يوجد نحو 2000 غجري يعيشون اليوم في إسرائيل ويسكنون في أحياء القدس الشرقية. إنهم يضطرون إلى مواجهة ظروف حياتية قاسية وعزل من قبل المؤسسة الإسرائيلية وجيرانهم العرب. أمون سليم، وهي امرأة غجرية تثير الإعجاب، قررت أن تُخرج أبناء الطائفة من دوائر الفقر وأن تمنحهم الأمل. على الرغم من الثمن الاجتماعي والعائلي الباهظ الذي تدفعه، إلا أنها مصرة على عدم الاستسلام.
وقت الظهيرة الحار في شوارع حي شعفاط في القدس الشرقية. توقفنا أنا والمصوّر الذي يرافقني في كل دكان نصادفه في الشارع الرئيسي لنسأل أين يقع مقر “جمعية دوماري لدفع المجتمع الغجري قدمًا”. ولسبب ما لم نحصل على إجابات واضحة. حتى أن كثيرين كانوا ينظرون إلينا باستغراب. بين الحين والآخر، أقوم أنا بالاتصال بأمون سليم، وهي المرأة الغجرية التي أنوي لقاءها والتي تترأس الجمعية. آخذتُ أبحر في خيالي إلى الأفلام التي لعب فيها ممثلون كثيرون أدوار الغجر. قمصان مليئة بالخرز بشكل مبالغ به، تنانير ملونة، حلي من الفضة تزين أيدي النساء، خواتم كبيرة وفيها أحجار كريمة كبيرة وجميلة بتشكيلة من الألوان. بعد نحو ساعة من البحث في الشارع الرئيسي في شعفاط (لا توجد عناوين لمعظم شوارع الحي)، نجحت في الوصول إلى المركز المرتب الذي أقامته أمون قبل 14 سنة بهدف دفع مكانة الغجر قدمًا في المدينة المقدسة.
غجرية غير عادية
بطبيعة الحال، أمون سليم لا تشبه أبدا الشخصية الغجرية النموذجية التي كنت أفكر بها. وقفت أمامي امرأة جميلة وأنيقة تلبس قميصا أسود وتنورة طويلة، سمة وجهها الجدية لا تبقي مكانًا للشك. يجري الحديث عن امرأة ذات قوى نفسية هائلة، أخذت على عاتقها مهمة كبيرة وهي تعزيز مكانة المجتمع المحلي الغجري الصغير الذي يسكن اليوم بالأساس في أحياء القدس الشرقية، في العيزرية، عنتا وراس العمود، بظروف فقر مخجل وانعدام التعليم.
تروي أمون لي بجديتها التي تميّزها أن “بداية المجتمع الغجري في القدس كانت في أيام البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي الذي وصل إلى القدس في القرن الثاني عشر الميلادي لاحتلال المدينة من أيدي الصليبيين”. حسب تقاليد أبناء الطائفة، صلاح الدين هو الذي منحهم الاسم الرائج باللغة العربية “النوّار” – وأصلها من كلمة نور. وتروي التقاليد أنه مع مرور السنوات تم تحريف القصد الأصلي من الاسم وتحول إلى كلمة مخزية وهي “النوار” – وأصلها الأوساخ.
يعتقد معظم الباحثين أن الغجر كانوا في الأصل مجموعة من الرُحّل، كانوا قد انتقلوا في العصور الوسطى من الهند وتوزّعوا: جزء منهم وصل إلى أوروبا وجزء إلى الشرق الأوسط. تقطن المجموعة المقدسية في المدينة منذ مئات السنين. عملوا هنا في الأعمال التي يتميز بها الغجر عامةً – التنجيم، الترفيه، الرقص، وترويض الدببة، إضافة إلى أعمال أقل ارتباطا بهم كتربية الغنم والزراعة. خلال الحكم البريطاني، بدأ الغجر باعتزال حياة التنقل، واستقروا في البلدة القديمة وتركوا أعمالهم التقليدية تدريجيا.
يعدّ المجتمع الغجري في القدس الشرقية اليوم نحو 150 عائلة، أي قرابة 2000 شخص يسكن معظمهم في البلدة القديمة. فقدت المجموعة كثيرا من مميزاتها الحضارية، ومن الصعب اليوم التمييز بين الغجر وجيرانهم الفلسطينيين. حسب تقدير سليم: “نحو 200 بالغ فقط يتحدثون بلغة الغجر، لغة الدوم، فيما بينهم. أفهم اللغة قليلا، لكن الجيل الجديد لا يفهمها. كما أنّ معرفة الناس للموسيقى واللباس التقليديين أقل من ذلك”.
بخلاف ما هو متعارف عليه في هذا المجتمع المغلق على نفسه، قررت سليم أن تتحكم في حياتها، حيث رفضت في سن مبكرة جمع التبرعات كما فعلت الكثيرات من بنات جيلها، وبدأت ببيع المشروبات في شرق المدينة للسياح الذين تراكموا في الأماكن المقدسة. بعد ذلك، تروي: “ذهبتُ لدراسة مهنة، وتعلمتُ إدارة الأعمال في كلية الإبراهيمية شرق المدينة، ودرستُ عددا من المساقات في مجال السياحة. لم يكن ذلك مقبولا ألبتة في المجتمع. رفضتُ الخضوع للإملاءات التقليدية، حيث ربّاني أبي كأميرة، رغم الفقر”. لا تزال سليم، شأنها شأن شقيقتَيها، غير متزوجة، وترفض بشدة الخضوع للإملاءات والزواج برجل من مجتمعها لا يستطيع إعالتها. من المتعارف عليه في المجتمع الغجري المقدسي، الذي يُسمى أيضا بالمجتمع الدومري، الزواج ضمن المجتمع المحلي، ما يؤدي أحيانا إلى عيوب وراثية في الجيل الصاعد. ليس هناك الكثير من الزواج المختلط مع المجتمع العربي الفلسطيني، جيرانهم الذين ينظرون إليهم نظرة أصحاب مكانة أدنى منهم.
المركز الذي أقامته سليم، دون أي دعم خارجي أو تمويل حكومي، وهي لا تزال في السابعة عشرة من العمر، هو الأول في الشرق الأوسط الذي يهدف إلى مساعدة الأقلية من المجموعة السكانية . تساعد الجمعية الأولاد على دخول أطر تعليمية، وكذلك في تحضير الدروس البيتية، حيث إن عددا كبيرا من والديهم لا يجيدون القراءة والكتابة. يتيح المركز للنساء أيضا استغلال مهاراتهنّ في الخياطة، الحياكة، وصنع المجوهرات، ويمكنهنّ من إنتاج العديد من القطع الفنية، التي تُعرض للبيع في المركز: أقمشة، ثياب أطفال، مجوهرات، مخدات، وصور ذات إطار أنيق وفقا للتقليد الغجري على مختلف ألوانه.
مكانة المجتمع المحلي- سيف حاد
تدرك سليم أن المميزات الحضارية الغجرية آخذة في الاختفاء، وتدرك أيضا أنّ جماعتها الضعيفة والمستضعفة هي في صراع صعب لهوية منقسمة. “نحن جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، ومعظمنا مسلمون. لكن الجماعة ممزقة بين الرغبة في الاندماج ضمن البيئة الحضارية الفلسطينية وبين الرغبة في الحفاظ على تميّزها الإثني والحضاري”.
في بحث مثير للاهتمام نشرته مؤخرا الباحثة نوغه بوبر بن- دافيد، من قسم علم الاجتماع في الجامعة العبرية في القدس، تبين أنّ الغجر في القدس لديهم مكانة منخفضة جدا، ويعانون من نظرة عنصرية ومرتابة من قبل جيرانهم الفلسطينيين. يظهر الفقر وصعوبات الحياة في الدراسة أيضا. تروي سليم أنها وُلدت في الحي الإسلامي شرق المدينة، وأنها عاشت في بيت واحد مع شقيقتَيها وأشقائها الخمسة في بيت مكوّن من غرفتَين: “يعاني الجميع تقريبا من وضع اقتصادي صعب. يعتاش معظم الغجر اليوم على مخصصات التأمين الوطني، جمع الصدقات، وفي أحسن الأحوال من أعمال التنظيف”.
من جهة أخرى، تتنكر دولة إسرائيل أيضا لهم، ولا تنظر إليهم نظرة مجتمع منفرد لديه احتياجات خاصة يجدر الاعتناء بها، ومنحه رعاية مكثفة. رغم أنهم يتقاضون المال من مؤسسة التأمين الوطني، فإنهم لا يعتبرون مواطنين، شأنهم شأن معظم سكان القدس الشرقية. تخبر بوبر بن- دافيد أن عددا من المشاريع أقيم مؤخرا بتشجيع من قيادات المجتمع المحلي، من بينهم المختار الذي لا يحبّذ عمل سليم التخريبي حسب رأيه، وبالاشتراك مع مؤسسات بلدية وحكومية لتشجيع التربية بين الشبان، ولإعادتهم إلى الأطر التعليمية.
تفضّل سليم معالجة مشاكل الغجر عبر جمعية، وليس عبر التعاون مع السلطات، وهي تعاني من نقد لاذع من مختار المجتمع المحلي. في السنتَين الأخيرتَين، تحاول بلدية القدس معالجة مشاكل جماعة الغجر، حيث تدّعي البلدية أنها تعالج المشاكل عبر نسج علاقات بين سلطات الرفاه والعائلات الغجرية. وقد عُيّنت عاملة اجتماعية خاصة للاعتناء بالمجتمع المحلي الغجري. تدعي سليم أن التغييرات ليست ملموسة فعلا على أرض الواقع: “ثمة حاجة إلى مساعدة ذات معنى أكثر لحل مشاكل الجماعة”، لكنها تأمل أن تستمر مبادرتها في العمل والنمو لغرس الوعي لدى أفراد المجتمع المحلي، ولا سيما لدى النساء والأولاد بينهم، لأنّ الاستناد على المساعدة الخارجية فقط لن يؤدي إلى أي تغيير منشود، ولأن المجتمع المحلي لن يتمكن من الصمود دون تربية”.