سأبدأ هذا التقرير بالاعتراف أنني أيضًا مُدمن على العمَل. فأنا مُدمن على صوت تلقي الرسائل في جهازي الذكيّ، كما أحبّ أن أستقبل الرسائل الإلكترونية وأكون أوّل من يردّ عليها. فأنا أردّ على البريد الإلكتروني خلال القيادة وفي منتصف الليل، وقد حدث أن استيقظتُ على صوت رسالة جديدة في الليل، وأجبتُ على رسالة في الواحدة بعد منتصف الليل. أفتح عينيّ كلّ صباح، وأوّل ما أفعله هو مشاهَدة من ردّ على تحديث الحالة الأخير الذي سجّلته في فيس بوك، مَن أُعجب بصورتي الجديدة، وأية رسائل هامّة أو أقلّ أهمية تكدّست في جهازي خلال الليل.
والآن بعد أن اعترفتُ، أنا مستعدّ للإصلاح. يبدو أنني لستُ وحدي المُدمن، “العبد” لعملي. فقد اعترف 82% من الإسرائيليين بأنهم تصفّحوا هواتفهم الذكيّة من أجل العمل على حساب وقتهم الخاصّ (2014)، فيما قال ستّة في المئة فقط إنّ لديهم فصلًا تامًّا بين الأمرَين. لكنّ الانزلاق الضارّ حقًّا، ذاك الذي يصعب قياسه بالأرقام، هو النفسيّ. فعدد متزايِد من الناس حولنا يشعرون بالإرهاق، العصبية، والمرارة، ويعانون من أمراضٍ ذات صلة بالضغط والإجهاد.
يحدث للعمّال الإسرائيليين أمر غير سليم. فالأعداد تؤكد ما نشعر به جميعًا على جسدنا كلّ يوم – إننا نعمل طوال الوقت. فالرسائل الإلكترونية، الرسائل النصية، والمحادثات الهاتفيّة الخاصّة بالعمل تتسلّل إلى داخل بيوتنا وأنفسنا. يوضح خبراء وعلماء نفس تنظيميون أنّه صحيح أنّ اختيار العامل الردّ على رسالة إلكترونية والردّ على محادثة من العمل خارج ساعات الدوام هو خيار شخصي، لكن فضلًا عن العقد الاقتصادي، ثمّة بين ربّ العمل والعامل عقد نفسيّ أيضًا. فالعامل يعرف ما يُتوقَّع منه دون أن يكون ذلك مكتوبًا في أيّ مكان، ويُمارَس عليه ضغط نفسيّ لبلوغ التوقّعات، والردّ حتّى خارج ساعات الدوام.
ولا يقتصر الضرّر على تسلّل العمل إلى الحيّز الخاص والعائلي للعامل فقط. إنها ظاهرة أوسع يمكن أن تؤدي إلى حالات ضغط وإرهاق. فالأبحاث تثبت أنّ العمال المضغوطين لديهم خطر أكبر للإصابة بأمراض عامّة أكثر بـ 67% من زملائهم الذين يعملون في نطاق ساعات العمل المتعارَف عليها. يتوجّه عدد أكبر فأكبر من الأشخاص إلى الأطبّاء لعلاج أمراضٍ متعلّقة بالإجهاد. وثمّة أمراض يفاقمها الضغط، مثل أمراض القلب، الرئتَين، وأمراض الجهاز الهضميّ. يصعب قياس إلى أيّ حدّ يكون الضغط عاملًا مسبّبًا للمرض. أمّا الأكيد فهو أنّ عددًا أكبر من الأشخاص الذين يتوجّهون لنيل استشارة نفسيّة بسبب الإرهاق العامّ، إذ يتشكون بشكل أساسيّ من شيء جسدي، يدركون بعد الاستيضاح أنّ هذا نتيجة الضغط والإجهاد في العمل.
لكنّ الإسرائيليين ليسوا وحيدين. فعام 2012، كانت لـ 60% من العمّال في الولايات المتحدة علاقة بمكان عملهم عبر الهاتف الخلويّ، وقضوا 5 ساعات إضافيّة كلّ نهاية أسبوع في الردّ على الرسائل الإلكترونية. ويفحص 68% من العاملين هناك بريدهم الإلكتروني قبل الثامنة صباحًا، 50% يفحصونه وهم في السرير، و38% يفعلون ذلك بشكل منتظم حتّى على مائدة العشاء العائلية. لكن حتّى في الولايات المتحدة الأمريكية، ملكة الرأسماليّة، بدأوا يتعلّمون في السنوات الأخيرة ما تدركه أوروبا منذ وقتٍ طويل: العمّال المرهَقون هم عمّال غير جيّدين، وأضرار الإرهاق تكلّف الاقتصاد غاليًا. أمّا في إسرائيل، فيعجزون عن فهم هذا المبدأ لسببٍ من الأسباب.
تتحوّل نزعة وَقف الإرهاق وحصر العمل ضمن ساعات الدوام المكتبيّ في ساعات محدّدة مسبقًا إلى نزعة عالميّة رُويدًا رُويدًا. حتّى اليوم، لم تبلغ هذه النزعة شرقنا الأوسط، لكنّ نقابات العمل بدأت تدرك أن لا مفرّ، وإلّا فسيظلّ الاقتصاد يُعاني. هكذا مثلًا، يُعترَف بالإرهاق كمرضٍ بكل معنى الكلمة في ألمانيا، ويمكن الحصول بسببه على أيام عُطلة مرضيّة من الطبيب. عام 2010، حذّر التأمين الوطني الألماني من أنّ عددًا متزايدًا من العمّال ينالون إجازات مرضيّة بسبب الإرهاق، فيما يتوقّف عدد منهم عن العمل كليًّا. إثر ذلك، نجحت لجنة العمّال في شركة “فولكسفاجن” لصناعة السيارات في الحصول على منع للرسائل الإلكترونية لعمّال الشركة. فقد توقّفوا عن تلقّي رسائل إلكترونية ابتداءً من نصف ساعة بعد مغادرتهم المكتب، وحتّى نصف ساعة قبل الوصول إليه صباح اليوم التالي. وانضمّت إلى هذه الخطوة شركتا BMW و”بوما”، اللتان أعلنتا أنّ عمّالهما لا يُتوقّع منهم الردّ على الرسائل الإلكترونية خارج ساعات الدوام.
إذا أُريد التغيير فإنه يأتي من الأسفل. يمكن أن يسهّل الإدراك أنّ العمل يهدف إلى ملء فراغ ساعات العمل فقط الأمر على كثيرين. ففي معظم الأوقات، لا نقوم حقًّا بعمل مُنقذ للحياة لديه تأثير مباشر في الحياة أو الموت. إذا أدركنا ذلك واستوعبنا معنى هذه الأمور، سنضع العمل والضغط فيه في مكانهما المناسب. إنّ ملاءَمة التوقّعات بين العمّال وأرباب عملهم يمكن أن توضح وتعرّف حدود إرسال وتلقّي الرسائل الإلكترونية والردّ على الهواتف الهامّة حقًّا، وفقط في إطار ساعات الدوام المحدَّدة مسبقًا. كذلك تساهم النجاعة، تركيز المهامّ، وتعريف الوظائف الدقيقة من قِبل أرباب العمل في تنفيذ جميع المهامّ في الوقت المحدّد وساعات العمل المقبولة.