السبت، في فترة ما بعد ساعات الظهر الباكرة، وصلت مع بعض الأصدقاء من يافا باتجاه حاجز الدخول إلى مدينة طولكرم الفلسطينية. كانت لدى الدخول إلى حاجز “تيئنيم”، حركة المرور خفيفة في اتجاه واحد. تزحف السيارات الإسرائيلية بعيدا باتجاه معابر طولكرم.
فقد اعتاد مواطنو إسرائيل العرب على الذهاب في نهاية كلّ أسبوع إلى المدن الفلسطينية لشراء المواد الغذائية، الحلويات للمناسبات السعيدة، الأثاث، الملابس والأحذية، بل يأتون أحيانا من أجل تلقّي خدمات طبّ الأسنان في عيادات أطبّاء الأسنان الفلسطينيين، وهو مجال تطوّر كثيرا في السنوات الخمس الأخيرة. والسبب واحد وواضح، وهو أنّ جميع هذه الخدمات أرخص في مدن الضفة، وغالبا ما يكون انتقال البضائع والناس، بين المدن الإسرائيلية (الطيبة، الطيرة، يافا، حيفا إلخ) إلى المدن الفلسطينية (قلقيلية، طولكرم، نابلس ورام الله) سلسًا.
أسواق طولكرم (Amer Dacca)
كشخص يزور المدن الفلسطينية كثيرا فلا يزال هناك نوع من الشعور بالانفصال، وكأنّه سور افتراضي يفصل بين الوسط الإسرائيلي والوسط الفلسطيني، من النوع الذي لم ينجح أي جانب في اختراقه.
في بداية هذا العام (2015)، أعلن رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، عن عدّة إجراءات اقتصادية أحادية الجانب لمقاطعة المنتَجات القادمة من إسرائيل. وقد جاءت هذه الإجراءات كجزء من نشاط الحكومة الفلسطينية في الساحة الدولية لإعاقة تحرّكات إسرائيل. ردّا على ذلك، وبعد توجّه عباس بطلب الانضمام إلى المحكمة الدولية في لاهاي، قرّرت إسرائيل تجميد تحويل أموال الضرائب (التي تجبيها إسرائيل لحساب السلطة الفلسطينية) إلى السلطة الفلسطينية وذلك رغم خشية إسرائيل من أن يضرّ هذا الأمر باستقرار السلطة. وكردّ على ذلك قرّر الفلسطينيون مقاطعة 6 شركات أغذية إسرائيلية (من بينها: تنوفا، عيليت، أوسم وشتراوس).
منتجات الألبان من صناعة شركة تنوفا الإسرائيلية في سوبر ماركت كبير في طولكرم (Amer Dacca)
اعتمد قادة حركة BDS، الرائدة في حملة فرض المقاطعة الدولية على إسرائيل، بسرور القرار الفلسطيني في مقاطعة الشركات الإسرائيلية العاملة في حدود الخطّ الأخضر أيضًا. بل أعرب قسم منهم عن رضاهم عن الاختيار المتكرر لبنيامين نتنياهو، لرئاسة الحكومة الإسرائيلية (في انتخابات آذار 2015)، زعما أنّه هكذا “يظهر وجه إسرائيل الحقيقي”. تُستخدم BDS اليوم كمظلّة تتجمّع تحتها هيئات ومنظّمات معادية لإسرائيل تنشط في الغرب وتطمح إلى رسم صورة إسرائيل كدولة أبارتهايد.
يمكن غالبا أن نسمع من قادة الحركة، أنهم يوفّرون المنصّة الأوسع للاحتجاجات الاجتماعية في الضفة الغربية وغزة. ولكن إذا فحصنا القضية، فيبدو أن الفلسطينيين، في معظمهم، غير مبالين بالفكرة الرئيسية لمقاطعة إسرائيل.
“نريد كسب العيش بكرامة”
شوارع طولكرم تعج بالباعة الفلسطينيين والمستهلكين العرب من سكان إسرائيل (Amer Dacca)
“الحياة معقّدة أكثر من التصريحات السياسية”، كما قال لي أحد الباعة في أحد متاجر المستحضرات التجيملية الرئيسية في المدينة، قرب ما كان يوما ما السوق الرئيسي في طولكرم، الذي انتقل في الوقت الراهن إلى مقرّه الجديد في الساحة العامّة لمبنى بلدية طولكرم.
“كانت فترة طُلب منّا من قبل مفتّشي السلطة الفلسطينية أن نزيل منتَجات قادمة من المصانع الإسرائيلية. أخذنا مهلة من الوقت، أسبوعين، من أجل القضاء على المخزونات: الصابون، مستحضَرات العناية بالبشرة، مستحضَرات التجميل، مستلزمات النظافة وغيرها… قمنا بذلك. لم يكن لدينا مناصّ”.
مستحضرات تجميلية من صنع إسرائيل في أحد متاجر طولكرم (Amer Dacca)
طلب أحمد (اسم مستعار) عدم الكشف عن اسمه الحقيقي، وقال لنا في محادثة حميمية مع تعابير وجه قاسية “ليس الإسرائيليين ولا الفلسطينيين يدعوننا نعيش ونكسب رزقنا بكرامة. تُثقل السلطة والسلطات في إسرائيل على المواطنين الفلسطينيين مع المقاطعات الاقتصادية وتجميد الضرائب. اضطررنا إلى البيع بخسارة منتَجات اشتريناها من إسرائيل. وصلنا إلى حالة بعنا فيها حتى لتجار إسرائيليين منتَجات اشتريناها في إسرائيل، بأسعار التكلفة فقط من أجل التخلّص من المخزونات وحتى لا نكون معرّضين للمطالبات والغرامات من قبل السلطة”.
وجبات خفيفة ومسليات من صناعة شركة أوسم الإسرائيلية (Amer Dacca)
رحّب بنا صاحب المكان عند دخولنا إلى متجر ملابس رياضية في شارع جمال عبد الناصر المزدحم. وقد طلب هو أيضًا عدم الكشف عن اسمه الحقيقي. كان المتجر مليئا بالملابس الرياضية العصرية لأفضل الشركات الرياضية العالمية، Nike و Adidas.
وإجابة على سؤالي إذا ما كان معتادا على استيراد بضاعته من إسرائيل، نظر علي (اسم مستعار) إليّ بتعابير جادّة وكأنّه لا يصدّق إطلاقا بأنّني يمكن أن أسأله سؤالا كهذا. “كلا إطلاقًا. نحن نستورد بضاعتنا من تركيا والأردن ولدي القليل من البضائع التي تنتجها الصناعة الفلسطينية بصناعة محلّية ورخيصة بالنسبة للمنافسين الإسرائيليين”.
“هذا التفاح من البلدات الزراعية في الجولان”
“هذا التفاح من البلدات الزراعية في الجولان” (Amer Dacca)
أكملنا التجوّل في أنحاء المدينة المزدحمة والمغبّرة. ذهبنا عند الغداء إلى أحد المطاعم التي تقدّم وجبات سريعة، “Shawarma Express”. كانت وجبة الغداء رخيصة بشكل رهيب. كانت طاولتنا ممتلئة بكل الطيّبات: السلطة، الخبز، واللحم الطازج. بعض المشروبات التي طلبناها تمّ استيرادها من إسرائيل، وكان بالإمكان رؤية ذلك بوضوح على اللاصقات. كان واضحا أنّ قواعد المقاطعة الصارمة، تعرف غالبا كيف تفلت المصالح التجارية من يديها.
واصلنا التجوّل في المدينة مع معدة مليئة. في كلّ متجر أو بسطة توجّهنا إليهما، أصررت على السؤال إذا ما كانت هناك منتَجات مستوردة من إسرائيل. في بعض الأماكن حصلت على إجابة قاطعة وسلبية: “نحن ننتج أدوات الكتابة في المدن الفلسطينية ولا نستورد من إسرائيل. ونحن أيضًا نعتمد أكثر فأكثر على الاستيراد من تركيا”.
مطعم شوارما أكسبرس (Amer Dacca)
كان هناك أيضًا من لم يخجل بأن يقول لنا الحقيقة “هذا التفاح تمّ استيراده من البلدات الزراعية في الجولان. هناك مخصّصات سنوية لكل مدينة فلسطينية للتفاح القادم من الجولان”، كما قال لي أحد الباعة في السوق الرئيسي المجاور لمبنى البلدية في طولكرم، حيث ترفرف في الخلفية لافتة ضخمة تدعو إلى إطلاق سراح مروان البرغوثي، الذي يمكث في السجون الإسرائيلية منذ أكثر من 13 عامًا.
كان يمكن أن نرى في سوبر ماركت رئيسي في ميدان شويكة رفوفًا مليئة بالمنتَجات المصنّعة محلّيّا، في الأردن وحتى في إسرائيل من شركات مثل تنوفا، عيليت أو أوسم. وجد التجّار الفلسطينيّون في السنوات الأخيرة ما لا يُحصى من الطرق من أجل تجاوز الصعوبات الاقتصادية التي تراكِمها عليهم إسرائيل أو السلطة الفلسطينية على حدِّ سواء، ولذلك فقد طوّروا علاقاتهم التجارية الواسعة مع دول مثل تركيا والأردن.
كان شعار معظم التجّار وأصحاب المصالح التجارية الصغيرة الذين تحدّثت معهم قاطعًا وصريحًا: “البراغماتية هو اسم اللعبة. التصريحات على حدة، والسوق على حدة”.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني