من وجهة نظر الإسرائيليين، تعد حرب تشرين (1973) صدمة هزت كل أركان إسرائيل. يبلور الفشل الاستخباراتي والأزمة الكبيرة في الثقة بقيادات الدولة، إضافة إلى كثرة الضحايا نسبيا، والحزن الوطني الثقيل، الذاكرة الوطنية الإسرائيلية بشأن الحرب. ولكن لم يكن كل شيء حالك السواد في هذه الحرب؛ كان سلاح البحرية الإسرائيلي أفضلها. يجدر الحديث كثيرا عن دور هذا السلاح الصغير الذي حقق نجاحا في المعركة البحرية والذي تُدرس تكتيكياته في مدارس للاستراتيجيات العسكرية في دول العالم.
سلاح بحري صغير ولكنه ذكي
نتطرق باختصار إلى العلاقة الكبيرة المتعلقة بتطور الأحداث. بعد حرب 1967، التي لم يلعب فيها سلاح البحرية دورا هاما، عانى سلاح البحرية من تقليص كبير في الميزانية. خصصت وزارة الدفاع والجيش أهم الموارد من أجل المجالين البري والجوي، ووصلت ميزانية سلاح البحرية عشية حرب أكتوبر/تشرين إلى %6 فقط من ميزانية الدفاع.
في هذه المرحلة، لم تكن لدى سلاح البحرية مدمّرات، وتم تعطيل غواصتين عن العمل. عرفت قوات سلاح البحرية أنه لا يمكن شراء معدّات باهظة الثمن، لهذا ارتكزت نشاطاتها على تطوير ذاتي لوسائل قتالية ذات تفوّق تكنولوجي، وشراء وسائل بحرية صغيرة وسريعة. كان الافتراض أن في وسع القدرات التكنولوجية الجيدة التفوق على الأفضلية العددية المطلقة لوسائل البحرية التابعة للعدو، وأن شراء معدّات بحرية صغيرة وسريعة، يساهم في تحقيق سيطرة بحرية شاملة.
سلاح البحرية الإسرائيلية عام 1973 (Wikipedia)
في السنوات التي سبقت الحرب، طوّر سلاح البحرية منظومات وسائل قتالية إلكترونية كثيرة، لمساعدة سفن الصواريخ على مواجهة الصواريخ المصنّعة في السوفييت ذات المدى البعيد أكثر من صواريخ “جبرائيل” الإسرائيلية، المتفوقة بحريا، والمستخدمة في سلاح البحرية المصري. تضمنت التطويرات وسائل كشف، توجيه وتضليل، سمحت للسفن بالتهرّب من رادارات العدو والدخول إلى أعماق البحر، تحريف صواريخ العدو عن مسارها، تقليص المسافة بين السفن، وتحقيق المسافة المثلى لعمل صواريخ “جبرائيل”. كانت طريقة العمل هذه مختلفة تماما عن الجولات الدفاعية في عصر المدمّرات. كان الهدف الاستراتيجي ثوريا.
بالتوازي مع مراحل التطوير والتزوّد بالمعدّات، بدأ سلاح البحرية بتدريبات مكثّفة يوميا، لتذويت طرق القتال الحديثة. بالإضافة إلى ذلك، بدأت قوات سلاح البحرية بالعمل على برامج قتالية كثيرة لاستخدامها عند الحاجة.
وهكذا، في عام 1973 كان سلاح البحرية صغيرا، ناجعا، سريعا، خبيرا، ومتفوقا تكنولوجيا في الوقت ذاته. وعمل ضد الأسطولين السوري والمصري اللذين كان لديهما 12 غواصة وعشرات سفن الصواريخ، المدمّرات، سفن الطوربيد، والكثير من الوسائل البحرية الأخرى. حظي هذان الأسطولان بأفضلية هامة في عدد الوسائل القتالية وحجمها.
اللحظة الحقيقية: صافرات الإنذار في حرب أكتوبر 1973
في الأيام التي سبقت الحرب، وصلت معلومات كثيرة حول الاستعدادات المصرية والسورية. تلقت المنظومات الاستخباراتية العسكرية الإسرائيلية معلومات شبيهة، ولكن التحليلات كانت مختلفة؛ استنتجت منظومة الاستخبارات في سلاح البحرية الإسرائيلي أن الحرب باتت قريبة جدا. رغم أن كل محاولات رئيس الاستخبارات لإقناع رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية بهذه التقديرات قد باءت بالفشل، فإن حقيقة كون جهاز الاستخبارات في سلاح البحرية الإسرائيلي مستقلا نسبيا سمحت له باتخاذ قرارات مستقلة. بعد أن تلقى ضابط سلاح البحرية، اللواء بنيامين تلم، التقديرات الاستخباراتية لسلاح البحرية، أمر بالاستعداد الشامل لكل سيناريوهات محتملة.
عمليا، بدأ سلاح البحرية بالاستعداد للحرب خلال 48 ساعة قبل سائر قوات الجيش. ألغيت كل العطل، وجُهّزت كل وسائل البحرية للقتال. قبل يومين من نشوب الحرب، أجريت تدريبات شاملة على طرق القتال التكتيكية التي طورها سلاح البحرية طيلة سنوات. في صباح يوم الحرب، بدأ سلاح البحرية الإسرائيلي بعد أن كانت لديه وحدات وسفن جاهزة بإرسالها لبدء عملها. في الساعة الثانية ظهرا، أطلِقت صفارات الإنذار في أنحاء البلاد؛ بعد مرور ثلاث ساعات فقط من تلك اللحظة، أي في الساعة الخامسة بعد الظهر، حقق سلاح البحرية انتشارا واسعا وكان مستعدا للحرب. بعد اندلاع المعارك، كان سلاح البحرية جاهزا أكثر من أية قوات أخرى في الجيش الإسرائيلي بشكل ملحوظ.
اللواء بنيامين تلم (في الجهة اليسرى)، وهو يهنئ طاقم سفينة الصواريخ قبل إبحارها، عام 1973، تصوير: كودكود تساهوف
وفق وجهة نظر هيئة الأركان العامة، لم يشكل سلاح البحرية ذراعا قتالية. كان عليه حماية التنقل البحري الحر من إسرائيل وإليها، والدفاع عن موانئ البلاد وشواطئها من هجمات العدو. رغم هذه الأهداف الدفاعية، قرر ضابط سلاح البحرية إنجاز مهام هجومية. عرّفت قوات سلاح البحرية الهدف المركزي كالتالي: تدمير شامل للوسائل البحرية، السورية والمصرية، في عمق مياههما الإقليمية قدر المستطاع، وأقرب ما يمكن من الموانئ والقواعد العسكرية.
معارك في الشمال والجنوب!
اندلع الهجوم الإسرائيلي في جوف الليل، عندما كان بالإمكان استغلال كل عوامل المفاجئة والتضليل. عملت القوات البحرية في جبهتي القتال المصرية والسورية. في الليل بين السادس والسابع من تشرين الأول، اندلعت معركة اللاذقية ضد الأسطول السوري، ومعركة بورت سعيد ضد الأسطول المصري. انتصر سلاح البحرية الإسرائيلي في كلا المعركتين. للمرة الأولى، في معركة اللاذقية استُخدمت سفن الصواريخ، وتم تدريسها في مدرسة الاستراتيجيات البحرية في أماكن كثيرة في العالم. وللمرة الأولى، أصبحت صواريخ بحر – بحر عاملا مركزيا في ميدان القتال البحري، بدلا من الدبابات والوسائل القتالية الأخرى. دُمّرت في هذه المعركة خمس سفن صواريخ سورية. لم تلحق خسائر بالقوات الإسرائيلية.
بعد المعارك الأولى، خشي الأسطولان المصري والسوري من المبادرة الهجومية حتى نهاية الحرب. طُلبت من الغواصات المصرية التي خرجت لتنفيذ حصار بحري على إسرائيل العودة إلى قواعدها والدفاع عن الشواطئ المصرية من هجمات سلاح الجو البحري الإسرائيلي. كانت مسارات التنقل البحرية في البحر المتوسط مفتوحة، ولم تتعرض شواطئ إسرائيل لخطر الهجوم من قبل أسطول العدو. ولكن اعتقد سلاح البحرية أنه بهدف الانتصار عليه تدمير كل أسطول العدو. وبالمناسبة، لم يطلب هذا السلاح الذي أدرك الصعوبات والضغط الكبير في كل الحلبات القتالية البرية، أية مساعدة جوية طيلة الحرب، فيما عدا في الليلة الأولى.
