قصة سفينة ألتالينا هي إحدى الأحداث المؤلمة في التاريخ الإسرائيلي. كانت هذه هي المرة التي كان فيها المجتمع الإسرائيلي في أقرب نقطة إلى الحرب الأهلية، والفوضى. خلال الصراع الدموي على البلاد سنة 1948 بين الإسرائيليين والفلسطينيين وباقي الدول العربية، كانت هذه نقطة رفع فيها الإسرائيليون السلاح أحدهما في وجه الآخر.
في ذروة الخلاف كانت ترسو سفينة سلاح، أحضرها تنظيم “الإيتسيل” إلى البلاد من فرنسا، كجزء من الحرب التي جابت البلاد. لم يكن تنظيم الإيتسيل، بقيادة مناحم بيجن، جزءا رئيسيا من القيادة الإسرائيلية في نفس الوقت، واعتُبر شريكا ثانويا لتنظيم “الهاغاناه” الذي قاده دافيد بن غوريون.
لقد رفض بن غوريون طريقة بيجن القومية، واعتبره إنسانا فاشيا
لقد كان بيجن وبن غوريون كل الوقت خصمان فكريا، وتمسكا بآراء متناقضة عن الطريقة التي ينبغي بها إدارة النضال الصهيوني للاستقلال. لقد رفض بن غوريون، الذي كان اشتراكيا، طريقة بيجن القومية، واعتبره إنسانا فاشيا. لقد قارن بن غوريون في يومياته ورسائله بين بيجن وهتلر أكثر من مرة.
في صيف، 1947، في وقت الصراع العسكري والدبلوماسي بين إسرائيل والعرب الذي كان في ذروته، حصل رجال الإيتسيل على السفينة بهدف تحميل مئات اليهود فيها، من بينهم ناجو الهولوكوست، من فرنسا إلى إسرائيل. حُمّلت السفينة كذلك بالمعدّات العسكرية الثقيلة: 5,000 بندقية، 450 مدفعا رشاشًا، 5 مركبات مصفحة، آلاف القنابل الملقاة من الطائرات وحوالي 4 ملايين رصاصة.
لقد ظن بن غوريون في ذلك الوقت أنه لا يجوز بأي حال السماح بتوزيع سلاح اليهود في نطاق تنظيمات غير منضبطة
بسبب عدة عوائق، وصلت السفينة مقابل شواطئ إسرائيل فقط في حزيران 1948، بعد أن كانت إقامة دولة إسرائيل قد تمت بأكملها. في بداية نفس الشهر، أوعز بن غوريون، الذي كان إذاك رئيس حكومة، بتفكيك كل التنظيمات العسكرية لدمجها في إطار الجيش الإسرائيلي الجديد. خلال ذلك وافق مندوبو الإيتسيل على إيقاف أي امتلاك مستقل للسلاح، وأبلغوا مندوبي الجيش الإسرائيلي عن سفينة السلاح “ألتالينا”.
لقد ظن بن غوريون في ذلك الوقت أنه لا يجوز بأي حال السماح بتوزيع سلاح اليهود في نطاق تنظيمات غير منضبطة. الجيش الإسرائيلي، وهو فقط، صاحب الحق في استعمال السلاح.
عندما اقتربت السفينة من شواطئ إسرائيل، طالب بن غوريون بتفريغ كل السلاح الذي عليها وتسليمه إلى الجيش
عندما اقتربت السفينة من شواطئ إسرائيل، طالب بن غوريون بتفريغ كل السلاح الذي عليها وتسليمه إلى الجيش، بينما أصر بيجن على أن يحافظ على جزء من السلاح بيد تنظيمه، في إطار مستقل. لم تكن حكومة إسرائيل مستعدة لتحمل ذلك، ورأت في طلب بيجن تمردا.
عندما وصلت السفينة إلى شواطئ تل أبيب، وبعد أن صعد بيجن بنفسه على متن السفينة أعطى بن غوريون الأمر بمهاجمتها بالسلاح. اشترك رجال تنظيم “الهاجاناه”، ومنهم إسحاق رابين، في المعركة ضد رجال الإيتسيل. دارت على الساحل معركة بين رجال التنظيمات المختلفة، وأطلِقت النيران تجاه السفينة المتمردة.
بعد أن فشلت الجهود لإطفاء النيران المنتشرة، اضطر قبطانها بإعطاء الأوامر بمغادرة السفينة
أصابت إحدى القذائف مخزن سلاح على متن السفينة وجعلت النار تشتعل فيها. بعد أن فشلت الجهود لإطفاء النيران المنتشرة، اضطر قبطانها بإعطاء الأوامر بمغادرة السفينة خوفا من انفجار المواد المتفجرة على متنها. قفز من كان على ألتالينا إلى المياه، وأما رفاقهم الذين كانوا على الساحل، فخرجوا لملاقاتهم على القوارب.
قُتل 19 يهوديا- 16 من الإيتسيل، و 3 من الهاجاناه- في المعركة، التي كان يمكن لها أن تُسبب اندلاع حرب أهلية. لقد قصّ بيجن في مذكراته أنه قد أمر رجال الإيتسيل بعدم الرد على إطلاق النار، وصرخ: “حرب أهلية، مستحيل!”
من ناحية بن غوريون، لقد كانت قصة سفينة السلاح قصة قمع تمرد مسلح
من ناحية بن غوريون، لقد كانت قصة سفينة السلاح قصة قمع تمرد مسلح قد بدأ. لقد كان مقتنعا بأن الجيش الإسرائيلي هو من لديه الحق فقط في امتلاك السلاح، حتى في أيام الحرب. طلب بن غوريون أن يُطلَق في التاريخ على المدفع الذي أطلق على السفينة اسمُ “المدفع المقدس”.
وأما بيجن من ناحيته فقد أكد على تألمه من أن يطلق اليهود النار على اليهود، وأهمية منع وقوع حرب أهلية. وقال بيجن: “لقد وقف عدو من الخارج على الأبواب وقد قلنا: “لا يُسمح بتاتا بأية حالة استعمال السلاح… ولو كانت حربٌ أهلية متبادلة في إسرائيل، لكانت قد دمرت إسرائيل”. حتى اليوم ما زال الذين يسيرون على خطى بيجن يذكرون موت 16 رجلا منهم.
متى ستحدث “ألتالينا” فلسطينية؟
صراع القوى بين السلطة الفلسطينية، ممثلة الشعب الفلسطيني الشرعية منذ 1994، وبين التنظيمات المسلحة التي تعمل في الضفة الغربية وغزة، يُذكّر الإسرائيليين بكارثة سفينة السلاح هذه. سنة 2003، قال الضابط الإسرائيلي الرفيع السابق، جيورا عنبار، إنه ينتظر أن يرى “ألتالينا فلسطينية”.
لقد ذكر الكثير من المحللين الإسرائيليين في السنوات الأخيرة الحاجة إلى أن يتعامل الرئيس الفلسطيني محمود عباس يدًا من حديد تجاه حماس والتنظيمات المسلحة، كما عمل بن غوريون تجاه بيجن، وإن كان الثمن دمويا.
فشل محمود عباس لأنه لم ينجح في توحيد الشعب الفلسطيني وراء جسم مسلح واحد
إلى حد كبير، نجح بن غوريون حيث فشل عباس. سنة 1948، نجح دافيد بن غوريون بتوحيد كل قوى السلاح التابعة لدولة إسرائيل بيد الجيش الإسرائيلي، وأخضع التنظيمات المتمردة بالقوة. لقد فشل محمود عباس في نفس النقطة بالذات، لأنه لم ينجح في توحيد الشعب الفلسطيني وراء جسم مسلح واحد.
لقد توزع السلاح الفلسطيني ما بين متطرفين قوميين وبين متطرفين دينيين، بين شيوعيين وإسلاميين متطرفين، وغيرهم. لقد دفع مئات بل آلاف الفلسطينيين حياتهم ثمنا لذلك، ولم يكن الرئيس الفلسطيني أبدا مُسيطرًا بقوة على قوة الفلسطينيين العسكرية.
لقد اتخذ بن غوريون الخطوة المؤلمة حتى عندما كان الثمن 19 قتيلا. لكن عباس، الذي لم ينجح في قمع المعارضة من الداخل، دفع ثمنا أكبر بكثير لأنه فشل. يُحتمل في المستقبَل القريب، إذا فقد عباس كل احتمال في السيطرة على غزة، وإذا أعلِن عن غزة منطقة حكم ذاتي لحماس، أن يُذكر عباس في التاريخ بأنه الرجل الذي فشل في توحيد الشعب الفلسطيني.