في العصر الحديث، تنجح النساء في الوصول إلى أماكن لم يصلن إليها من قبل، وبفضل الوعي الآخذ بالازدياد فقد تولّت نساءٌ مناصب رفيعة في كل مجالات العمل. مع ذلك، ما زال مجال الجيش مجالا يصعب فيه بشكل طبيعي وتقليدي على النساء التفوّق والتقدم فيه. لكن، تجسّد قصة أورنا بربيباي أن النساء في المؤسسة العسكرية يستطعن قطعًا الوصول بعيدًا.
اللواء أورنا بربيباي (51 سنة)، رئيسة فرع القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي، ستُسرّح قريبّا من الجيش، وسيكون اسمها منقوشًا للأبد بصفتها المرأة التي تخطت كل الحواجز القائمة، كسرت الأنماط وخُلّدت في تاريخ دولة إسرائيل. تولت بربيباي خمس وظائف متنوعة لم تتولها امرأة من قبل، وفي سنة 2011 ، كانت المرأة الأولى في تاريخ الجيش بدرجة لواء.
من طفولة صعبة وحتى إقامة عائلة
ترعرعت أورنا بربيباي في عائلة فقيرة في مدينة العفولة في شمالي إسرائيل، وكانت البنت الكبرى من بين سبعة أولاد. لم تكن طفولتها سهلة، ومنذ جيل صغير ساعدت على إعانة عائلتها، حينما دأبت على شطف أرضية جارة عمياء وأعطت لأهلها المال الذي ربحته.
شقّت بربيباي سبيلها في الجيش بعمر 19 سنة، وأصبحت أمًا في عمر 22. خدمت في عدة وظائف مختلفة في سلاح تابع للقوى البشرية، وتقدمت مع الوقت في وظائف ودرجات ضابطية، حيث كانت كلّ الوقت محاطة بالرجال. قالت بربيباي بعد ذلك بزمن إنها تعتقد إن الخدمة الطويلة في بيئة رجّالية أثرت تأثيرًا بارزًا على شخصيتها.
ما يثير الاهتمام لدى بربيباي ليس خدمتها في الجيش، بل تصميمها على المضي قُدمًا. إن قانون التجنيد في إسرائيل هو إجباري للنساء أيضًا، لكن رغم ذلك فانخراط النساء في الجيش ليس سهلا. تدأب حركات نسَوية كثيرة على الادعاء أنه كي تستطيع مجنّدة الاندماج جيدًا في الجيش، عليها أن تتخلى عن صفاتها النسائية، وأن تتخذ لنفسها أساليب تصرف “رجالية”.
يستمر التجنيد الإجباري للنساء في إسرائيل سنتين، وهذه مدة يمكن تجاوزها بنجاح. إلى جانب ذلك، تعاني النساء اللواتي تخترن البقاء في الجيش فيما بعد ذلك، من صعوبات جمّة. فالحديث عن نساء في سنوات العشرين، ومن الطبيعي أن يفكّرن في إنشاء عائلة وتربية الأولاد.
تتعارض الحاجة والاهتمام بالعائلة مع نمط حياة جندي في الجيش الثابت، الذي يصل في أغلب أيام الأسبوع إلى بيته في ساعات متأخرة، أو ينامُ في المعسكر. ثمة عائلات كثيرة يخدم الأب في الجيش وتعاني من غيابه الطويل عن البيت، إذ تضطر الأم إلى تربية الأبناء وحدها تقريبًا. لذلك، تشكل الخدمة العسكرية الثابتة للنساء، اللواتي ينشغلن كثيرًا في تربية الأولاد، مهمة صعبة، إن لم تكن مستحيلة.
التقدم المهني، إلى جانب تربية الأولاد
تحدثت بربيباي في المقابلة التي أجرتها مع المجلة الإسرائيلية “ليدي جلوبس” مع اقتراب تسرّحها القريب من الجيش، عن الصعوبة الكبيرة التي رافقت خدمتها. في حين أن خلال سنواتها العسكرية الأولى، كانت قادرة على أن تكون قريبة من ابنتيها، ومع مرور السنوات أصبحت الوظائف التي تولتها ذات متطلبات أكثر فأكثر، فمن الطبيعي أن يقل الوقت الذي تقضيه من عائلتها.
