يعرض في إسرائيل، في هذه الأيام، مسلسل جديد، بعنوان “سيناريست”، يتكلم أبطاله العربية والعبرية، ويحتل خانة ال “برايم تايم” على التلفزيون الإسرائيلي. بطل المسلسل عربي، اسمه “كاتب”، يعيش في القدس الغربية في حي يهودي علماني، كما يعرّف عن نفسه في بداية الحلقة الأولى من المسلسل. وفي مركزه حياة كاتب، والصراعات التي يعيشها في إسرائيل، لا سيما هويته “الإسرائيلية – الفلسطينية” التي لا يوجد لها مكان في هذا العالم، لكن، ليس فقط، فحياته لا تخلو من المتاعب الزوجية والمهنية والعاطفية، مثله مثل سائر البشر.
المسلسل من تأليف الأديب العربي الإسرائيلي، سيد قشوع، المعروف بمؤلفاته العبرية. ولمن يعرف قشوع، يفهم سريعا أن شخصية “كاتب” مستوحاة من حياة قشوع، وأن المسلسل بمثابة سيرة ذاتية لحياته الشخصية والمهنية المثيرة. ومثل الأديب المشهور، “كاتب” بطل الحلقة، متزوج وعنده ثلاثة أولاد، يعيش في حي يهودي في غربي القدس بعدما ترك قرية الطيرة حيث ولد. وهو يعيش صراعا متواصلا، ويحاول جاهدا أن يجد حقيقة ما يمكنه الاستناد إليها.
وتتجلى تعقيدات الهوية التي يعيشها كاتب في مجالات عديدة في حياته، مثلا في تربية أولاده. فمن جهة هو يرسل أولاده إلى مدارس يهودية، وهم يتحدثون اللغة العبرية بطلاقة. لكنه يريدهم أن يتكلموا اللغة العربية أيضا بطلاقة. والملفت في المسلسل أن الشخصيات تتنقل بين اللغة العربية والعبرية، في تعبير صريح عن ثنائية اللغة التي يعيشها العربي في إسرائيل، فهو يتكلم اللغة العربية في البيت واللغة العبرية في الحيز العام، وعادة ما تتداخل اللغتان.
وفي إحدى الحلقات، يرى كاتب أن ابنته لا ترغب في تعلم اللغة العربية في المدرسة، والأم تحاول أن تقنع البنت بأهميتها، ومن ثم تتوجه إلى زوجها (كاتب) قائلة: “يجب أن نجد حلا بالنسبة لمشكلة العربي! إما أن نسلّم مع الحقيقة أن أولادنا لن يتعلموا العربية وإما أن نجد لهم مدرسة ثانية تُعلّم العربية”.
مسلسل “سيناريست” من تأليف الكاتب العربي الإسرائيلي سيد قشوع
ويركز المسلسل على الصراع الداخلي الحاد الذي يعاني منه كاتب، الناجم عن الهويات المتعددة التي ينتمي إليها، فهو قروي الأصل، فلسطيني، يعيش اليوم في الجزء اليهودي من مدينة القدس، وأسلوبه في الحياة إسرائيلي للغاية. وكل شيء في حياته يعاني من حالة انقسام. فتارة يشعر أنه لن يسمح لابنته أن تنسى أصلها، فيقرر أن يسافر إلى زيارة أهله في القرية، لكن سرعان ما يكتشف أن حياة القرية لم تعد تلائم زوجته وابنته، فابنته نباتية، وجدتها القرية تقدم لها اللحم دون مبالاة، وزوجته لا تتحمل الانتقادات لها بأنها تعلم أولادها في المدارس اليهودية مما يعرضهم إلى الانفتاح المفرط على الحضارة الغربية.
وتارة يحاول أن يدافع عن الأطفال الفلسطينيين الذي يعملون في سن مبكر ليعيلوا عائلاتهم، بدل الذهاب إلى المدرسة، ويقول لابنه إنهم أبطال بينما ينظفون سيارته، ليكتشف بعدها أنهم قاموا بسرقة شاحن هاتفه وسماعاته.
وتصل أزمة الهوية التي يعيشها كاتب إلى الذروة حينما يسافر إلى إيطاليا ليشارك في مهرجان أدبي خاص بمؤلفي منطقة حوض المتوسط، ويظهر اسمه في برنامج المهرجان على أنه أديب إسرائيلي، لكنه يحاول إخفاء هذه الهوية عندما يرى أن معظم المشاركين في المهرجان هم أدباء عرب. ويتحول المهرجان إلى صدام عنيف حينما يقرأ كاتب فقرة من كتابه باللغة العبرية، حينها تهاجمه مترجمة من الحضور، من أصول فلسطينية، وتقطع كلمته موجهة له ادعاءات قاسية مثل: كيف تقدر على التحدث بلغة من احتل بلادك وسلب أرضك وشرد شعبك؟ ويقف كاتب صامتا إزاء هذه الادعاءات، لا يعرف الإجابة عنها.
وعدا عن صراع الهوية، يمر كاتب في أزمة في حياته الزوجية، فزوجته لا تنام إلى جانبه، وهما لا يتحدثان تقريبا عدا عن الأولاد والواجبات البيتية، ويسيطر على حياتهما الجفاء، ما يزيد من خروجه من البيت، والذهاب إلى البار لتناول الكحول، وفي مرحلة معينة لا يهمّه خوض تجربة عاطفية خارج إطار الزواج. يكتشف خلالها كاتب أنه رغم نمط حياته الغربي، هو في داخله رجل “عربي”، لا يهتم بزوجته ويتوقع منها أن تحضر الطعام، ولا يعرف ماذا تشتغل حتى.
ويلقي المسلسل ضوءا على العلاقات بين العرب واليهود في إسرائيل، فمن جهة زملاء كاتب يهود، وهو يكتب بالعبرية، ولا توجد أي مشكلة في تقبله كعربي في إسرائيل. وتبدو الحياة في إسرائيل جيدة ومريحة للغاية. لكن انعدام الثقة والشكوك بين العرب واليهود يتجلى شيئا فشيئا في المسلسل. ففي إحدى الحلقات يحاول كاتب أن يبيّن لابنه أن لا داعي للخوف من اليهود “الحاريديم” (المتدينين)، ويأخذه إلى لقاء مع حاريدي كان قد تشاجر معه حول موقف السيارة. ويقوم كاتب بمصافحة الرجل الحاريدي، والاثنان يرحبان الواحد بمبادرة الآخر، لكن أولادهما يظلان ينظران الواحد إلى الآخر نظرة شك وعدم ثقة، ولا يتصافحان في إشارة قوية إلى حال العلاقات بين الشعبين.
أخيرا، من يريد أن يفهم كيف تبدو حياة العربي المتمدن، لا بد له أن يشاهد حلقات المسلسل (الرابط باللغة العبرية)، الذي يجمع بين المواقف الظريفة التي يعيشها طالب، وتلك المأساوية. وهو واقع يعيشه كثيرون في إسرائيل، ليسوا عربا بالمعنى الكامل، وليسوا إسرائيليين أيضا بالمعنى الكامل، إنما هم مخلوق هجين لا يعرف الاستقرار.
لكن هذا المخلوق الهجين، يبدو أنه صاحب الفرص الأكبر للتأقلم مع حضارتين مختلفتين، ما زال الصراع بينهما هو العامل المحدد لطبيعية علاقتهما.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني