرب 1982 (Wikipedia)

“لن تُستأنَف العلاقات مع إسرائيل ما دام لبنان مُحتلًّا”، قال مبارك للصحفيين الإسرائيليين، ملمحًا إلى أنه سيدعو ياسر عرفات، عدوّ إسرائيل الذي كان قد طُرد من لبنان، للاجتماع به في القاهرة. وصرَّح الرئيس المصري أنه رغم اتّفاقات السلام، فإنّ الإسرائيليين لا يزالون “أسرى الحرب والعداء”. كان الجوّ في إسرائيل متوتّرًا، وأنبأت عناوين الصُّحف أنّ العلاقات الإسرائيلية – المصرية “عادت إلى نقطة الصفر”.

رغم ذلك، تمّ رأب الصدع بين الجانبَين، الذي نتج عن ابتداء حرب لبنان. انسحبت إسرائيل من بيروت إلى “القطاع الأمني” جنوب لبنان، وابتعدت مصر مجدّدًا عن منظمة التحرير الفلسطينية، حتّى إنها أعلنت أواخر الثمانينات عن إغلاق مكاتبها في القاهرة. في تلك الأثناء، عُيّنَ محمد بسيوني سفيرًا لمصر لدى إسرائيل، وعكف على توطيد العلاقة بين البلدَين لسنوات.

1996 – الجاسوس الزائف

حتّى الدول الصديقة تتجسّس إحداها على الأخرى، ووثائق وكالة الأمن القومي الأمريكي (NSA) خير دليل على ذلك. لكنّ حالة عزّام عزّام كانت مختلفة، وبدا أنّ الأمر كان خطأً كاد يؤدي إلى أثمان سياسية باهظة. تفجّرت الفضيحة عام 1996، بعد عقد ناجح من العلاقات بين مصر وإسرائيل، إذ تحسّنت جراء التوقيع على الاتّفاقات بين إسرائيل من جهة ومنظمة التحرير الفلسطينية والأردن من جهة أخرى.

محاكمة عزام عزام عام 1997 (MOHAMMED AL-SEHITI / FILES / AFP)
محاكمة عزام عزام عام 1997 (MOHAMMED AL-SEHITI / FILES / AFP)

اعتُقل عزّام، الذي كان يسافر بشكل متكرّر إلى مصر كممثّل لشركة النسيج الإسرائيلية التي عملت بالتعاون مع مصانع مصرية، في القاهرة في تشرين الثاني 1996. اعترَف عماد الدين إسماعيل، أحد عامِلي النسيج المصريين، الذي سافَر لدورات استكمال في إسرائيل، أنّ الموساد جنّده، وأثار شكّ السلطات بعزّام.

لأيّام، رفضت السلطات المصرية أن تعترف بأنها احتجزت عزّام. بعد أسبوعَين تطرّق الرئيس المصري، محمد حسني مبارك، إلى القضية للمرة الأولى قائلًا: “إسرائيل تنكر أنها مرتبطة به، لكنّ الجاسوس اعترفَ بكلّ شيء”.

في محاكمة عزّام عزّام، عُرضت الأدلّة “المُدينة”: قطعتان من الملابس الداخلية وأنبوبا دهان من “الحبر السري” استُخدما لنقل رسائل سرية كُتبت على الملابس الداخلية. حُكم على عزّام، الذي أنكر التهم، بـ 15 عامًا من السجن مع الأشغال الشاقّة.

نقل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو رسالة صارمة إلى الرئيس مبارك. وقد اتّخذ نتنياهو هذه الخطوة بعد الحصول على توضيحات واضحة من الاستخبارات بأنّ عزّام ليست لديه أية صلة بالموساد أو بأية هيئة استخباريّة. عبّر نتنياهو عن دهشته من الخطوة المصرية، وانتقد السلطات في مصر. أمّا مبارك فقال إنه لن يعفو عن عزّام.

في نهاية المطاف، أُطلق سراح عزّام مقابل الإفراج عن عدد من الأسرى المصريين المسجونين في إسرائيل إثر محاولتهم تنفيذ عملية إرهابية. وينفي عزّام، الذي يعيش اليوم حرًّا في إسرائيل، كونه جاسوسًا حتّى الآن.

2000‏ – انتفاضة الأقصى

أدّى صعود أريئيل شارون إلى المسجد الأقصى في أيلول 2000، والانتفاضة الدموية التي تلته، إلى التدهور الكبير التالي في علاقات البلدَين. وما صبّ المزيد من الزيت على النار كان فضيحة القتل المروِّع للطفل محمد الدرّة من قطاع غزة، أمام أعيُن الكاميرات. أوعزت مصر، التي اتّهمت إسرائيل بجريمة القتل، إلى سفيرها المخضرَم محمد بسيوني بالعودة إلى القاهرة.

تفريق مظاهرة فلسطينية في المسجد الأقصى (Flash90/Sliman Khader)
تفريق مظاهرة فلسطينية في المسجد الأقصى (Flash90/Sliman Khader)

في الفترة نفسِها، شعر الإسرائيليون بالإهانة بشكل خاصّ من الأغنية الشعبية للفنان شعبان عبد الرحيم، “أنا بكره إسرائيل”، التي مثّلت أكثر من أيّ شيء آخَر التباعُد بين الشعبَين. من جهتهم، شعر المصريون بالإهانة من تقليد الممثّل الكوميدي الإسرائيلي إيلي يتسفان الهازئ بالرئيس مبارك، والذي أظهره رجلًا غبيًّا.

في العلَن، أطلقت السلطات المصريّة تصريحات لاذعة حول مسؤولية إسرائيل عن سفك الدم. لكن وراء الكواليس، لم تتوقّف مساعي التهدئة. عام 2003، جرى التوصّل، بوساطة مصرية، إلى اتفاق الهدنة الأوّل. حتّى بعد وفاة ياسر عرفات نهاية 2004، نجحت مصر في جعل الجانبَين يتوصّلان إلى تهدئة.

لمدّة خمس سنوات تامّة، حتّى عام 2005، لم يكن لمصر سفير في تل أبيب. فرغم التعاون الأمني الوطيد بين الجيشَين، أصرّ المصريون على ألّا يبدوا متحمّسين للتطبيع. وحدها مبادرة أريئيل شارون بالانسحاب من قطاع غزة أدّت إلى تغيير التوجّه المصري، وإعادة تعيين سفير، هو محمد عاصم إبراهيم، الذي عمل بدأب على تحسين العلاقات بين الدولتَين.

2011‏ – الثورة والهزّة

نجم الخوف الأكبر على الإطلاق على الاتّفاق من الثورة المصرية في شباط 2011. فكلما ازدادت التظاهُرات المضادّة للنظام في ميدان التحرير، ازداد القلق في إسرائيل من احتراق اتفاق السلام. ورغم وعود ضبّاط الجيش المصري وراء الكواليس بأنّ الاتّفاق لن يُمسّ، خشيت إسرائيل من حدوث سيناريو تطالب فيه الجموع بإلغائه، أو الأسوأ من ذلك – ارتقاء حكومة إسلامية متطرفة السلطة والإعلان عن إلغائه.

في أيلول 2011، هاجمت الجماهير مبنى السفارة في القاهرة، ما جسّد لكثيرين في إسرائيل القلق الكبير من دفع جماهيري لإلغاء الاتّفاق. سيطر الجموع على مبنى السفارة، وسلبوا محتوى المكاتب. كان رجال الأمن الإسرائيليون في السفارة في خَطَر، وأنقذهم الجيش المصري بعد ضغوط أمريكية على النظام العسكريّ المصري. في أعقاب ذلك، أعيد إلى إسرائيل السفير، عمّال السفارة، وأفراد أُسَرهم.‏

متظاهر مصري (PEDRO UGARTE / AFP)
متظاهر مصري (PEDRO UGARTE / AFP)

ما دام المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة يمسك بزمام الأمور، كانت إسرائيل تتنفّس الصعداء، فرحةً باستمرار التعاوُن السري. لكنّ انتخابات حزيران 2012 أثارت مجدّدًا موجة من القلق. فصعود الإخوان المسلمين إلى السلطة أدّى بكثيرين في إسرائيل إلى التساؤل كيف سيتصرف محمد مرسي، الرجل الذي قال إنّ “الصهاينة يتحدّرون من القرَدة والخنازير”.

كان المحكّ الأهمّ لتلك الحقبة عملية “عمود السحاب” في قطاع غزة، مطلع عام 2013. في الغالب، حين كانت إسرائيل تهاجم التنظيمات الإرهابية في غزة، كانت تتمتّع بالدعم الكامل (في الخفاء) لمصر وجيشها. ولكن الآن، كانت تحكم مصر حركة الإخوان، راعية حماس، عدوّ إسرائيل.

في بيانٍ نشره الإخوان مع ابتداء العملية العسكرية واغتيال القائد في حركة حماس، أحمد الجعبري، قيل إنّ “على دولة الاحتلال أن تدرك أنّ التغيير الذي جرى في المنطقة العربية، ولا سيّما في مصر، لن يتيح وضع الشعب الفلسطيني تحت عبء العدوانيّة الإسرائيلية كما جرى في الماضي”. بدا أنّ أسوأ المخاوف حدث.

لقاء بين مرسي وخالد مشعل في القاهرة ( (AFP)
لقاء بين مرسي وخالد مشعل في القاهرة ( (AFP)

لكن في نهاية المطاف، حتّى مرسي أدرك أنّ موقعه رئيسًا لمصر يلزمه بالبراغماتية والتعاوُن. فاتّفاق وقف إطلاق النار الذي أُحرِز في نهاية القتال عكس أيضًا المساعي المصرية للتهدئة، لا الإشعال. حتّى وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، الذي لا يُعرَف باعتداله، قال علنًا حينذاك إنّ “الرئيس مرسي يستحقّ كلمة شكر بسبب الموقف غير السهل. آمل أن يكون ذلك دلالةً على التعاوُن في المُستقبَل”.

بعد ذلك، أُلقي مرسي في السجن، ويبدو في الوقت الراهن أنّ عبد الفتّاح السيسي سيبقى الرجل القويّ في مصر لسنواتٍ قادمة. ما زالت الجموع في مصر لا تفتح ذراعَيها لاحتضان إسرائيل، كما كان الأمل قبل 36 عامًا. لكن في محكّ الواقع، لا تزال مصر تقول “نعم” للمسار الذي بدأ حينذاك، الخطوة الأولى في العمليّة الصعبة لاندماج إسرائيل في الحيّز الشرق أوسطيّ.

اقرأوا المزيد: 1261 كلمة
عرض أقل
نهر دجلة في مدينة بغداد (AFP/Stan HONDA)
نهر دجلة في مدينة بغداد (AFP/Stan HONDA)

على أنهار بابل – قصّة يهود العراق

لا يعيش أكثر من ثمانية يهود اليوم في بغداد، لكنهم بقيّة جاليةٍ مجيدة تعود جذورها إلى أكثر من ألفَين وخمسمائة عام؛ وأيضًا: خمسة عراقيين إسرائيليين يجب أن تتعرفوا إليهم

“يهود بابل” – هذا هو اللقب الذي يستخدمه حتّى اليوم كثير من اليهود ذوي الأصل العراقيّ الذين يقطنون في إسرائيل للإشارة إلى أنفسهم. يهود بابل، لا يهود العراق. ليس بلا سبب تفضيلُ عديدين اللقب القديم على اسم الدولة العصرية التي أتَوا منها – فالجالية اليهودية في العراق ذات جذور تاريخية ضاربة في العمق، تصل إلى دمار الهيكل الأول في أورشليم عام 607 قبل الميلاد.

فقد سبا ملك الإمبراطورية البابلية، نبوخذنصر الثاني، اليهود من موطنهم التاريخي إلى بابل البعيدة، حيث نشأت جالية يهودية جديدة ومزدهرة. لم يتوقف يومًا الحنين إلى الموطن، ويتجلى ذلك في المزمور 137، العدد 1: “عَلَى أَنْهَ‍ارِ بَ‍ابِ‍لَ،‏ هُنَ‍اكَ جَلَسْنَ‍ا.‏  بَ‍كَيْنَ‍ا أَيْضً‍ا عِنْ‍دَمَ‍ا تَ‍ذَكَّرْنَ‍ا صِهْيَ‍وْنَ”. لكن في فترةٍ متأخرة أكثر تاريخيًّا، مثل فترة كورش، التي أُجيز فيها لليهود بأن يعودوا إلى أورشليم، بقيت جالية يهود بابل قائمة وكبيرة.

شاهدوا حفل زفاف عراقيًّا يهوديًّا تقليديًّا:

http://youtu.be/Uu5skKgA_PM

النموّ والازدهار

كانت جالية يهود بابل الأكبر والأكثر ازدهارًا بين الجاليات اليهودية، حتّى حين تشتّت اليهود في كلّ أرجاء المعمورة. فقد كانت الجالية مركزًا تجاريًّا وحضاريًّا مزدهرًا، فضلًا عن كونها مركزًا روحيًّا ودينيَّا ذا أهمية كبرى. تجمّع جميع حكماء الديانة اليهودية بين نهرَي دجلة والفرات، وأقاموا هناك قرونًا. تعاملت الإمبراطورية البارثية التي سيطرت على المنطقة جيّدًا مع اليهود، ومنحتهم حقوقًا بإدارة مستقلّة وحريّة ثقافيّة. في هذه الفترة، بلغ الفِكر اليهودي إحدى ذُراه، في تأليف “التلمود البابلي”. كذلك في السنوات اللاحقة، تحت حُكم الساسانيّين، كان اليهود محميّين من أيّ أذى.

قبر حزقيال (ذو الكفل) في مدينة الكفل العراقيه  (AFP)
قبر حزقيال (ذو الكفل) في مدينة الكفل العراقيه (AFP)

مع انتشار الإسلام وسيطرة الخلفاء، بدءًا من القرن السابع الميلادي، تحسّن كثيرًا وضع يهود بابل، إذ أصبح للمرة الأولى معظم يهود العالم تحت السيادة نفسها – سيادة الإسلام. لكنّ هذا التعامُل لم يكُن ثابتًا، إذ كان وضع اليهود يعتمد على نظرة الحاكم. ورغم أنّهم نعموا غالبًا بالأمان، لكنهم كانوا تحت تهديد أحكامٍ – مثل حظر الخليفة عُمر بن عبد العزيز في مطلع القرن الثامن أن يلبسوا كالعرب أو أن يعيشوا حياة رفاهية، أو حُكم الخليفة المتوكّل في القرن التاسع، الذي ألزمهم بلبس ثياب خاصّة تكون علامة عار. في فترة الخليفة المأمون، دُعي اليهود “أخبث الأمم”، ودُمّرت مجامع يهودية كثيرة في عهده. في القرون الوسطى، هجر يهود كثيرون بغداد ومحيطها للسكن في الأندلُس، التي أصبحت مركزًا إسلاميًّا مزدهرًا في العالم.

كانت الفترة العثمانية أيضًا فترةً مفعمة بالتقلّبات بالنسبة للجالية في العراق. لكن كلّما ازدادت موجات الدمقرطة، تحسّن وضع اليهود، الذين شكّلوا جزءًا هامًّا من الحياة العامّة والتجاريّة في العراق. عام 1908، حصل جميع يهود العراق على مساواة في الحقوق وحرية دينية كفلها القانون، حتّى إنّ بعضهم أُرسل لتمثيل العراق في البرلمان العُثمانيّ.

كنيس مهجور في مدينة الفلوجة (ِAFP)
كنيس مهجور في مدينة الفلوجة (ِAFP)

بعد الحرب العالمية الأولى وتتويج فيصل ملكًا على البلاد، تحسّن وضع اليهود أكثر فأكثر. كان وزير المالية الأول للعراق في العصر الحديث يهوديًّا، اسمه حسقيل ساسون‎ ‎‏. اتّخذ ساسون عددًا من القرارات التي أسهمت في استقرار الاقتصاد العراقي في القرن العشرين، بما فيها تنظيم تصدير النفط إلى بريطانيا. وبشكل عامّ، أضحت أسرة ساسون البغداديّة إمبراطوريّة اقتصاديّة امتدّت من الهند شرقًا حتّى أوروبا غربًا.

أمّا ما زاد شهرة يهود العراق أكثر من أيّ شيء آخر في العصر الحديث فهو موسيقاهم. ‏‎ ‎فقد اشتُهر الكثير من اليهود بفضل مواهبهم الموسيقيّة، وفي مسابقة الموسيقى في العالم العربي التي أُقيمت في القاهرة في الأربعينات، فاز الوفد العراقي، الذي تألّف من موسيقيين يهود ومُطرب مسلم واحد. ويُذكَر بشكل خاصّ صالح وداود الكويتي، اللذان أنشآ فرقة الإذاعة الموسيقية الوطنية في العراق، حتّى إنهما غنّيا في حفل تنصيب الملك فيصل الثاني.

التدهوُر والمغادَرة

حدث التدهوُر الأكبر في وضع يهود العراق مع صعود النازيين في ألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين. فقد عملت السفارة الألمانية في بغداد بوقًا لرسائل لاساميّة أدّت تدريجًا إلى تغيّر نظرة العراقيين المسلمين إلى إخوتهم اليهود. فعام 1934، فُصل عشرات الموظَّفين اليهود من وزارة الاقتصاد، عام 1935 فُرضت قيود على عدد اليهود في المدارس، وعام 1938 أُقفلت صحيفة “الحصاد”، لسان حال يهود العراق.

مجموعة حاخامات يهود في بغداد عام 1910 (Wikipedia)
مجموعة حاخامات يهود في بغداد عام 1910 (Wikipedia)

وكانت الذروة عام 1941، بعد فشل الانقلاب الذي قاده رشيد عالي الكيلاني، الذي سعى إلى طرد البريطانيّين وإنشاء سُلطة ذات رعاية ألمانية – نازيّة. في تلك السنة، حدث ما يُعرف بالفرهود – المجزرة الأكبر بحقّ يهود العراق. في إطار الاضطرابات، قُتل 179 يهوديًّا، أصيب 2118، تيتّم 242 طفلًا، وسُلب الكثير من الممتلكات. وصل عدد الأشخاص الذين نُهبت ممتلكاتُهم إلى 50 ألفًا، ودُفن الضحايا في مقبرة جماعيّة في بغداد.

كانت النتيجة المباشرة للمجزرة تعزيز قوة الصهيونية، والإدراك أنّ فلسطين (أرض إسرائيل) وحدها تشكّل ملاذًا آمنًا ليهود العراق. فاقم إنشاء دولة إسرائيل ونتائج حرب العام 1948 أكثر وأكثر التوتر بين اليهود والمسلمين في العراق. فاليهود الذين اشتُبه في ممارستهم نشاطاتٍ صهيونية قُبض عليهم، احتُجزوا، وعُذِّبوا.

عام 1950، سنّت الحكومة العراقية قانونًا يسري مفعوله لعامٍ واحد، أتاح لليهود الخروج من البلاد شرطَ تنازُلهم عن جنسيّتهم العراقية. أُتيح لكلّ يهودي يبلغ عشر سنوات وما فوق أن يأخذ معه مبلغًا محدَّدًا من المال وبضعة أغراض. أمّا الممتلكات التي خلّفوها وراءهم فكان يمكنهم بيعها بمبالغ ضئيلة.

نتيجة ذلك، أطلقت دولة إسرائيل عملية باسم “عزرا ونحميا” تهدف إلى إحضار أكبر عددٍ ممكن من يهود العراق إلى البلاد. وكلّما زاد تدفّق اليهود الذين غادروا العراق، ازدادت مضايقات اليهود، حتّى إنّ البعض منهم فقد حياته.

عائلة يهودية عراقية
عائلة يهودية عراقية

منذ 1949 حتّى 1951، فرّ 104 آلاف يهودي من العراق ضمن عمليات “عزرا ونحميا”، و20 ألفًا آخرون هُرِّبوا عبر إيران. وهكذا، تقلّصت الجالية التي بلغت ذروة من 150 ألف شخص عام 1947، إلى مجرّد 6 آلاف بعد عام 1951. أمّا الموجة الثانية من الهجرة فحدثت إثر ارتقاء حزب البعث السلطة عام 1968، إذ هاجر نحو ألف يهودي آخرين إلى إسرائيل. اليوم، يعيش في بغداد عددٌ ضئيل من اليهود، كما يبدو مجرّد ثمانية.

جمّدت السلطات العراقية الممتلكات الكثيرة لليهود الذين هجروا البلاد. ويُقدَّر أنّ قيمة الممتلكات كانت تبلغ نحو 30 مليون دولار في الخمسينات. أمّا بقيمة اليوم، فيمكن القول إنّ يهود العراق تركوا وراءهم ممتلكاتٍ تُقدَّر قيمتها بـ 290 مليون دولار.

خمسة إسرائيليّين – عراقيين عليكم أن تتعرفوا إليهم

عائلة يهودية عراقية تصل الى مطار اللد عام 1950 (WIKIPEDIA)
عائلة يهودية عراقية تصل الى مطار اللد عام 1950 (WIKIPEDIA)

بدءًا من الخمسينات، ازدهرت جماعة يهود بابل في دولة إسرائيل. لم تكُن صعوبات الاستيعاب في الدولة الفتيّة بسيطة، وكان عليهم أن يناضلوا للحفاظ على هويّتهم الفريدة مقابل يهود أوروبا الشرقية، الذين رأوا فيهم ممثّلين أقل قيمة للحضارة العربية. لم تقدِّر السلطات الإسرائيلية الممتلكات الكثيرة والغنى الحضاري الذي تركوه وراءهم في بغداد والبصرة، ولم يتمكّن يهود العراق من إيجاد مكانة لهم بين سائر المهاجرين: المهاجرين من أوروبا الشرقية من جهة، والمهاجرين من شمال إفريقية من جهة أُخرى.

لكن كلّما مّرت السنون، تعرّف الشعب الإسرائيلي إلى أهمية وإسهامات المهاجرين من العراق، ووصل بعضٌ منهم إلى مواقع مركزيّة في السياسة، الثقافة، والمجال المهنيّ في إسرائيل. إليكم خمسة عراقيين يهود إسرائيليين، عليكم أن تتعرّفوا إليهم:

  • الحاخام عوفاديا يوسف – وُلد عام 1920 في بغداد باسم “عوفاديا عوفاديا”، وأصبح مع الوقت الزعيم الديني دون منازع لجميع يهود الشرق في إسرائيل. وضع الحاخام، الذي اعتُبر معجزة دينيّة منذ طفولته، أولى مؤلفاته الدينية في التاسعة من عُمره. يتذكّره كثيرون في إسرائيل بسبب إجازته الفقهيّة لعمليّة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكن أيضًا بسبب زلّات لسانه العديدة. فقد قال مثلًا عن أريئيل شارون: “ليُنزل عليه الله – تبارك وتعالى – ضربةً لا يقومُ منها”، ووصف رئيس الحكومة نتنياهو بأنه “عنزة عمياء”.
  • بنيامين “فؤاد” بن إليعيزر – الطفل الصغير من البَصرة الذي أمسى قائدًا عسكريًّا بارزًا في إسرائيل، وبعد ذلك سياسيًّا شغل عددًا كبيرًا من المناصب الوزارية، وكان صديقًا مقرَّبًا من الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك. فبعد أن كان وزير الإسكان في حكومة رابين، وزير الدفاع في حكومة شارون، ووزير الصناعة في حكومتَي أولمرت ونتنياهو، تتجه أنظار “فؤاد” الآن إلى المقام الأرفع، إذ يسعى إلى أن يكون أوّل رئيس عراقي لدولة إسرائيل.
  • دودو طاسا – حفيد داود الكويتي الذي أضحى هو نفسه موسيقيًّا كبيرا ورياديًّا في إسرائيل. يدمج تاسا بين الأسلوب الغربي وبين الموسيقى العراقية التقليدية، ويُذكَر بشكل خاصّ أداؤه لأغنية فوق النخل‏‎ ‎‏، التي اشتُهرت بأداء جدّه.‎ قادت الأغنية إلى ألبوم يعزف فيه تاسا أغاني الكويتيَّين (داود وصالح).
  • إيلي عمير الأديب الذي جسّد أفضل من أيّ شخص آخر مشاعر القادِمين من العراق. عبّر كتابه “ديك الفِداء”، الذي كتبه على مدى 13 عامًا، بشكل دقيقٍ عن مصاعب شابّ ذي أصل عراقي يستصعب الوصل بين عالم والدَيه الماضي وبين عالَم رجال الكيبوتز ذوي الأصول الأوروبية، الذي أراد الاندماج فيه. بقيت لغته الأم عربية، وهو حزين للإكراه الثقافي الإسرائيلي، الذي ألزمه بمحو ماضيه. مع السنوات، أضحى عمير ناشطًا في حزب العمل الإسرائيلي.
  • إيلي يتسفان – كبير الكوميديين الإسرائيليين هو في الواقع من أصل عراقيّ. فرغم أنه وُلد في إسرائيل، والداه كلاهما عراقيّان. سمع يتسفان، أصغر خمسة أبناء، العربية العراقية تصدح في بيته، وأصبح مقلّدًا موهوبًا قادرًا على تمثيل شخصية أيّ إنسان، ولا سيّما شخصيات من العالم العربي. كاد تقليده للرئيس المصري محمد حسني مبارك (الذي أعطى مبارك لهجة مختلطة – مصريّة وعراقيّة) يقود إلى أزمة في العلاقات الإسرائيلية – المصريّة.

شاهدوا إيلي يتسفان العراقي يقلّد حسني مبارك:

اقرأوا المزيد: 1338 كلمة
عرض أقل