في كل مرة يُكتشف نفق آخر من بين أنفاق الهجوم التي بنتها حماس في السنوات الأخيرة، يمكن أخذ انطباع من الجهد المستثمر في بنائها، وذلك حتى من قبل أن نعرف عن أنفاق الإدارة والسيطرة التي تمتلكها حماس من تحت غزة. أحد الأسئلة المقلقة هي من أين حصل رجال الذراع العسكرية لحماس على الإسمنت لبناء جدران الأنفاق، وذلك في ظل ظروف الحصار والنقص في الإسمنت والمواد عامة.
يبدو أن حماس أقامت لأجل ذلك آلية ضخمة كل هدفها أن تدخل ما أمكنها من إسمنت للقطاع، ومن الحديد ومواد البناء وباقي المواد المطلوبة لعملها تحت الأرض.
ظاهريًّا، عانى السكان في القطاع من نقص في نفس المواد كلها، وخاصة مواد البناء، لكن كما يتجلى يومًا بعد يوم منذ أن بدأت عملية “الجرف الصامد”، لم تعانِ الذراع العسكرية لحماس من نقص في العتاد أو الأموال وقد استعدت للمعركة جيدًا.
يبدو أن قسمًا من الإسمنت الذي سمحت إسرائيل في إدخاله للقطاع لدواعٍ إنسانية (مثلا بعد الفيضانات آخرَ 2013) قد صَبّ في النهاية بين يدي حماس. لكن، هذا ليس المصدر الوحيد، وكانت للحركة مصادر أخرى من الإسمنت.
أجرى الملحق الاقتصادي (كلكليست) لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، الصحيفة الإسرائيلية الأكثر قراءة، استطلاعات حول مصادر الإسمنت المعروفة منذ سنوات عديدة، وحاول الحصول على إجابة كيف نجحت وحدة الأنفاق لحماس في حصولها على الإسمنت الذي يعد بضاعة مطلوبة ونادرة في القطاع، بسبب الظروف التي تخيّم عليه.
إدخال مواد البناء والإسمنت الى القطاع عبر معبر رفح (AFP)
حسب الدلائل التي نشرت في الصحيفة فإن قسطًا وفيرًا من الإسمنت الفاخر، مخبّأ في أنفاق التهريب في غزة. لقد ازدهر قطاع التهريب عبر الأنفاق في رفح خلال السنوات، لكن لا شك أن ذروة النشاط كان سنة حكم الإخوان المسلمين في مصر (تموز 2012 حتى حزيران 2013). في نفس الفترة، تسربت لوسائل الإعلام العربية معطيات لافتة عما يحدث هنالك.
حسبما يقول مهربون في نفس الفترة، في كل يوم هُرّب 3000-4000 طن من الإسمنت، الحديد وحجارة البناء. كانت حماس تعبئ جيوبها بـ 75 شاقلا من كل طن أدخل للقطاع عبر الأنفاق، ولذلك كان من مصلحتها أن تُدخل أكبر كمية من الإسمنت.
كانت أسعار الإسمنت ولا تزال مرتفعة في القطاع على طول السنين الأخيرة، بل وصل السعر الرسمي لطن من الإسمنت إلى 520 شاقلا. للمقارنة، يتراوح ثمن طن الإسمنت في إسرائيل حول 320 شاقلا. في السوق الغزية السوداء، وصل سعر طن الإسمنت إلى 1200 شاقل. وأما السوق السوداء فقد كان رجال حماس يديرونها.
كان مصدر الإسمنت المهرب “الفائق الجودة” من تركيا. حسب المهربين، كانت تصل شاحنات الإسمنت إلى ميناء العريش المصري، وكان يخزّن هناك. ومن هناك كان يهرب عبر الأنفاق إلى القطاع.
منذ 2011 بدأت تصل شكاوى أكثر فأكثر من مواطنين في القطاع عن جودة الإسمنت الذي يصل من الأنفاق. أعربت مقالات كثيرة، خُصصت عن الموضوع، في الصحافة الفلسطينية عن تخوّف بعض الغزيين من أن تنهار بيوتهم بسبب جودة الإسمنت المنخفضة.
الإسمنت الرخيص إلى البيوت في القطاع وأمّا الأسمنت الجيد فاستخدمته حماس للأنفاق (AFP)
تبيّن أن المقربين من حماس أصحاب الأنفاق استخدموا عدة طرق لرشوة عامة الزبائن في غزة: مثلا، أدخل إسمنت غير معروف مصدره (يبدو أنه من إنتاج مصري) إلى أكياس إسمنت من شركة ذات ماركة معروفة بجودتها العالية، أو أن أكياس الإسمنت مجهولة المصدر حظيت “بترقية” عبر إرفاق تفاصيل كاذبة على الغلاف حول الجودة. وصل الإسمنت الأجود من تركيا إلى رجال حماس الذين كانوا مشغولين كلّ تلك الفترة ببناء غزة السُفلى.
ولقد أقلق موضوع الإسمنت المغشوش الكثيرين في القطاع. لقد قصّ بعضهم للصحافة أنهم قد توقفوا عن بناء البيوت تخوفًا من انهيار البيوت مع الزمن بسبب الإسمنت الضعيف.
يتم حفر الأنفاق غالبًا تحت الأرض ببضعة أمتار وعلى شكل مناوبات (Flash90/Abed Rahim Khatib)
يدعي أسامة كحيل، رئيس رابطة المقاولين في القطاع، أنه قدّم في الماضي طلبًا رسميًّا إلى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) كي تموّل اقتناء أجهزة لفحص جودة الإسمنت الذي استُعمل في غزة، وذلك على ضوء كثرة الشكاوى والمخاوف. ولكن، لم يُستجب للطلب.
وطُرح السؤال إن كانت قطر وحماس قد خدعتا إسرائيل ومصر في موضوع الإسمنت ؟ قبل سنتين، صادقت إسرائيل لقطر على تمويل مشاريع لترميم القطاع بمبلغ قدره 400 مليون دولار. حسب الاتفاق، من أجل تنفيذ المشروع القطري، أُدخِل لغزة بصورة منظمة ومكشوفة عبر معبر رفح الإسمنت “عسكري”، لأن الجيش المصري نقله من أحد مخازن شركات المقاولة الكبيرة في مصر.
حسب شهادة الصحفيين الغزّيين، في اللحظة التي دخل فيها لقطاع غزة أصبح الإسمنت ملكًا حصريًّا لرجال حماس. جُمعت كل حمولة الإسمنت في مكان واحد، وتم تأمينها من مسلحي حماس وكان نشطاء الحركة مسؤولين عن توزيعها. لم يهتمّ القطريون كثيرًا إلى أين يذهب الإسمنت، وكذلك الأمر بالنسبة لباقي مواد البناء التي موّلوها.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني