اشتدّت، في الشهر الأخير، “الحرب الباردة” في الشرق الأوسط بين إيران والمملكة العربية السعودية. في معظم الحالات في الماضي، فضّلت كلتا القوّتين الإقليميّتين، بشكل أساسيّ، جذب الخيوط من وراء الكواليس، ولكن التدخّل السعودي المباشر في اليمن أشار إلى صعود درجة في التوتّر بين الدولتين. قد تؤثر خطوات السعودية على مراكز أخرى في الصراع الطائفي مثل العراق سوريا، والكرة الآن بيد طهران.

وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف في الوسط، ووزير الدفاع السعودي محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، يشرفان على عملية "عاصفة الحزم" (Twitter)
وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف في الوسط، ووزير الدفاع السعودي محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، يشرفان على عملية “عاصفة الحزم” (Twitter)

كجزء من التأثير الهائل للإيرانيين في العراق، فهم يحتفظون بتأثيرهم على لاعب مهمّ جدّا؛ وهو القائد ورجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الذي عاد مؤخرا إلى الواجهة خلال الحرب ضدّ داعش. حاز الصدر على أوصاف عديدة خلال السنين: رجل الدين المتطرّف الذي يشجّع العنف، مناضل من أجل الحرية ومقاوم واضح للاحتلال الأجنبي، وطني براغماتي بل و “متوّج الملوك” في العراق. على أية حال، يُعتبر مقتدى الصدر إحدى الشخصيات الأكثر تأثيرا اليوم في بلاد الرافدين، ومن المتوقع أن يلعب دورا رئيسيا لاحقا في الصراع السنّي – الشيعي في الشرق الأوسط.

من هو مقتدى الصدر؟

الزعيم العراقي الشيعي، مقتدى الصدر (AFP)
الزعيم العراقي الشيعي، مقتدى الصدر (AFP)

وُلد مقتدى الصدر عام 1973 في مدينة النجف الشيعية جنوب وسط العراق. مقتدى الصدر هو سليل أسرة محترمة في العالم الشيعي والتي تشمل شخصيات مثل “محيي الشيعة” في لبنان، رجل الدين موسى الصدر. اضطُهدت عائلة الصدر كثيرا من قبل نظام صدام حسين: فقد قُتل والد مقتدى – آية الله محمد صديق الصدر، وزوج والدته آية الله محمد باقر الصدر، بسبب خوف صدام من تأثيرهما الكبير على السكان الشيعة في العراق. ومع ذلك، تمتّع مقتدى الصدر بدعم شعبي واسع في أوساط المجتمع الشيعي وذلك بسبب الحركة السياسية “الصدرية” وشبكات الرعاية الاجتماعية التي أسّستها عائلته على مرّ السنين.

تأثيره في الساحة العراقية

في أعقاب الغزو الأمريكي عام 2003 ازدادت شعبية مقتدى الصدر وأصبح إحدى الشخصيات الأكثر تأثيرا في الحرب بالعراق. بعد إسقاط نظام صدام حسين، أقام الصدر ميليشيا مُسلّحة وقوية اسمها “جيش المهدي” واستغل مكانته كرجل دين ذي نسب من أجل التصريح ضدّ الاحتلال الأمريكي. في إحدى مقولاته الأكثر شهرة قال الصدر: “كان صدام حسين الثعبان الأصغر، ولكن أمريكا هي الثعبان الأكبر”. خلال تلك الفترة، حظي الصدر بدعم مالي ولوجستي واسع من إيران، وبدءًا من عام 2004، لم يتردّد في تشغيل الميليشيا التي يقودها، “جيش المهدي”، ضدّ القوات المختلفة للتحالف الدولي. أكسبتْ تلك العمليات الصدرَ شعبية كبيرة في أوساط الشعب العراقي وجعلته رمزًا لمقاومة الاحتلال الأجنبي.

