انقضى أكثر من عشر سنوات على عملية إخلاء مستوطنات قطاع غزة، وهي “فك الارتباط الأحادية الإسرائيلية”، عملية التي اطلقت عليها إسرائيل اسم “الانفصال” ولكن الجرح الذي خلفتها هذه العملية في المجتمع الإسرائيلي لم يندمل بعد.
“فجأة تحول الجنود إلى أعداء.. عندما جاءت المجندات لإخلائنا، جعلنا علم دولتنا الموجود على ملابسهن نتساءل – إن كنّ يمثلن دولة إسرائيل فمن نحن إذًا؟”
قام الجيش الإسرائيلي خلال ثمانية أيام فقط، في شهر آب من العام 2005، بإخلاء كل المستوطنات اليهودية في قطاع غزة وإخلاء بعض المستوطنات أيضًا في شمال الضفة الغربية. فرض شرطيون وجنود إسرائيليون، في 17 آب، أي بعد يومين من تسليم أوامر الإخلاء للمواطنين الإسرائيليين، حصارًا على المستوطنات وبدأوا بإخلاء المواطنين الذين رفضوا أن يُخلوا بيوتهم بمحض إرادتهم بالقوة. تم الانتهاء من إخلاء كل المستوطنات في 22 آب. أنهت قوات أمن إسرائيلية بعد يوم من ذلك عملية إخلاء المستوطنات اليهودية في شمال الضفة الغربية أيضًا.
شارك نحو 42,000 جندي وشرطي في إخلاء ما يقارب 10,000 شخص من بيوتهم ضمن خطة الانفصال. بلغت تكلفة عملية الانفصال 2.5 مليار دولار، أكثر بضعفين من التكلفة التي كانت متوقعة في البداية. نُقل الذين تم إخلاؤهم إلى مساكن مؤقتة، بدءا من فنادق وصولاً إلى مدن خيام. لم يستقر كل الإسرائيليين الذين تم إخلاؤهم من بيوتهم في قطاع غزة حتى اليوم في بيوت ثابتة ولم تنتهِ بعد عملية إعادة تأهيلهم.
كان الجمهور الإسرائيلي منقسمًا جدًا حول الانسحاب من غزة، لدرجة أنه كانت هناك خشية كبيرة من حدوث عصيان مدني. تحصنت، في أحد المستوطنات، مجموعة من المُعارضين لعملية الإخلاء وأعلنت عن إقامة حركة “حكم ذاتي يهودي” ستناضل من أجل حقها في البقاء في غزة، وهدد قائد تلك المجموعة جنود الجيش الإسرائيلي هناك ببندقية 16M. وقام أكثر من ألف جندي إسرائيلي، من بينهم قناصون، بتطويق تلك المستوطنة إلى أن استسلموا.
يشهد على عمق ذلك الجرح الذي شعر به من تم إخلاؤه مقطع من سجلات الصحفية الإسرائيلية، طال نويمن، التي كانت ضمن الذين تم إخلاؤهم: “فجأة تحول الجنود إلى أعداء”، كتبت وأضافت أنه “عندما جاءت المجندات لإخلائنا، جعلنا علم دولتنا الموجود على ملابسهن نتساءل – إن كنّ يمثلن دولة إسرائيل فمن نحن إذًا؟”
تُعلمنا قصة المستوطنين الذين تم إخلاؤهم كيف كانت تبدو الحياة في قطاع غزة بأعين يهودية من جهة، وكيف أدى إخلاؤهم إلى انهيار كبير في ثقة الإسرائيليين بعد تسليم مناطق للفلسطينيين من جانب واحد.
انتقل أحد الذين تم إخلاؤهم من غوش قطيف، تسيون يتسحاك، وهو ناشط سياسي محلي كان يمارس عمله في الزراعة مثله مثل غالبية السكان في غوش قطيف، قبل اندلاع الانتفاضة الأولى. يصف المستوطنة بصفتها مكانًا ريفيًا هادئًا، تطل على مناظر تلال رملية ويسود فيها هواء نقي. يقول “كانت الحياة هناك ساحرة ورائعة”.
رغم ذلك، لم يتجاهل الإسرائيليون أيضًا، الجوانب المُعقدة المتعلقة بحياتهم كإسرائيليين يهود “وسط مجموعة من الفلسطينيين المُسلمين”، وفقًا لوصف يتسحاك. تحوّل سكان قطاع غزة الإسرائيليين، مع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، إلى هدف لمئات الهجمات الإرهابية الفلسطينية – عمليات الدهس واطلاق النار والطعن، وفي الانتفاضة الثانية أُضيفت إلى ذلك أيضًا مئات القذائف وصواريخ القسام التي كانت تسقط على البلدات اليهودية، يوميًّا تقريبًا. “على الرغم من كل ذلك الحزن والأسى”، يقول يتسحاك، “عشنا هناك الحياة بحلوها ومرها”.
ونشأت، على الرغم من الخطر الأمني، علاقات صداقة قوية جدًا بين بعض الجيران الإسرائيليين والفلسطينيين – “كان هناك متطرفون أيضًا، في كلا الجانبين، إنما ليس ذلك هو ما أثّر في صداقتنا”. وكشف خلال كلامه أن العلاقة بين هؤلاء الجيران لا تزال قائمة حتى اليوم – اليوم يسكن يتسحاك في بلدة قرب أشكلون ويسكن جيرانه داخل قطاع غزة. يقول يتسحاك، الذي يتكلم أيضًا اللغة الفلسطينية المحلية جيدا: “نحن أصدقاء منذ 30 عامًا”. “نتواصل مع بعضنا في الأعياد ونتبادل التهاني. شعر الأصدقاء المُقربون من غزة، من كلا الجانبين، بالأسى فعلاً عندما تمت عملية الانفصال”.
وافق سكان المستوطنة التي كان يسكن فيها تسيون يتسحاك، “بيئات ساديه”، على إخلاء المستوطنة طوعًا مع وصول أوامر الإخلاء التي أصدرتها الحكومة الإسرائيلية، وبعد مفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية تلقى السكان وعدًا أن سكان تلك المستوطنة سيبقون معًا بعد هدم بيوتهم. ولكن، لم تكن كل المستوطنات محظوظة مثلهم. واجه الكثير من تلك المستوطنات الانفصال والتفكك، انتقلت عائلات كثيرة للعيش في بيوت متنقلة مؤقتة، وبات الكثير من المزارعين الذين تم إخلاؤهم من بيوتهم عاطلين عن العمل وواجهوا صعوبات في إعالة عائلاتهم. يقول يتسحاك بألم شديد: “هناك أناس انهاروا تمامًا، ولم يتمكنوا من التعافي تماما حتى اليوم”.
كانت عملية الانفصال خطوة من جانب واحد وكان من المُفترض أن تدفع إسرائيل نحو التوصل إلى ترتيبات ثابتة مع الفلسطينيين والاعتراف بالدولة الفلسطينية أيضا، ولكن رافقت تنفيذ تلك الخطوة إخفاقات متتالية، وكان آخرها، سيطرة حماس على قطاع غزة منذ عام 2007، وتجدد الصراع العنيف مع الفلسطينيين في القطاع. يشعر المُجتمع الإسرائيلي أنه قدّم تضحية كبيرة دون مقابل، ولم تصب تلك التضحية في مصلحة السلام وإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، بل بالعكس فقد أدت إلى تصعيد الأوضاع.