حين كانت بربيباي في عمر 43، كانت الضابطةَ الأولى في سلاح تابع للقوى البشرية وكانت أمًا أيضًا، وحينها حمَلت مرة أخرى. تقول بربيباي إنها واجهت أزمة كبيرة جعلتها تعيد التفكير مرة تلو الأخرى في اتجاه حياتها الذي ستتخذه. “كانت الأفكار صعبة. ربما كان يجدر بي أن أبقى في البيت وأربي طفلي؟”.
عرفت بربيباي أن الوظيفة التي تمسكت بها كانت وظيفة تتطلب الكثير، ضاغطة وصعبة، وتحتاج إلى جاهزية على مدار الساعة، سبعة أيام في الأسبوع، وتُلزمها في إدراج عائلتها في مكانة ثانوية. في النهاية، قالت بربيباي إن الأزمة قد حُلت بفضل زوجها، الذي ترك الجيش وربى بنفسه الطفل الذي وُلد.
منذ هذه اللحظة، لم تلتفت بربيباي إلى الخلف أبدًا. استمرت في التقدم في الدرجات العسكرية، وبدءًا من سنة 2003، تولت عدة وظائف لم تتولها امرأة قطّ: كانت الضابطة الأولى في سلاح تابع للقوى البشرية في الجيش، ضابطة سلاح الجو الأولى في الجيش، ورئيسة قسم القوى البشرية في الجيش وفي سلسلة أخرى من الوظائف الأُولى التي مهّدت السبيل.
تعرّف الجمهور الإسرائيلي عليها في تموز 2011، عندما كانت المرأة الأولى بدرجة لواء في الجيش حين عُيّنت رئيسة قسم القوى البشرية في الجيش كله، وهو الجهة المنسّقة والمخططة لتعيين القوى العاملة وتحركات الجيش، بمنصب المسؤولة عن ظروف الخدمات الخاصة للجنود وعدة وظائف أخرى.
مصدر إلهام
الآن، بعد ثلاث سنوات من تعيينها، ستخلي بربيباي مكانها وستسرّح من الجيش، وستقوم بهذا وهي ما زالت ترغب في تولي المنصب لفترة أخرى. مع تلخيص خدماتها، فتحت بربيباي قلبها وتحدثت عن حبها للجيش، الذي دفعها للبقاء في المؤسسة العسكرية. فيشكل الجيش إطارًا لفتيان كثيرين، ورأت بربيباي بذلك رسالة، وتولت مناصبها الكثيرة بإخلاص لا يتناهى للجنود، التي رأتهم كفتيان.
حين تسنح لها الفرصة للحديث عن العائلة، فإنها تذكر بفخر أن إنجازها الأكبر خلال الخدمة العسكرية هو الحفاظ على عائلتها رغم الصعوبات والالتزامات الكبرى للخدمة العسكرية. وأيضًا، تمضي بربيباي وتشعر بالخسارة، لأنها لم ترافق ابنها الثالث في نشأته، وكلها أمل في أن تحظى بتمضية وقت ذي جودة أكبر برفقته الآن.
الآن، تستصعب بربيباي أن تنظر إلى الأمام لتقرر إلى أين ستمضي، لكن ما زالت حياة طويلة تنتظرها. إنها تبدي رغبتها في الاشتغال بمجالات تشمل أعمالا اجتماعية ومد يد العون للفئات التي تحتاجها، وذلك من منطلق الإحساس بالإخلاص الذي تشعر به تجاه المجتمع الإسرائيلي.
يبعث نجاح بربيباي وتقدمها الكبير في الجيش لدى نساء كثيرات إلهامًا، ويوضح أن في دولة إسرائيل كل الأبواب مشرعة وكل الوظائف ممكنة وسهلة الوصول. وتمنح قصة بربيباي أملا لأناس كثيرين وتعلمهم أنه لا شيء يقف أمام الإرادة، وإن نجحت امرأة في الوصول لدرجة ووظيفة عالية بهذا المستوى في مؤسسة صعبة مثل الجيش، إذًا كل شيء ممكن.