ومع ذلك، فبالنسبة للولايات المتحدة والحكومة العراقية يُعتبر الصدر واعظا متطرّفا وعنيفا، ليس أقل خطورة من تنظيم “القاعدة في العراق”. وفي أعقاب التغيير الاستراتيجي للولايات المتحدة في العراق عام 2007، والذي عززت الولايات المتحدة أيضًا في إطاره قواتها في العراق بعشرات آلاف الجنود، هرب الصدر إلى إيران عندما شنّت جيوش الولايات المتحدة والعراق عملية مشتركة ضدّ “جيش المهدي”. بعد معارك طاحنة وخسائر فادحة، وفي أعقاب تسوية بينه وبين الحكومة العراقية بوساطة إيران، أعلن الصدر في شهر آب عام 2008 عن تفكيك الميليشيا وتحويلها إلى منظّمة رعاية اجتماعية بحتة.

https://www.youtube.com/watch?v=Lv08Xg5tlZg

بين عاميّ 2007-2010، كرّس الصدر وقته للدراسة الدينية في إيران من أجل أن يحظى بلقب آية الله الذي سيمنحه تأثيرا أوسع. وفي المقابل، شاركت للمرة الأولى “الحركة الصدرية” في انتخابات البرلمان العراقي عام 2010 وحظيت بنجاح كبير عندما حصدت 39 مقعدًا. بعد أن أعرب عن دعمه لنوري المالكي في منصب رئيس الحكومة، تم تتويج الصدر من قبل الباحثين بلقب “متوّج الملوك” في العراق بسبب قوته السياسية الكبيرة.

وفي أعقاب إقامة حكومة المالكي الثانية في شهر كانون الثاني عام 2011، عاد الصدر من المنفى إلى مسقط رأسه في النجف واستُقبل بترحيب وابتهاج من قبل الجماهير في المدينة. ومع انسحاب القوات الأمريكية الأخيرة من العراق في كانون الأول عام 2011، بدأ الصدر في تشكيل خطّ أكثر اعتدالا وبدأ بالتصريح بمصطلحات “العراق الديمقراطي” و “سيادة القانون”، وبرز تغيير في نهج الصدر مقارنة بالواعظ الشاب صاحب الخطاب المنفّر في السنوات السابقة. قال بعض المحلّلين بأنّ التغيير في نهج الصدر نابع من كونه قد طمح إلى التصالح مع عناصر القوة الأخرى في العراق وإنشاء إجماع وطني حوله وليس فقط من الطائفة الشيعية. وقدّر كثيرون بأنّ الصدر “يهيئ الأرضية” ليصبح رئيس حكومة في يوم من الأيام. ولذلك فوجئ الكثيرون عندما أعلن الصدر بشكل مفاجئ في شباط عام 2014، قبل شهرين من الانتخابات البرلمانية، بأنّه سيستقيل فورا عن الحياة السياسية وأنّه ليست هناك أية هيئة سياسية تمثّله أو تمثّل عائلته. وهكذا، بعد ست سنوات من تفكيك “جيش المهدي”، اختفى الصدر من الخطاب السياسي في العراق. ولكن ليس لوقت طويل.

عودة الصدر إلى الساحة العراقية

هل بعد انتهاء الحرب في العراق سيندمج الصدر بشكل نهائي في النظام السياسي كزعيم عراقي (AFP)
هل بعد انتهاء الحرب في العراق سيندمج الصدر بشكل نهائي في النظام السياسي كزعيم عراقي (AFP)

في شهر حزيران عام 2014، بعد يوم واحد من سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش، أعلن الصدر عن إقامة “سرايا السلام”، وهو تجسّد جديد لـ “جيش المهدي” الذي تم تفكيكه عام 2008، وذلك من أجل إيقاف تمدّد داعش. في نفس اليوم، توجّه إلى الشوارع 10000 من مقاتلي الميليشيا في عرض قوة مثير للإعجاب في حيّ الصدر الشيعي في بغداد، والذي سُمّي على اسم والد مقتدى. انضمّت الميليشيا إلى تنظيم أعلى للميليشيات الشيعية تحت مُسمى “الحشد الشعبي”، والذي تأسس بشكل خاصّ من أجل مواجهة تهديد داعش. في شهر أيلول عام 2014، أعلن الناطق باسم “سرايا السلام” فعليّا بأنّ التنظيم قد قتل 30 مقاتلا من داعش قرب مدينة أمرلي شرقي العراق. وبالمناسبة، لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يُقاتل فيها الصدر التنظيم السنّي المتطرّف، فإنّ داعش أيضًا هي تحوّل عن “القاعدة في العراق”، والتي قاتلت “جيش المهدي” خلال الحرب الأهلية بين عاميّ 2006-2007.

في شهر آذار عام 2015، شاركت “سرايا السلام” التابعة للصدر في القتال من أجل تحرير المدينة الشمالية تكريت، مكان ولادة صدام حسين. انضمّت ميليشيا الصدر إلى تحالف أوسع يشمل قوات الجيش العراقي؛ بقية الميليشيات الشيعية المشاركة في “الحشد الشعبي”؛ قوات “قدس” الإيرانية؛ ومن المفارقات: قوات سلاح الجو الأمريكي بل ومقاتلين من العشائر السنّية التي ضاقت ذرعًا بتعامل داعش مع السكان المحلّيّين. قال الناطق باسم التنظيم إنّهم يعملون “من أجل مساعدة مجتمع من المسلمين ومساعدة الشعب العراقي”. بعد عدة أسابيع من القتال الشرس، ذُكر في 12 نيسان بأنّ داعش انسحبت من المدينة وبأنّ قوات التحالف قد طهّرت آخر جيوب المقاومة.

ذو وجهين؟

رغم التعاون مع المقاتلين السنة، هناك تقارير عن مجازر وحرق منازل نفّذتها الميليشيات الشيعية في القرى السنّية حول تكريت. واستمرارا للخطاب “الوطني” الذي استخدمه الصدر في السنوات الماضية، لقد أدان الأعمال العدائية ضدّ السكان السنّة وأعلن بأنّ “سرايا السلام” لم تُشارك فيها. وفي تصريح مشابه في شهر شباط عام 2015، دعا الصدر اثنتين من الميليشيات الشيعية المتنافسة إلى تعليق عمليّاتهما في أعقاب اغتيال شيخ سنّي في بغداد. بشكل متناقض، قال الصدر بعد تلك الحادثة: “ما حدث يُثبت أنّ العراق لا يُعاني فقط من عوامل خارجية وإنما من ميليشيات مُلحدة. تعمل هاتان الجهتان على تقويض الحكومة العراقية وتشكّلان تهديدا أمنيا على البلاد”. تشير جميع هذه التصريحات على الأوجه المتعددة للصدر: فهو من جهة يقف على رأس ميليشيا طائفية ومن جهة أخرى يعرض نفسه كزعيم وطني وبراغماتي ويطمح لقيادة عموم الشعب العراقي بمختلف تنوعاته وطوائفه.

https://www.youtube.com/watch?v=3U9pvWU3lp0

والآن مع الانتصار في تكريت هناك علامات استفهام كثيرة حول مستقبل مقتدى الصدر المتقلّب. هل بعد انتهاء الحرب في العراق سيندمج الصدر بشكل نهائي في النظام السياسي كزعيم وطني وسيفكّك أو يدمج الميليشيا الخاصة به مع قوات الأمن العراقية؟ أم إنّ الأحداث في اليمن ستؤدي إلى عودة الصدر الطائفي والمتطرّف للقتال في إحدى الدول في المنطقة؟

في الماضي شاركت عدة ميليشيات شيعية من العراق (مثل حزب الله من لبنان وبدعم إيراني) في القتال بسوريا إلى جانب جيش بشار الأسد. ومن بينها، كان هناك أيضا أعضاء من “جيش المهدي” سابقا والذين اعترفوا بأنّهم قاتلوا من أجل الدفاع عن الأماكن الشيعية المقدّسة في سوريا. وكذلك من الجدير بالذكر بأنّ مركز سكن الشيعة هو في جنوب العراق، على مسافة بضعة كيلومترات من الحدود السعودية الشمالية. إذا حدث تدهور إقليمي بسبب الحرب في اليمن، فإنّ “سرايا السلام” قد تُستخدم كوكيل القوة التابع لإيران للتحرّش بالحدود السعودية.

نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع ‏Near East‏

اقرأوا المزيد: 1193 كلمة
عرض أقل