منظر لآثار مدينة بابل التاريخية (AFP)
منظر لآثار مدينة بابل التاريخية (AFP)

على أنهار بابل.. قصّة يهود العراق

يعيش اليوم في بغداد 8 يهود فقط، بقية لجالية عريقة تعود جذورها إلى أكثر من 2500 عام. اقرأوا قصة هذه الجالية وتعرفوا إلى 5 إسرائيليين معروفين انحدروا منها

01 يونيو 2017 | 11:16

“يهود بابل” – هذا هو اللقب الذي يستخدمه حتّى اليوم كثير من اليهود ذوي الأصل العراقيّ الذين يقطنون في إسرائيل للإشارة إلى أنفسهم. يهود بابل، لا يهود العراق. ليس بلا سبب تفضيلُ عديدين اللقب القديم على اسم الدولة العصرية التي أتَوا منها – فالجالية اليهودية في العراق ذات جذور تاريخية ضاربة في العمق، تصل إلى دمار الهيكل الأول في أورشليم عام 607 قبل الميلاد.

فقد سبا ملك الإمبراطورية البابلية، نبوخذنصر الثاني، اليهود من موطنهم التاريخي إلى بابل البعيدة، حيث نشأت جالية يهودية جديدة ومزدهرة. لم يتوقف يومًا الحنين إلى الموطن، ويتجلى ذلك في المزمور 137، العدد 1: “عَلَى أَنْهَ‍ارِ بَ‍ابِ‍لَ،‏ هُنَ‍اكَ جَلَسْنَ‍ا.‏  بَ‍كَيْنَ‍ا أَيْضً‍ا عِنْ‍دَمَ‍ا تَ‍ذَكَّرْنَ‍ا صِهْيَ‍وْنَ”. لكن في فترةٍ متأخرة أكثر تاريخيًّا، مثل فترة كورش، التي أُجيز فيها لليهود بأن يعودوا إلى أورشليم، بقيت جالية يهود بابل قائمة وكبيرة.

النموّ والازدهار

كانت جالية يهود بابل الأكبر والأكثر ازدهارًا بين الجاليات اليهودية، حتّى حين تشتّت اليهود في كلّ أرجاء المعمورة. فقد كانت الجالية مركزًا تجاريًّا وحضاريًّا مزدهرًا، فضلًا عن كونها مركزًا روحيًّا ودينيَّا ذا أهمية كبرى. تجمّع جميع حكماء الديانة اليهودية بين نهرَي دجلة والفرات، وأقاموا هناك قرونًا. تعاملت الإمبراطورية البارثية التي سيطرت على المنطقة جيّدًا مع اليهود، ومنحتهم حقوقًا بإدارة مستقلّة وحريّة ثقافيّة. في هذه الفترة، بلغ الفِكر اليهودي إحدى ذُراه، في تأليف “التلمود البابلي”. كذلك في السنوات اللاحقة، تحت حُكم الساسانيّين، كان اليهود محميّين من أيّ أذى.

قبر حزقيال (ذو الكفل) في مدينة الكفل العراقيه (AFP)
قبر حزقيال (ذو الكفل) في مدينة الكفل العراقيه (AFP)

مع انتشار الإسلام وسيطرة الخلفاء، بدءًا من القرن السابع الميلادي، تحسّن كثيرًا وضع يهود بابل، إذ أصبح للمرة الأولى معظم يهود العالم تحت السيادة نفسها – سيادة الإسلام. لكنّ هذا التعامُل لم يكُن ثابتًا، إذ كان وضع اليهود يعتمد على نظرة الحاكم. ورغم أنّهم نعموا غالبًا بالأمان، لكنهم كانوا تحت تهديد أحكامٍ – مثل حظر الخليفة عُمر بن عبد العزيز في مطلع القرن الثامن أن يلبسوا كالعرب أو أن يعيشوا حياة رفاهية، أو حُكم الخليفة المتوكّل في القرن التاسع، الذي ألزمهم بلبس ثياب خاصّة تكون علامة عار. في فترة الخليفة المأمون، دُعي اليهود “أخبث الأمم”، ودُمّرت مجامع يهودية كثيرة في عهده. في القرون الوسطى، هجر يهود كثيرون بغداد ومحيطها للسكن في الأندلُس، التي أصبحت مركزًا إسلاميًّا مزدهرًا في العالم.

كانت الفترة العثمانية أيضًا فترةً مفعمة بالتقلّبات بالنسبة للجالية في العراق. لكن كلّما ازدادت موجات الدمقرطة، تحسّن وضع اليهود، الذين شكّلوا جزءًا هامًّا من الحياة العامّة والتجاريّة في العراق. عام 1908، حصل جميع يهود العراق على مساواة في الحقوق وحرية دينية كفلها القانون، حتّى إنّ بعضهم أُرسل لتمثيل العراق في البرلمان العُثمانيّ.

كنيس مهجور في مدينة الفلوجة (ِAFP)
كنيس مهجور في مدينة الفلوجة (ِAFP)

بعد الحرب العالمية الأولى وتتويج فيصل ملكًا على البلاد، تحسّن وضع اليهود أكثر فأكثر. كان وزير المالية الأول للعراق في العصر الحديث يهوديًّا، اسمه حسقيل ساسون‎ ‎‏. اتّخذ ساسون عددًا من القرارات التي أسهمت في استقرار الاقتصاد العراقي في القرن العشرين، بما فيها تنظيم تصدير النفط إلى بريطانيا. وبشكل عامّ، أضحت أسرة ساسون البغداديّة إمبراطوريّة اقتصاديّة امتدّت من الهند شرقًا حتّى أوروبا غربًا.

أمّا ما زاد شهرة يهود العراق أكثر من أيّ شيء آخر في العصر الحديث فهو موسيقاهم. ‏‎ ‎فقد اشتُهر الكثير من اليهود بفضل مواهبهم الموسيقيّة، وفي مسابقة الموسيقى في العالم العربي التي أُقيمت في القاهرة في الأربعينات، فاز الوفد العراقي، الذي تألّف من موسيقيين يهود ومُطرب مسلم واحد. ويُذكَر بشكل خاصّ صالح وداود الكويتي، اللذان أنشآ فرقة الإذاعة الموسيقية الوطنية في العراق، حتّى إنهما غنّيا في حفل تنصيب الملك فيصل الثاني.

التدهوُر والمغادَرة

حدث التدهوُر الأكبر في وضع يهود العراق مع صعود النازيين في ألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين. فقد عملت السفارة الألمانية في بغداد بوقًا لرسائل لاساميّة أدّت تدريجًا إلى تغيّر نظرة العراقيين المسلمين إلى إخوتهم اليهود. فعام 1934، فُصل عشرات الموظَّفين اليهود من وزارة الاقتصاد، عام 1935 فُرضت قيود على عدد اليهود في المدارس، وعام 1938 أُقفلت صحيفة “الحصاد”، لسان حال يهود العراق.

مجموعة حاخامات يهود في بغداد عام 1910 (Wikipedia)
مجموعة حاخامات يهود في بغداد عام 1910 (Wikipedia)

وكانت الذروة عام 1941، بعد فشل الانقلاب الذي قاده رشيد عالي الكيلاني، الذي سعى إلى طرد البريطانيّين وإنشاء سُلطة ذات رعاية ألمانية – نازيّة. في تلك السنة، حدث ما يُعرف بالفرهود – المجزرة الأكبر بحقّ يهود العراق. في إطار الاضطرابات، قُتل 179 يهوديًّا، أصيب 2118، تيتّم 242 طفلًا، وسُلب الكثير من الممتلكات. وصل عدد الأشخاص الذين نُهبت ممتلكاتُهم إلى 50 ألفًا، ودُفن الضحايا في مقبرة جماعيّة في بغداد.

كانت النتيجة المباشرة للمجزرة تعزيز قوة الصهيونية، والإدراك أنّ فلسطين (أرض إسرائيل) وحدها تشكّل ملاذًا آمنًا ليهود العراق. فاقم إنشاء دولة إسرائيل ونتائج حرب العام 1948 أكثر وأكثر التوتر بين اليهود والمسلمين في العراق. فاليهود الذين اشتُبه في ممارستهم نشاطاتٍ صهيونية قُبض عليهم، احتُجزوا، وعُذِّبوا.

عام 1950، سنّت الحكومة العراقية قانونًا يسري مفعوله لعامٍ واحد، أتاح لليهود الخروج من البلاد شرطَ تنازُلهم عن جنسيّتهم العراقية. أُتيح لكلّ يهودي يبلغ عشر سنوات وما فوق أن يأخذ معه مبلغًا محدَّدًا من المال وبضعة أغراض. أمّا الممتلكات التي خلّفوها وراءهم فكان يمكنهم بيعها بمبالغ ضئيلة.

نتيجة ذلك، أطلقت دولة إسرائيل عملية باسم “عزرا ونحميا” تهدف إلى إحضار أكبر عددٍ ممكن من يهود العراق إلى البلاد. وكلّما زاد تدفّق اليهود الذين غادروا العراق، ازدادت مضايقات اليهود، حتّى إنّ البعض منهم فقد حياته.

عائلة يهودية عراقية
عائلة يهودية عراقية

منذ 1949 حتّى 1951، فرّ 104 آلاف يهودي من العراق ضمن عمليات “عزرا ونحميا”، و20 ألفًا آخرون هُرِّبوا عبر إيران. وهكذا، تقلّصت الجالية التي بلغت ذروة من 150 ألف شخص عام 1947، إلى مجرّد 6 آلاف بعد عام 1951. أمّا الموجة الثانية من الهجرة فحدثت إثر ارتقاء حزب البعث السلطة عام 1968، إذ هاجر نحو ألف يهودي آخرين إلى إسرائيل. اليوم، يعيش في بغداد عددٌ ضئيل من اليهود، كما يبدو مجرّد ثمانية.

جمّدت السلطات العراقية الممتلكات الكثيرة لليهود الذين هجروا البلاد. ويُقدَّر أنّ قيمة الممتلكات كانت تبلغ نحو 30 مليون دولار في الخمسينات. أمّا بقيمة اليوم، فيمكن القول إنّ يهود العراق تركوا وراءهم ممتلكاتٍ تُقدَّر قيمتها بـ 290 مليون دولار.

خمسة إسرائيليّين – عراقيين عليكم أن تتعرفوا إليهم

عائلة يهودية عراقية تصل الى مطار اللد عام 1950 (WIKIPEDIA)
عائلة يهودية عراقية تصل الى مطار اللد عام 1950 (WIKIPEDIA)

بدءًا من الخمسينات، ازدهرت جماعة يهود بابل في دولة إسرائيل. لم تكُن صعوبات الاستيعاب في الدولة الفتيّة بسيطة، وكان عليهم أن يناضلوا للحفاظ على هويّتهم الفريدة مقابل يهود أوروبا الشرقية، الذين رأوا فيهم ممثّلين أقل قيمة للحضارة العربية. لم تقدِّر السلطات الإسرائيلية الممتلكات الكثيرة والغنى الحضاري الذي تركوه وراءهم في بغداد والبصرة، ولم يتمكّن يهود العراق من إيجاد مكانة لهم بين سائر المهاجرين: المهاجرين من أوروبا الشرقية من جهة، والمهاجرين من شمال إفريقية من جهة أُخرى.

لكن كلّما مّرت السنون، تعرّف الشعب الإسرائيلي إلى أهمية وإسهامات المهاجرين من العراق، ووصل بعضٌ منهم إلى مواقع مركزيّة في السياسة، الثقافة، والمجال المهنيّ في إسرائيل. إليكم خمسة عراقيين يهود إسرائيليين، عليكم أن تتعرّفوا إليهم:

  • الحاخام عوفاديا يوسف – وُلد عام 1920 في بغداد باسم “عوفاديا عوفاديا”، وأصبح مع الوقت الزعيم الديني دون منازع لجميع يهود الشرق في إسرائيل. وضع الحاخام، الذي اعتُبر معجزة دينيّة منذ طفولته، أولى مؤلفاته الدينية في التاسعة من عُمره. يتذكّره كثيرون في إسرائيل بسبب إجازته الفقهيّة لعمليّة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكن أيضًا بسبب زلّات لسانه العديدة. فقد قال مثلًا عن أريئيل شارون: “ليُنزل عليه الله – تبارك وتعالى – ضربةً لا يقومُ منها”، ووصف رئيس الحكومة نتنياهو بأنه “عنزة عمياء”.
  • بنيامين “فؤاد” بن إليعيزر – الطفل الصغير من البَصرة الذي أمسى قائدًا عسكريًّا بارزًا في إسرائيل، وبعد ذلك سياسيًّا شغل عددًا كبيرًا من المناصب الوزارية، وكان صديقًا مقرَّبًا من الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك. فبعد أن كان وزير الإسكان في حكومة رابين، وزير الدفاع في حكومة شارون، ووزير الصناعة في حكومتَي أولمرت ونتنياهو، تتجه أنظار “فؤاد” الآن إلى المقام الأرفع، إذ يسعى إلى أن يكون أوّل رئيس عراقي لدولة إسرائيل.
  • دودو طاسا – حفيد داود الكويتي الذي أضحى هو نفسه موسيقيًّا كبيرا ورياديًّا في إسرائيل. يدمج تاسا بين الأسلوب الغربي وبين الموسيقى العراقية التقليدية، ويُذكَر بشكل خاصّ أداؤه لأغنية فوق النخل‏‎ ‎‏، التي اشتُهرت بأداء جدّه.‎ قادت الأغنية إلى ألبوم يعزف فيه تاسا أغاني الكويتيَّين (داود وصالح).
  • إيلي عمير الأديب الذي جسّد أفضل من أيّ شخص آخر مشاعر القادِمين من العراق. عبّر كتابه “ديك الفِداء”، الذي كتبه على مدى 13 عامًا، بشكل دقيقٍ عن مصاعب شابّ ذي أصل عراقي يستصعب الوصل بين عالم والدَيه الماضي وبين عالَم رجال الكيبوتز ذوي الأصول الأوروبية، الذي أراد الاندماج فيه. بقيت لغته الأم عربية، وهو حزين للإكراه الثقافي الإسرائيلي، الذي ألزمه بمحو ماضيه. مع السنوات، أضحى عمير ناشطًا في حزب العمل الإسرائيلي.
  • إيلي يتسفان – كبير الكوميديين الإسرائيليين هو في الواقع من أصل عراقيّ. فرغم أنه وُلد في إسرائيل، والداه كلاهما عراقيّان. سمع يتسفان، أصغر خمسة أبناء، العربية العراقية تصدح في بيته، وأصبح مقلّدًا موهوبًا قادرًا على تمثيل شخصية أيّ إنسان، ولا سيّما شخصيات من العالم العربي. كاد تقليده للرئيس المصري محمد حسني مبارك (الذي أعطى مبارك لهجة مختلطة – مصريّة وعراقيّة) يقود إلى أزمة في العلاقات الإسرائيلية – المصريّة.

شاهدوا إيلي يتسفان العراقي يقلّد حسني مبارك:

اقرأوا المزيد: 1338 كلمة
عرض أقل
الروائي الإسرائيلي من أصول عراقية، إيلي عمير(Hadas Parush/Flash 90)
الروائي الإسرائيلي من أصول عراقية، إيلي عمير(Hadas Parush/Flash 90)

تعرفوا إلى نجيب محفوظ الإسرائيلي

شوارع بغداد وأسواقها تشكل المواد الأولية لرواياته. وهمّه الأدبي هو جسر الهوة بين الثقافة الإسرائيلية والثقافة العربية. تعرفوا إلى الكاتب إيلي عمير أو باسمه الأصلي فؤاد إلياس خلاصجي

22 أبريل 2017 | 12:36

ولد فؤاد الياس ناصح خلاصجي في بغداد عام 1937، وهاجر مع عائلته إلى إسرائيل عام 1950 بعد أن تحوّل العراق إلى مكان يعادي مواطنيه اليهود. كان المجتمع اليهودي في الماضي يضم نحو 140 ألف شخص، وكان له دور مهم ومساهمة حقيقية في تطور العراق، لكن قيام دولة إسرائيل دمّر العلاقة بين هذه الجالية والعراقيين. وهذه الفترة التي عشاها الروائي فؤاد خلاصجي، أو باسمه العبري، إيلي عمير، في بغداد، ما زالت حية في ذهنه ورواياته.

يقول عمير في إحدى مقابلاته إنه أرجأ رحلة إلى القاهرة مرة قبل أن ينجز روايته “مطيّر الحمام” – التي تروي قصة هجرة اليهود من العراق وتدور أحداثها في أحياء بغداد وأسواقها- لكي لا تختلط عليه مشاهد القاهرة مع مشاهد بغداد، إذ أراد سرد الأماكن والأجواء في بغداد، العالقة في ذهنه منذ الطفولة، في منتهى الدقة. وبعد إنجاز الرواية المذكورة، سافر الروائي إلى القاهرة، وكانت المناسبة نقل روايته “ياسمين” إلى اللغة العربية ونشرها في مصر. وهي رواية تسرد قصة حب بين شاب يهودي وشابة فلسطينية مسيحية، تجري وقائعها في القدس في الحقبة الزمنية التي تلت حرب 1967 وغيّرت الواقع السياسي في القدس.

وكانت رواية ياسمين الكتاب الذي ختم ثلاثية روايات عمير التي انطلقت في العراق وروت قصة فرار اليهود منه، ومن ثم الوصول إلى أرض الميعاد ومشقات التأقلم، وانتهت بالصراع العربي – الإسرائيلي. وحين سئل عمير إن كان احتذى بثلاثية الروائي المصري العظيم، نجيب محفوظ، نموذجا للثلاثية التي ألّفها، قال إنه لم يكن قرأ ثلاثية محفوظ قبل بدء العمل على عمله الأدبي، لكن المقارنة دعته إلى قراءة كتب محفوظ. ورغم نفي عمير تقليد محفوظ، إلا أن المقاربة بينهما قائمة في إسرائيل، وهنالك من يلقبه ب “نجيب محفوظ الإسرائيلي”.

الروائي الإسرائيلي من أصول عراقية، إيلي عمير(Yossi Zamir/Flash90)
الروائي الإسرائيلي من أصول عراقية، إيلي عمير(Yossi Zamir/Flash90)

وعن صراع الهويات التي يعيشها الروائي يقول “لم أنسَ يوما جذوري ولغتي (العراقية والعربية)، لكنني لم أعارض تقبل حضارة ثانية (الحضارة الإسرائيلية – الغربية) وتبينها. الإنسان في العصر الحديث، باعتقادي، يملك هويات متعددة ولا يعيش هوية واحدة. أنا أعيش بسلام مع كوني إسرائيلي، وأنادي دائما لتعلم اللغة العربية والحضارة العربية على أدبها وقصائدها”.

وقد ناضل عمير طوال سنين نشاطه الأدبي والسياسي من أجل رفع شأن اللغة العربية في إسرائيل، مشدّدا على أهمية دراستها وإتقانها من أجل معرفة ثقافة العرب والإسلام. وإلى جانب ذلك، فهو إسرائيلي فخور بما أنجزت دولة اليهود، يعتز بكونه صهيوني. ويتجسد صراعه هذا في روايته “ياسمين” حيث يقول بطل الرواية عن نفسه: “أنا يهودي ابن عرب، يقدر إنجازات الغرب. يسمع الموسيقى الكلاسيكية في الصباح، والموسيقي العربية في المساء. عصفور مهاجر بين عالمين. قدم هنا وقدم هناك.. وفي مرات كثيرة تحتار قدماي”.

وتمتاز روايات عمير عن غيرها من الأدب الإسرائيلي بأنها ثرية بالكلمات العربية، وقصد الروائي من ذلك الحفاظ على اللغة التي تكلمها في صغره، وربط الحاضر الثقافي في إسرائيل بالماضي الشرقي. ومن هذه المصطلحات كما ظهرت في رواية “مطير الحمام”: استعمال كلمة “الجرّة”، والمقولة الشعبية “الهزيمة غنيمة”، و”الشاي خانة” التي تقدم الشاي فقط لزبائنها، وأكلة “السموبسك”، والحديث عن “شباب الإنقاذ” وهي اسم مجموعة يهودية تأسست سرا للدفاع عن اليهود في العراق في أعقاب أحداث الفرهود، والجلالة أي الأرجوحة وبعد.

الروائي الإسرائيلي من أصول عراقية، إيلي عمير(Hadas Parush/Flash 90)
الروائي الإسرائيلي من أصول عراقية، إيلي عمير(Hadas Parush/Flash 90)

وعدا عن نجاح الروائي الموهوب وتصدر كتبه قوائم الأكثر مبيعا في إسرائيل، يحتل عمير مكانة خاصة في قلوب الإسرائيليين، خاصة اليهود من أصول أوروبية، لكونه كاتب يمزج بين الشرق والغرب على نحو رائع. يحترم إنجازات الغرب وتقدمه مثلما يحب هويته الشرقية، أو كما يصف هو بنفسه “في الصباح أحب الاستماع لبتهوفن، وفي المساء لأم كلثوم”.

ويشدد عمير في مقابلاته على أنه يعتز بالحركة الصهيونية ويعرف نفسه على أنه كاتب “صهيوني يهودي إسرائيلي”، أينما كان، حتى في مصر. ومنبع هذا هو العناء الذي مر به اليهود في أوروبا والدول الإسلامية.

وعن عناء اليهود الشرقيين، يستهل عمير روايته “مطير الحمام” بمشهد شنق التاجر اليهودي الكبير في بغداد، شفيق عدس. فقد اتهمته السلطات العراقية افتراءً ببيع السلاح للمنظمات اليهودية، استنادا على مقالة نشرها محرر صحيفة في العراق رفض عدس التعامل معه، وكان عوّل على أصدقائه المسلمين بالوقوف إلى جانبه في وقت الضيق. وكانت نهاية عدس، إعدامه في أحد ميادين البلد على الملأ، وعلى وقع هتاف السكان المسلمين “الله أكبر”، الدليل القاطع بأن العراق لم يعد يريد سكانه اليهود، ولا أمل في البقاء فيه، على الرغم من أن هنالك في المجتمع اليهودي من دافع عن فكرة البقاء في العراق.

ويعيش عمير اليوم في حي جيلو في القدس، وهو حي يقع بعد حدود 1967. واختار هذا الموقع بالنسبة لعمير يمثل الجانب الصهيوني فيه، فهو يؤمن بأرض إسرائيل الكبرى، لكنه خلافا لغيره من اليهود، يعترف بوجود شعب آخر، وينادي إلى إقامة دولة فلسطينية تمكن هذا الشعب من تحقيق طموحاته. وعن رأيه في حل الدولتين يقول عمير: “أنا تاجر بغدادي. أطمح لأعيش في دولة يهودية وأعترف بطموح الشعب الآخر الذي يعيش بجواري.. لذلك أريد أن أشتري السلام بإعادة الأراضي التي استولت عليها إسرائيل عام 1967”.

وقد اختير الروائي، الذي يبلغ من العمر 80 عاما، قبل وقت قصير، ليكون من موقدي مشاعل يوم الاستقلال، وحظي على هذا الشرف الإسرائيلي لمساهمته العظيمة في سرد تجربة هجرة اليهود الشرقيين، ومن ثم حياتهم في البلاد التي قامت حديثا وما زالت تبحث عن هويتها، والمعاملة السيئة التي لاقاها اليهود الشرقيين من المؤسسة العلمانية الأشكنازية في البلاد.

اقرأوا المزيد: 785 كلمة
عرض أقل
خمسة كتاب إسرائيليين يجب عليكم معرفتهم
خمسة كتاب إسرائيليين يجب عليكم معرفتهم

خمسة كتاب إسرائيليين يجب عليكم معرفتهم

الوالد الذي فقد ابنه في الحرب، العربي الذي ترعرع طوال حياته بين اليهود، الفتى الصغير الذي هاجر من العراق، الصوت النسائي وشيخ القبيلة - أولئك هم الكتاب الإسرائيليون الخمسة الذين عليكم أن تتعرفوا عليهم

نقدّم لكم الكُتّاب الإسرائيليين الخمسة الرائدين اليوم. هم أولئك الأفضل من أي شخص آخر في وصف حالة الإنسان، كما ينعكس أمام أعينهم. في حياتهم وإبداعاتهم، هم المرآة الأدبية للمجتمع الإسرائيلي.

ديفيد غروسمان

في إحدى المرات، قبل أن يُولد، قلتُ لها إذا وُلد لي طفل، فأول شيء سأفعله كل صباح سيكون القدوم إليه وإعطاؤه صفعة في وجهه. هكذا فقط. حتى يعلم أنني على حقّ. وبأنّ هناك حرب فقط“.

(من كتاب “انظر تحت: الحبّ”)

ديفيد غروسمان (Flash90)
ديفيد غروسمان (Flash90)

عندما حدث أفظع شيء لديفيد غروسمان، كان قد أصبح كاتبا موضع تقدير. بعد سنوات تعمّق فيها بكتبه في دراسة ماهية الحبّ – الحب الذي بين الرجل والمرأة، بين الأب وابنه، وبين الرجل وصديقه – فقد ابنه أوري الذي قُتل في دبابة كان يُقاتل فيها في حرب لبنان الثانية، صيف عام 2006.

من خلال الفهم بأنّه “ليست هناك عدالة، هناك حربٌ فقط” – يظهر دائما في كتب غروسمان الإيمان بقوة الحبّ

في الفترة التي فقد فيها ابنه، عمل غروسمان على رائعته التي تحكي قصته الذاتية: “امرأة هاربة من الأنباء”، والتي تحكي قصة امرأة تهرب من منزلها في الوقت الذي يُجنّد ابنها للجيش، وذلك حتى لا تسمع خبر موته وتنقذه بذلك. حتى قبل ذلك فقد حظي بتقدير كبير بعد أن أجاد في وصف محنة الفلسطينيين في مخيّمات اللاجئين في كتابه “الزمن الأصفر” منذ عام 1987، والذي توقع اندلاع الانتفاضة الأولى.

ومع ذلك، مع كل المعاناة والفجيعة، من خلال الفهم بأنّه “ليست هناك عدالة، هناك حربٌ فقط” – يظهر دائما في كتب ديفيد غروسمان الإيمان بقوة الحبّ، وبقدرته على إصلاح الالتواء الذي في عالمنا. من شخصية شمشوم الجبّار في الكتاب المقدّس، مرورا بقصة الفتاة التي ناضلت من أجل إنقاذ شقيقها من إدمانه على المخدّرات وصولا إلى المرأة الهاربة خوفا من الأنباء عن وفاة ابنها – لا يختفي الأمل من أعماله أبدا.

وفي الوقت نفسه، فإنّ ديفيد غروسمان هو كاتب للأطفال موضع تقدير، حيث يستطيع كتابة أعمال تزيد من الحكمة وتتوجه إلى قلوب المراهقين، فضلا عن الكبار.

دوريت رابينيان

دوريت رابينيان (Moshe Shai/FLASH90)
دوريت رابينيان (Moshe Shai/FLASH90)

 

يُقلقني أنه يبكي في كثير من الأحيان. وعندما يضحك، يقلقني السعال الذي ينطلق من حنجرته. في إحدى الليالي، في الوقت الذي كان يغسل فيه الأطباق في الحوض، تنزلق إحدى الكؤوس وتستقرّ قطعة من الزجاج السميك في يده، في وسادة إبهامه الأيسر، كشفرة سكين، وتمزّق في لحمه جرحًا عميقًا، فتملأ كل الحوض بالدم“.

(من كتاب “جدار حي”)

 

في نظر الكثيرين، فإنّ دوريت رابينيان هي الصوت النسائي الرائد في الأدب الإسرائيلي. إنها تجيد – أكثر من أي كاتب وكاتبة إسرائيليين – أن تصف الفوارق الدقيقة في الحب: الشوق، الألم، القلق، الحميمية الهشّة.

بعد انطلاقها الأول ككاتبة شابّة واعدة، لم تستطع رابينيان على مدى 15 عامًا العودة للكتابة

بعد انطلاقها الأول ككاتبة شابّة واعدة، لم تستطع رابينيان على مدى 15 عامًا العودة للكتابة. استولى عليها الشلل. لقد بدأت بكتابة ما كان يفترض أن يُصبح روايتها الثالثة. كتبتها ثلاثة مرات أو نسخا مختلفة لها، وبعد خمس سنوات وضعتها على الرفّ.

انطلقت رابينيان هذا العام من جديد مع كتابها “جدار حيّ”، والذي يتناول أكثر القضايا تفجّرا: علاقة غرامية بين امرأة إسرائيلية ورجل فلسطيني، تجري في نيويورك. في نهاية المطاف، فإنّ الصراع في كتابها هو بين الاندماج والانفصال، بين المصير المشترك والهروب. وهي تثبت بذلك مجدّدا إلى أي مدى تعتبر محاولة الاعتماد على الحبّ ضعيفة، ولكنها رغم ذلك لا مفرّ منها.

إيلي عمير

إيلي عمير (Chen Leopold/Flash 90)
إيلي عمير (Chen Leopold/Flash 90)

 

إلى أين يذهب كل هذا، تساءلتُ الآن، لماذا لا يبقى الحبّ. إنّنا نتبعه طوال الحياة، وعندما يكون بأيدينا ينزلق من بين أصابعنا، ولسنا سريعين بما فيه الكفاية كي ننحني ونرفعه عن الأرض

(من كتاب “ما تبقى”)

 

 

 

ليس هناك كاتب آخر أجاد في قصّ تجربة الهجرة من الدول العربيّة إلى دولة إسرائيل مثل إيلي عمير. في الثالثة عشرة من عمره، وصل فؤاد إلياس ناصح خلاصجي من بغداد إلى إسرائيل. ولظروف الزمان والمكان فقد غيّر اسمه إلى اسم عبري، أكثر إسرائيليةً: إيلي عمير. في الفترة التي بدأ فيها يهود الدول العربيّة في الوصول إلى إسرائيل، وحظوا غالبا بمعاملة سيئة، تمّ إيواء أسرة عمير في مخيّم للمهاجرين، وهو نوع هشّ من المخيمات الانتقالية، في ظروف قاسية ومكتظّة.

يتناول الكتاب الأول، والأكثر شهرة لعمير، “ديك الفداء”، فترة صباه ومراهقته كـ “صبي أجنبي” في كيبوتس في شمال إسرائيل، وعملية “الانتقال” وتشكيل الهوية التي مرّ بها، كما مرّ الكثيرون من أبناء جاليات المهاجرين الشرقيين. والكتاب متشابك بالدوافع التي تؤكد على التوتر بين الشرق والغرب، المهاجر الجديد مقابل القديم، القوي مقابل الضعيف، التقاليد مقابل العلمانية، وهي موضوعات استمرّ في تناولها في بعض كتبه.

يعود “الوطن المزدوج” دائما ليُطرح من خلال كتابات عمير

حظي كتاب عمير “مُطيّر الحمام” والذي يتناول الفترة التي فرّ فيها يهود العراق إلى إسرائيل، بنجاح كبير في العالم وتم تجسيده سينمائيّا في الآونة الأخيرة. تشتبك داخل الكتاب، بالإضافة إلى قصة الجالية اليهودية، أيضًا قصص حبّ وخيانة، ويتناول معضلة الولاء: للحبيبة من جهة، وللوطن من جهة أخرى.

يعود “الوطن المزدوج” دائما ليُطرح من خلال كتابات عمير. من جهة، الإيمان بإسرائيل كوطن لليهود، ومن جهة أخرى، ذكريات الطفولة التي تعيده إلى الأحياء اليهودية في مدن العراق.

فيما عدا اشتغاله في الكتابة عمل عمير في عدة وظائف في وزارة استيعاب القادمين الجدد والوكالة اليهودية، وشجّع هجرة اليهود إلى فلسطين (أرض إسرائيل). بل شغل في الستينيات منصب مساعد رئيسي لمستشار رئيس الحكومة لشؤون العرب.

عاموس عوز

عاموس عوز (Flash90)
عاموس عوز (Flash90)

 

هناك ما يكفي من الألم حولنا، ولا يجوز إضافة الألم. ينبغي، إذا كان بالإمكان، التقليل. عدم رش المزيد من الملح على الجروح المفتوحة“.

(من كتاب “راحة تامّة”)

 

 

 

 

عاموس عوز هو شيخ القبيلة الإسرائيلية، وصاحب الصوت الأوضح والأوثق للصهيونية الليبرالية في إسرائيل. فهو يؤمن بدولة إسرائيل، بمكانتها التاريخية، وبالثورة التي أحدثتها في أوساط الشعب اليهودي. ولكن من نقطة الانطلاق هذه، فهو يتألم أكثر من أي كاتب آخر في إسرائيل احتلال الأراضي الفلسطينية، والذي يُفسد – في رأيه – طابع البلاد التي يحبّها جدّا.

وهو يصرّح في العديد من الفرص، بثقة كبيرة، بأنه عن قريب ستقوم في القدس سفارتان: سفارة فلسطين في إسرائيل، وسفارة إسرائيل في فلسطين. وستكون المسافة بينهما، كما يعتقد، مسافة بضع دقائق من المشي.

من خلال هذا الاضطراب الشديد من فقدان الأم والانفصال عن الأب  تجمّع في قلب عوز ينبوع من الأعمال الأدبية

كان “الانفجار الكبير” الذي قلب حياة عوز رأسًا على عقب هو انتحار أمه، عندما كان في الثانية عشر من عمره. ترك بيت والده في أعقاب هذا الحدث المأساوي، وهو بروفيسور صهيوني-يميني، واكتشف عالم الصهيونية الاشتراكية. في أعقاب ذلك تمرّد على صورة والده، كما يقول في أحد كتبه. ومن خلال هذا الاضطراب الشديد من فقدان الأم والانفصال عن الأب لصالح العالم الجديد، تجمّع في قلب عوز ينبوع من الأعمال الأدبية.

هذا الصدع بين حياته حتى انتحار أمه، وحياته منذ ذلك اليوم؛ واضح في جميع أعماله. ثمة منافسة في كل واحد من كتبه، بين اليهودي القديم والصهيوني، بين اليمين واليسار، بين الشاب والكبير، بين الرجل والمرأة، بين الكارثة والأمل في حياة أخرى.

في رائعته “قصة عن الحبّ والظلام”، تشابكت قصة حياته الشخصية والمأساوية بشكل رائع مع تاريخ إسرائيل. إنّ الصراع الأبدي بين الحبّ والظلام هو القصة الواسعة التي تجمع بين كلّ أعماله.

سيد قشوع

سيارات معظم العرب ألمانية، باهظة الثمن، محرّكاتها كبيرة، مليئة بالإكسسوارات، أكثر تألّقًا بقليل ويوجد بينها عدد كبير من سيارات الطرق الوعرة ذات الدفع الرباعي. ليس أنّ أهالي التلاميذ اليهود يربحون أقلّ من أهالي الأطفال العرب في المدرسة، فالعكس هو الصحيح. ولكن وبخلاف الأهالي العرب، ليست هناك منافسة بين اليهود، لا يشعر أحد منهم بأنّ عليه أن يثبت نجاحه لأي شخص آخر، وبالتأكيد ليس عن طريق ترقية حجم محرّك السيارة كلّ عام“.

(من كتاب “ضمير المتكلّم”)

سيد قشوع (Nati Shohat/Flash90)
سيد قشوع (Nati Shohat/Flash90)

ليس هناك مثيل لسيد قشوع، المولود في مدينة الطيرة العربية، في وصف المعضلة الداخلية للفلسطينيين من مواطني إسرائيل. في الصراع بين اللغة العربية التي تحدّث بها قشوع في منزل أبيه وأمه وبين اللغة العبرية، انتصرت العبرية. عندما كان في سنّ الخامسة عشرة أرسله والداه للدراسة في مدرسة ثانوية إسرائيلية عبرية، حيث تعرّف فيها على العمق والثراء اللغوي للغة العبرية. ومنذ ذلك الحين فهو يجيد التعبير عن نفسه باللغة العبرية – وذلك على الرغم من أنه يراها لغة المحتلّ والظالم.

ينظر الفلسطينيون إليه كخائن صهيوني، ولكن العديد من الإسرائيليين ما زالوا ينظرون إليه كعربي ليس أكثر

ينظر الفلسطينيون إليه كخائن صهيوني، ولكن العديد من الإسرائيليين ما زالوا ينظرون إليه كعربي ليس أكثر، ويتعاملون معه باشتباه وتشكّك. ومن ناحيته فهو فلا يخفي يأسه من الأوضاع، وأنّه هشّ وضعيف. وهو يعرض في أعمدته الأسبوعية في صحيفة “هآرتس” نفسه بكامل النقد الذاتي: موبَّخًا من قبل زوجته، يهرب إلى شرب الكحول، ويربّي أطفالا ينسون تراثهم العربي.

وكذلك قشوع، وأيضًا أبطاله، يبحثون أبدا عن مكانهم الحقيقي، ولا يشعرون بالأمان في أي من المعسكرين. ويجدُ الصدام الذي لا بدّ منه بين هويّتيه الاثنتين، الفلسطينية والإسرائيلية

اقرأوا المزيد: 1301 كلمة
عرض أقل
نهر دجلة في مدينة بغداد (AFP/Stan HONDA)
نهر دجلة في مدينة بغداد (AFP/Stan HONDA)

على أنهار بابل – قصّة يهود العراق

لا يعيش أكثر من ثمانية يهود اليوم في بغداد، لكنهم بقيّة جاليةٍ مجيدة تعود جذورها إلى أكثر من ألفَين وخمسمائة عام؛ وأيضًا: خمسة عراقيين إسرائيليين يجب أن تتعرفوا إليهم

“يهود بابل” – هذا هو اللقب الذي يستخدمه حتّى اليوم كثير من اليهود ذوي الأصل العراقيّ الذين يقطنون في إسرائيل للإشارة إلى أنفسهم. يهود بابل، لا يهود العراق. ليس بلا سبب تفضيلُ عديدين اللقب القديم على اسم الدولة العصرية التي أتَوا منها – فالجالية اليهودية في العراق ذات جذور تاريخية ضاربة في العمق، تصل إلى دمار الهيكل الأول في أورشليم عام 607 قبل الميلاد.

فقد سبا ملك الإمبراطورية البابلية، نبوخذنصر الثاني، اليهود من موطنهم التاريخي إلى بابل البعيدة، حيث نشأت جالية يهودية جديدة ومزدهرة. لم يتوقف يومًا الحنين إلى الموطن، ويتجلى ذلك في المزمور 137، العدد 1: “عَلَى أَنْهَ‍ارِ بَ‍ابِ‍لَ،‏ هُنَ‍اكَ جَلَسْنَ‍ا.‏  بَ‍كَيْنَ‍ا أَيْضً‍ا عِنْ‍دَمَ‍ا تَ‍ذَكَّرْنَ‍ا صِهْيَ‍وْنَ”. لكن في فترةٍ متأخرة أكثر تاريخيًّا، مثل فترة كورش، التي أُجيز فيها لليهود بأن يعودوا إلى أورشليم، بقيت جالية يهود بابل قائمة وكبيرة.

شاهدوا حفل زفاف عراقيًّا يهوديًّا تقليديًّا:

http://youtu.be/Uu5skKgA_PM

النموّ والازدهار

كانت جالية يهود بابل الأكبر والأكثر ازدهارًا بين الجاليات اليهودية، حتّى حين تشتّت اليهود في كلّ أرجاء المعمورة. فقد كانت الجالية مركزًا تجاريًّا وحضاريًّا مزدهرًا، فضلًا عن كونها مركزًا روحيًّا ودينيَّا ذا أهمية كبرى. تجمّع جميع حكماء الديانة اليهودية بين نهرَي دجلة والفرات، وأقاموا هناك قرونًا. تعاملت الإمبراطورية البارثية التي سيطرت على المنطقة جيّدًا مع اليهود، ومنحتهم حقوقًا بإدارة مستقلّة وحريّة ثقافيّة. في هذه الفترة، بلغ الفِكر اليهودي إحدى ذُراه، في تأليف “التلمود البابلي”. كذلك في السنوات اللاحقة، تحت حُكم الساسانيّين، كان اليهود محميّين من أيّ أذى.

قبر حزقيال (ذو الكفل) في مدينة الكفل العراقيه  (AFP)
قبر حزقيال (ذو الكفل) في مدينة الكفل العراقيه (AFP)

مع انتشار الإسلام وسيطرة الخلفاء، بدءًا من القرن السابع الميلادي، تحسّن كثيرًا وضع يهود بابل، إذ أصبح للمرة الأولى معظم يهود العالم تحت السيادة نفسها – سيادة الإسلام. لكنّ هذا التعامُل لم يكُن ثابتًا، إذ كان وضع اليهود يعتمد على نظرة الحاكم. ورغم أنّهم نعموا غالبًا بالأمان، لكنهم كانوا تحت تهديد أحكامٍ – مثل حظر الخليفة عُمر بن عبد العزيز في مطلع القرن الثامن أن يلبسوا كالعرب أو أن يعيشوا حياة رفاهية، أو حُكم الخليفة المتوكّل في القرن التاسع، الذي ألزمهم بلبس ثياب خاصّة تكون علامة عار. في فترة الخليفة المأمون، دُعي اليهود “أخبث الأمم”، ودُمّرت مجامع يهودية كثيرة في عهده. في القرون الوسطى، هجر يهود كثيرون بغداد ومحيطها للسكن في الأندلُس، التي أصبحت مركزًا إسلاميًّا مزدهرًا في العالم.

كانت الفترة العثمانية أيضًا فترةً مفعمة بالتقلّبات بالنسبة للجالية في العراق. لكن كلّما ازدادت موجات الدمقرطة، تحسّن وضع اليهود، الذين شكّلوا جزءًا هامًّا من الحياة العامّة والتجاريّة في العراق. عام 1908، حصل جميع يهود العراق على مساواة في الحقوق وحرية دينية كفلها القانون، حتّى إنّ بعضهم أُرسل لتمثيل العراق في البرلمان العُثمانيّ.

كنيس مهجور في مدينة الفلوجة (ِAFP)
كنيس مهجور في مدينة الفلوجة (ِAFP)

بعد الحرب العالمية الأولى وتتويج فيصل ملكًا على البلاد، تحسّن وضع اليهود أكثر فأكثر. كان وزير المالية الأول للعراق في العصر الحديث يهوديًّا، اسمه حسقيل ساسون‎ ‎‏. اتّخذ ساسون عددًا من القرارات التي أسهمت في استقرار الاقتصاد العراقي في القرن العشرين، بما فيها تنظيم تصدير النفط إلى بريطانيا. وبشكل عامّ، أضحت أسرة ساسون البغداديّة إمبراطوريّة اقتصاديّة امتدّت من الهند شرقًا حتّى أوروبا غربًا.

أمّا ما زاد شهرة يهود العراق أكثر من أيّ شيء آخر في العصر الحديث فهو موسيقاهم. ‏‎ ‎فقد اشتُهر الكثير من اليهود بفضل مواهبهم الموسيقيّة، وفي مسابقة الموسيقى في العالم العربي التي أُقيمت في القاهرة في الأربعينات، فاز الوفد العراقي، الذي تألّف من موسيقيين يهود ومُطرب مسلم واحد. ويُذكَر بشكل خاصّ صالح وداود الكويتي، اللذان أنشآ فرقة الإذاعة الموسيقية الوطنية في العراق، حتّى إنهما غنّيا في حفل تنصيب الملك فيصل الثاني.

التدهوُر والمغادَرة

حدث التدهوُر الأكبر في وضع يهود العراق مع صعود النازيين في ألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين. فقد عملت السفارة الألمانية في بغداد بوقًا لرسائل لاساميّة أدّت تدريجًا إلى تغيّر نظرة العراقيين المسلمين إلى إخوتهم اليهود. فعام 1934، فُصل عشرات الموظَّفين اليهود من وزارة الاقتصاد، عام 1935 فُرضت قيود على عدد اليهود في المدارس، وعام 1938 أُقفلت صحيفة “الحصاد”، لسان حال يهود العراق.

مجموعة حاخامات يهود في بغداد عام 1910 (Wikipedia)
مجموعة حاخامات يهود في بغداد عام 1910 (Wikipedia)

وكانت الذروة عام 1941، بعد فشل الانقلاب الذي قاده رشيد عالي الكيلاني، الذي سعى إلى طرد البريطانيّين وإنشاء سُلطة ذات رعاية ألمانية – نازيّة. في تلك السنة، حدث ما يُعرف بالفرهود – المجزرة الأكبر بحقّ يهود العراق. في إطار الاضطرابات، قُتل 179 يهوديًّا، أصيب 2118، تيتّم 242 طفلًا، وسُلب الكثير من الممتلكات. وصل عدد الأشخاص الذين نُهبت ممتلكاتُهم إلى 50 ألفًا، ودُفن الضحايا في مقبرة جماعيّة في بغداد.

كانت النتيجة المباشرة للمجزرة تعزيز قوة الصهيونية، والإدراك أنّ فلسطين (أرض إسرائيل) وحدها تشكّل ملاذًا آمنًا ليهود العراق. فاقم إنشاء دولة إسرائيل ونتائج حرب العام 1948 أكثر وأكثر التوتر بين اليهود والمسلمين في العراق. فاليهود الذين اشتُبه في ممارستهم نشاطاتٍ صهيونية قُبض عليهم، احتُجزوا، وعُذِّبوا.

عام 1950، سنّت الحكومة العراقية قانونًا يسري مفعوله لعامٍ واحد، أتاح لليهود الخروج من البلاد شرطَ تنازُلهم عن جنسيّتهم العراقية. أُتيح لكلّ يهودي يبلغ عشر سنوات وما فوق أن يأخذ معه مبلغًا محدَّدًا من المال وبضعة أغراض. أمّا الممتلكات التي خلّفوها وراءهم فكان يمكنهم بيعها بمبالغ ضئيلة.

نتيجة ذلك، أطلقت دولة إسرائيل عملية باسم “عزرا ونحميا” تهدف إلى إحضار أكبر عددٍ ممكن من يهود العراق إلى البلاد. وكلّما زاد تدفّق اليهود الذين غادروا العراق، ازدادت مضايقات اليهود، حتّى إنّ البعض منهم فقد حياته.

عائلة يهودية عراقية
عائلة يهودية عراقية

منذ 1949 حتّى 1951، فرّ 104 آلاف يهودي من العراق ضمن عمليات “عزرا ونحميا”، و20 ألفًا آخرون هُرِّبوا عبر إيران. وهكذا، تقلّصت الجالية التي بلغت ذروة من 150 ألف شخص عام 1947، إلى مجرّد 6 آلاف بعد عام 1951. أمّا الموجة الثانية من الهجرة فحدثت إثر ارتقاء حزب البعث السلطة عام 1968، إذ هاجر نحو ألف يهودي آخرين إلى إسرائيل. اليوم، يعيش في بغداد عددٌ ضئيل من اليهود، كما يبدو مجرّد ثمانية.

جمّدت السلطات العراقية الممتلكات الكثيرة لليهود الذين هجروا البلاد. ويُقدَّر أنّ قيمة الممتلكات كانت تبلغ نحو 30 مليون دولار في الخمسينات. أمّا بقيمة اليوم، فيمكن القول إنّ يهود العراق تركوا وراءهم ممتلكاتٍ تُقدَّر قيمتها بـ 290 مليون دولار.

خمسة إسرائيليّين – عراقيين عليكم أن تتعرفوا إليهم

عائلة يهودية عراقية تصل الى مطار اللد عام 1950 (WIKIPEDIA)
عائلة يهودية عراقية تصل الى مطار اللد عام 1950 (WIKIPEDIA)

بدءًا من الخمسينات، ازدهرت جماعة يهود بابل في دولة إسرائيل. لم تكُن صعوبات الاستيعاب في الدولة الفتيّة بسيطة، وكان عليهم أن يناضلوا للحفاظ على هويّتهم الفريدة مقابل يهود أوروبا الشرقية، الذين رأوا فيهم ممثّلين أقل قيمة للحضارة العربية. لم تقدِّر السلطات الإسرائيلية الممتلكات الكثيرة والغنى الحضاري الذي تركوه وراءهم في بغداد والبصرة، ولم يتمكّن يهود العراق من إيجاد مكانة لهم بين سائر المهاجرين: المهاجرين من أوروبا الشرقية من جهة، والمهاجرين من شمال إفريقية من جهة أُخرى.

لكن كلّما مّرت السنون، تعرّف الشعب الإسرائيلي إلى أهمية وإسهامات المهاجرين من العراق، ووصل بعضٌ منهم إلى مواقع مركزيّة في السياسة، الثقافة، والمجال المهنيّ في إسرائيل. إليكم خمسة عراقيين يهود إسرائيليين، عليكم أن تتعرّفوا إليهم:

  • الحاخام عوفاديا يوسف – وُلد عام 1920 في بغداد باسم “عوفاديا عوفاديا”، وأصبح مع الوقت الزعيم الديني دون منازع لجميع يهود الشرق في إسرائيل. وضع الحاخام، الذي اعتُبر معجزة دينيّة منذ طفولته، أولى مؤلفاته الدينية في التاسعة من عُمره. يتذكّره كثيرون في إسرائيل بسبب إجازته الفقهيّة لعمليّة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكن أيضًا بسبب زلّات لسانه العديدة. فقد قال مثلًا عن أريئيل شارون: “ليُنزل عليه الله – تبارك وتعالى – ضربةً لا يقومُ منها”، ووصف رئيس الحكومة نتنياهو بأنه “عنزة عمياء”.
  • بنيامين “فؤاد” بن إليعيزر – الطفل الصغير من البَصرة الذي أمسى قائدًا عسكريًّا بارزًا في إسرائيل، وبعد ذلك سياسيًّا شغل عددًا كبيرًا من المناصب الوزارية، وكان صديقًا مقرَّبًا من الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك. فبعد أن كان وزير الإسكان في حكومة رابين، وزير الدفاع في حكومة شارون، ووزير الصناعة في حكومتَي أولمرت ونتنياهو، تتجه أنظار “فؤاد” الآن إلى المقام الأرفع، إذ يسعى إلى أن يكون أوّل رئيس عراقي لدولة إسرائيل.
  • دودو طاسا – حفيد داود الكويتي الذي أضحى هو نفسه موسيقيًّا كبيرا ورياديًّا في إسرائيل. يدمج تاسا بين الأسلوب الغربي وبين الموسيقى العراقية التقليدية، ويُذكَر بشكل خاصّ أداؤه لأغنية فوق النخل‏‎ ‎‏، التي اشتُهرت بأداء جدّه.‎ قادت الأغنية إلى ألبوم يعزف فيه تاسا أغاني الكويتيَّين (داود وصالح).
  • إيلي عمير الأديب الذي جسّد أفضل من أيّ شخص آخر مشاعر القادِمين من العراق. عبّر كتابه “ديك الفِداء”، الذي كتبه على مدى 13 عامًا، بشكل دقيقٍ عن مصاعب شابّ ذي أصل عراقي يستصعب الوصل بين عالم والدَيه الماضي وبين عالَم رجال الكيبوتز ذوي الأصول الأوروبية، الذي أراد الاندماج فيه. بقيت لغته الأم عربية، وهو حزين للإكراه الثقافي الإسرائيلي، الذي ألزمه بمحو ماضيه. مع السنوات، أضحى عمير ناشطًا في حزب العمل الإسرائيلي.
  • إيلي يتسفان – كبير الكوميديين الإسرائيليين هو في الواقع من أصل عراقيّ. فرغم أنه وُلد في إسرائيل، والداه كلاهما عراقيّان. سمع يتسفان، أصغر خمسة أبناء، العربية العراقية تصدح في بيته، وأصبح مقلّدًا موهوبًا قادرًا على تمثيل شخصية أيّ إنسان، ولا سيّما شخصيات من العالم العربي. كاد تقليده للرئيس المصري محمد حسني مبارك (الذي أعطى مبارك لهجة مختلطة – مصريّة وعراقيّة) يقود إلى أزمة في العلاقات الإسرائيلية – المصريّة.

شاهدوا إيلي يتسفان العراقي يقلّد حسني مبارك:

اقرأوا المزيد: 1338 كلمة
عرض أقل