“مطاردة الأعداء ومحاربتهم والعودة بعد القضاء عليهم”
منذ الليلة الثانية، لم يعد سلاح البحرية يوزع قواته، فركّزها في جبهة واحدة، وأهمل الجبهة الأخرى نسبيا. بهذه الطريقة، نجح هذا السلاح في تحقيق أفضلية عددية نسبية. في غضون أيام قليلة من القتال العنيف، رسا جزء كبير من سفن الأسطولين البحريين المصري والسوري في أعماق البحر. غُمر معظمها في المعارك البحرية، وأصيبت بقية السفن في الموانئ التي لحقت بها خسائر من قبل سفن سلاح البحرية.
تابع سلاح البحرية قتاله بعد أن حقق سيطرة بحرية تامة ضامنا مسارات التنقل البحرية من إسرائيل وإليها مفتوحة. بعد أن بدأ السوريون باستخدام صواريخ أرض – أرض، ضرب سلاح البحرية أهداف البنى البرية. من بين مواقع أخرى، هاجم محطة وقود في ميناء بانياس السوري، مُلحقا خللا في تزويد الكهرباء والوقود في كل سوريا، بما في ذلك في الجبهة القتالية. تابع سلاح البحرية خطه القتالي مهاجما أهداف كثيرة على الشواطئ؛ تضررت ثكنات، قواعد عسكرية، بطاريات صواريخ، ومدفعيات كثيرة على يد صواريخ سفنه.
كانت نتائج الحرب البحرية مفاجئة. خسر سلاح البحرية ثلاثة من مقاتليه، ولم تغرق أية سفينة حربية في المعارك الكثيرة. بالمقابل، خسر العدو عشرات الوسائل القتالية والمقاتلين.
يبدو أن المعركة البحرية في حرب تشرين قد حُسمت 0:40+
مقاتلو سلاح البحرية الغسرائيلية عام 1973ط تصوير وزارة الدفاع الإسرائيلية
حقق سلاح البحرية إنجازا آخر إضافة إلى الهدوء التام في شواطئ البلاد وهو ضمان عمل مسارات تزويد المعدّات والتجارة البحرية في قلب البحر المتوسط. بفضل هذا الإنجاز نقلت الولايات المتحدة أثناء الحرب وسائل قتالية وأسلحة كثيرة. سُميت هذه الخطوة في إسرائيلي خطأ: “القطار الجوي” وذلك لأنه في الواقع وصل %95 من إرساليات القطار “الجوي” عبر البحر. اشترط الأمريكان مرور سفن بضاعتهم بالسيطرة الإسرائيلية في البحر المتوسط. لولا سلاح البحرية، مَن كان في وسعه أن يعرف إذا كانت ستصل الأسلحة إلى هدفها وتساعد المقاتلين، وكيف كانت ستنتهي الحرب.
إخفاقات القادة السياسيين عرقلة تحقيق النجاح
رغم هذه النجاحات، لم يعمل القادة العسكريون والسياسيون في إسرائيل على توسيع الإنجازات. علاوة على ذلك يتضح أن اتخاذ القرارات من قبل المسؤولين أدى إلى فشل ذريع لم يحظ باهتمام حتى الآن.
فبعد اندلاع الحرب، أعلنت مصر عن إغلاق مسارات الإبحار من إسرائيل وإليها. عمل معظم الأسطول المصري والسوري على تحقيق هذا الهدف. لم يكن الإعلان المصري استثنائيا؛ فهناك منطق استراتيجي كبير وراء الحصار. في حال لم يحصل العدو على معدّات لن يستطيع المحاربة لوقت طويل، فستُسحم المعركة. كما ذُكر آنفا، فإن انتصار إسرائيل البحري المصيري منع فرض الحصار وأبقى مسارات نقل البضاعة من إسرائيل وإليها مفتوحة.
بتاريخ 8 تشرين الأول، وهو اليوم الثالث من الحرب، أعلن موشيه ديان في جلسة الحكومة أنه من المتوقع أن تتعرض إسرائيل لدمار. وبالفعل، نجح الجيش الإسرائيلي في الصمود في جزء من المواقع العكسرية ولكنه انسحب في معظم الجبهات. لحقت خسائر فادحة بسلاح الجو وكان الوضع سيئا. ولكن في هذه المرحلة، كان في وسع سلاح البحرية فرض حصار على مسارات التنقل البحرية المصرية، وكانت هذه الخطوة ضرورية للرد على المحاولة المصرية لفرض حصار بحري على إسرائيل، وهامة استراتيجيا أيضا.
ولكن لمزيد الدهشة، لم تعلن إسرائيل عن حصار بحري ضد أعدائها، ولم يعمل سلاح البحرية وفق أوامر عليا ضد سفن التجارة. دخلت سفن سوفيتية محمّلة بوسائل قتالية بحرية إلى الشواطئ السورية والمصرية بسهولة، رغم أنه كان في وسع سلاح البحرية الإسرائيلية منعها ببساطة. أثناء الحرب، نُقِل من الاتحاد السوفيتي إلى مصر وسوريا 65 ألف طن من المعدّات القتالية ونُقل 50 ألف طن منها بحرا. وحدث ذلك في الوقت الذي منعت فيه مصر حاويات نفط إسرائيلة من العبور عبر البحر الأحمر سعيا لفرض الحصار على إسرائيل. بالمناسبة، ظل هذا الحصار البحري مفروضا حتى نهاية الحرب.
كانت الدوافع الإسرائيلية لعدم فرض الحصار البحري هو الخوف من اشتباكات سياسية مع الحكم السوفيتي. إنه ادعاء مشكوك فيه – الخوف من التعرض لاشتباكات دبلوماسية مع دولة تساعد بشكل فعال على إبادة إسرائيل، يشير إلى عدم مسؤولية تام. من الصعب أن نجد أمثلة على مر التاريخ سمح فيها الجيش لخصومه بالتسلح أثناء الحرب بينما كان في وسعه منعه. على مر الزمن، شكلت السيطرة على مسارات التنقل هدفا استراتيجيا هاما وبداية لحسم المعركة. كانت الجيوش مستعدة للتضحية كثيرا دائما للسيطرة على مسارات التنقل أو تعطيل عملها. كانت السكك الحديدية، والطرق الرئيسية هدفا تفجيريا وموقع احتلال في كل الحروبات. استثمر الأسطول الألماني القوي أثناء الحرب العالمية الثانية كل قدراته في إغراق سفن تزويد معدّات إنجليزية أرسِلت لمساعدة الروس. أدى الحصار الألماني على بريطانيا تقريبًا إلى تدهورها تقريبا.
استخلاص العبر
تتحدث نتائج الحرب البحرية الكثيرة في حرب تشرين عن نفسها. تجنّب اللا مبالاة عشية الحرب. القوات والاستراتجيات المتفوقة. تطوير التكنولوجيات المتقدمة. روتين التدريبات المكثّف. صنعت كل هذه العوامل الفارق. لا يُحدد حجم وعدد المقاتلين مصير المعركة بل النوعية والنجاعة القتالية تحديدا في أحيان كثيرة.
ولكن الأهم هو أن الدفاع الجيد هو الهجوم، ويبدو أن المبادرة الهجومية والعمل المتواصل لمحاربة العدو، اللذين شلا تماما أية مبادرة سورية ومصرية، كانا العبرة المركزية التي يجدر استخلاصها في هذه الأيام. أثناء الحرب، وصلت إلى هيئة أركان الجيش تقارير عن وجود سفن صواريخ إسرائيلية أمام اللاذقية في المنطقة البعيدة من شمال سوريا. عندها اتصل رئيس الأركان، دافيد إليعزر، فورا بضابط سلاح البحرية اللواء تلم، وسأله: “ماذا تفعلون في اللاذقية؟”، فأجابه: “نحمي شواطئ الدولة”.
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع ميدا
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني