مشروع خاص - المستوطِنون

لمحة حصرية على المستوطنات الإسرائيلية خارج الخط الأخضر: من "الوعد الإلهي" القديم وحتى جيل المستقبل الضائع في تلال الضفة
مستوطنات غزة - الجرح الذي لا يندمل (AFP)
مستوطنات غزة - الجرح الذي لا يندمل (AFP)

مستوطنات غزة – الجرح الذي لا يندمل

مرة واحدة في التاريخ بادرت إسرائيل، بخطوة أحادية الجانب، إلى التخلي عن أراضٍ لصالح الفلسطينيين. كيف تحولت هذه الخطوة إلى إخفاق وطني يُهدد أي اتفاق مستقبلي؟

انقضى أكثر من عشر سنوات على عملية إخلاء مستوطنات قطاع غزة، وهي “فك الارتباط الأحادية الإسرائيلية”، عملية التي اطلقت عليها إسرائيل اسم “الانفصال” ولكن الجرح الذي خلفتها هذه العملية في المجتمع الإسرائيلي لم يندمل بعد.

“فجأة تحول الجنود إلى أعداء.. عندما جاءت المجندات لإخلائنا، جعلنا علم دولتنا الموجود على ملابسهن نتساءل – إن كنّ يمثلن دولة إسرائيل فمن نحن إذًا؟”

قام الجيش الإسرائيلي خلال ثمانية أيام فقط، في شهر آب من العام 2005، بإخلاء كل المستوطنات اليهودية في قطاع غزة وإخلاء بعض المستوطنات أيضًا في شمال الضفة الغربية. فرض شرطيون وجنود إسرائيليون، في 17 آب، أي بعد يومين من تسليم أوامر الإخلاء للمواطنين الإسرائيليين، حصارًا على المستوطنات وبدأوا بإخلاء المواطنين الذين رفضوا أن يُخلوا بيوتهم بمحض إرادتهم بالقوة. تم الانتهاء من إخلاء كل المستوطنات في 22 آب. أنهت قوات أمن إسرائيلية بعد يوم من ذلك عملية إخلاء المستوطنات اليهودية في شمال الضفة الغربية أيضًا.

إخلاء المواطنين الذين رفضوا أن يُخلوا بيوتهم بمحض إرادتهم بالقوة (AFP)
إخلاء المواطنين الذين رفضوا أن يُخلوا بيوتهم بمحض إرادتهم بالقوة (AFP)

شارك نحو 42,000 جندي وشرطي في إخلاء ما يقارب 10,000 شخص من بيوتهم ضمن خطة الانفصال. بلغت تكلفة عملية الانفصال 2.5 مليار دولار، أكثر بضعفين من التكلفة التي كانت متوقعة في البداية. نُقل الذين تم إخلاؤهم إلى مساكن مؤقتة، بدءا من فنادق وصولاً إلى مدن خيام. لم يستقر كل الإسرائيليين الذين تم إخلاؤهم من بيوتهم في قطاع غزة حتى اليوم في بيوت ثابتة ولم تنتهِ بعد عملية إعادة تأهيلهم.

كان الجمهور الإسرائيلي منقسمًا جدًا حول الانسحاب من غزة، لدرجة أنه كانت هناك خشية كبيرة من حدوث عصيان مدني. تحصنت، في أحد المستوطنات، مجموعة من المُعارضين لعملية الإخلاء وأعلنت عن إقامة حركة “حكم ذاتي يهودي” ستناضل من أجل حقها في البقاء في غزة، وهدد قائد تلك المجموعة جنود الجيش الإسرائيلي هناك ببندقية 16‏M. وقام أكثر من ألف جندي إسرائيلي، من بينهم قناصون، بتطويق تلك المستوطنة إلى أن استسلموا.

يشهد على عمق ذلك الجرح الذي شعر به من تم إخلاؤه مقطع من سجلات الصحفية الإسرائيلية، طال نويمن، التي كانت ضمن الذين تم إخلاؤهم: “فجأة تحول الجنود إلى أعداء”، كتبت وأضافت أنه “عندما جاءت المجندات لإخلائنا، جعلنا علم دولتنا الموجود على ملابسهن نتساءل – إن كنّ يمثلن دولة إسرائيل فمن نحن إذًا؟”

في خلال الإخلاء كانت هناك خشية كبيرة من حدوث عصيان مدني (Flash90)
في خلال الإخلاء كانت هناك خشية كبيرة من حدوث عصيان مدني (Flash90)

تُعلمنا قصة المستوطنين الذين تم إخلاؤهم كيف كانت تبدو الحياة في قطاع غزة بأعين يهودية من جهة، وكيف أدى إخلاؤهم إلى انهيار كبير في ثقة الإسرائيليين بعد تسليم مناطق للفلسطينيين من جانب واحد.

انتقل أحد الذين تم إخلاؤهم من غوش قطيف، تسيون يتسحاك، وهو ناشط سياسي محلي كان يمارس عمله في الزراعة مثله  مثل غالبية السكان في غوش قطيف، قبل اندلاع الانتفاضة الأولى. يصف المستوطنة بصفتها مكانًا ريفيًا هادئًا، تطل على مناظر تلال رملية ويسود فيها هواء نقي. يقول “كانت الحياة هناك ساحرة ورائعة”.

رغم ذلك، لم يتجاهل الإسرائيليون أيضًا، الجوانب المُعقدة المتعلقة بحياتهم كإسرائيليين يهود “وسط مجموعة من الفلسطينيين المُسلمين”، وفقًا لوصف يتسحاك. تحوّل سكان قطاع غزة الإسرائيليين، مع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، إلى هدف لمئات الهجمات الإرهابية الفلسطينية – عمليات الدهس واطلاق النار والطعن، وفي الانتفاضة الثانية أُضيفت إلى ذلك أيضًا مئات القذائف وصواريخ القسام التي كانت تسقط على البلدات اليهودية، يوميًّا تقريبًا. “على الرغم من كل ذلك الحزن والأسى”، يقول يتسحاك، “عشنا هناك الحياة بحلوها ومرها”.

"كانت الحياة هناك رائعة"، مسيرة ضد حطة الانفصال في قطاع غزة (AFP)
“كانت الحياة هناك رائعة”، مسيرة ضد حطة الانفصال في قطاع غزة (AFP)

ونشأت، على الرغم من الخطر الأمني، علاقات صداقة قوية جدًا بين بعض الجيران الإسرائيليين والفلسطينيين – “كان هناك متطرفون أيضًا، في كلا الجانبين، إنما ليس ذلك هو ما أثّر في صداقتنا”. وكشف خلال كلامه أن العلاقة بين هؤلاء الجيران لا تزال قائمة حتى اليوم – اليوم يسكن يتسحاك في بلدة قرب أشكلون ويسكن جيرانه داخل قطاع غزة. يقول يتسحاك، الذي يتكلم أيضًا اللغة الفلسطينية المحلية جيدا: “نحن أصدقاء منذ 30 عامًا”. “نتواصل مع بعضنا في الأعياد ونتبادل التهاني. شعر الأصدقاء المُقربون من غزة، من كلا الجانبين، بالأسى فعلاً عندما تمت عملية الانفصال”.

وافق سكان المستوطنة التي كان يسكن فيها تسيون يتسحاك، “بيئات ساديه”، على إخلاء المستوطنة طوعًا مع وصول أوامر الإخلاء التي أصدرتها الحكومة الإسرائيلية، وبعد مفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية تلقى السكان وعدًا أن سكان تلك المستوطنة سيبقون معًا بعد هدم بيوتهم. ولكن، لم تكن كل المستوطنات محظوظة مثلهم. واجه الكثير من تلك المستوطنات الانفصال والتفكك، انتقلت عائلات كثيرة للعيش في بيوت متنقلة مؤقتة، وبات الكثير من المزارعين الذين تم إخلاؤهم من بيوتهم عاطلين عن العمل وواجهوا صعوبات في إعالة عائلاتهم. يقول يتسحاك بألم شديد: “هناك أناس انهاروا تمامًا، ولم يتمكنوا من التعافي تماما حتى اليوم”.

كانت عملية الانفصال خطوة من جانب واحد وكان من المُفترض أن تدفع إسرائيل نحو التوصل إلى ترتيبات ثابتة مع الفلسطينيين والاعتراف بالدولة الفلسطينية أيضا، ولكن رافقت تنفيذ تلك الخطوة إخفاقات متتالية، وكان آخرها، سيطرة حماس على قطاع غزة منذ عام 2007، وتجدد الصراع العنيف مع الفلسطينيين في القطاع. يشعر المُجتمع الإسرائيلي أنه قدّم تضحية كبيرة دون مقابل، ولم تصب تلك التضحية في مصلحة السلام وإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، بل بالعكس فقد أدت إلى تصعيد الأوضاع.

اقرأوا المزيد: 743 كلمة
عرض أقل
تلال الابدية (Noam Moskowitz)
تلال الابدية (Noam Moskowitz)

تلال الأبدية

الحلقة الثانية: لمحة حصرية عن الجيل الشاب من المستوطِنين، الذي يهرب من البيت إلى الغرب المتوحّش في وسط القرى الفلسطينية

كل مُشاهد يعرف أسطح المنازل الحمراء في المستوطنات الإسرائيلية، والتي ترمز إلى انتقال النشاط الاستيطاني من خلال ممارسة متمرّدة وعفوية إلى إقامة أحياء برجوازية. تقف الآن أمام قراء موقع “المصدر” فرصة لإلقاء نظرة خاطفة إلى داخل مستوطنة أخرى – تُعتبر “أول البؤر الاستيطانية” في إسرائيل. البؤرة الاستيطانية هي مستوطنة سرية، لا تعترف دولة إسرائيل بها – بل وفي أحيان كثيرة تهدمها.

نظرا لذلك، فبؤرة “تلال الأبدية” أو باسمها العبري “جفعوت عولام”، خالية من الأسطح الحمراء، الشوارع المرتبة والأسر المتدنية الشابة ذات الكثير من الأطفال. بدلا من ذلك، منذ 19 عاما فيها مزرعة وماعز ودجاج وتحديدا الكثير من الشباب العازبين الذين لا يتدبرون أمورهم في أي مكان آخر.

الشبان الذين يأتون إلى هذه المستوطنة هم في الأصل ليسوا الشبان الذي كنتم تتوقعونهم – لا يضعون السوالف والقلنسوة، ولا يدير معظمهم نمط حياة متدين. إنهم يعيشون ويعملون في المستوطنة سبعة أيام في الأسبوع، في حظيرة الماعز والكرم وورشة الحدادة وقنّ الدجاج وغيرها. يصل معظمهم لقضاء عدة أشهر فقط، وبعضهم يبقى لسنوات طويلة.

إذًا لماذا وصلوا إلى هذه التلة المعزولة، التي تمرّ من وسط قرى فلسطينية معادية، وفي الطريق إليها هناك نقاط عديدة دفع فيها يهود آخرون حياتهم ثمنا لاختيار العيش فيها؟

شيرا

"هنا يمكنك أن تفعل ما تشاء" (Noam Moskowitz)
“هنا يمكنك أن تفعل ما تشاء” (Noam Moskowitz)

تبلغ شيرا الخامسة والعشرين من عمرها، ووصلت إلى المستوطنة قبل أربع سنوات، وعملت تقريبًا في كل واحد من مجالات العمل فيها. ولاحقا أخذت استراحة مؤقتة وعادت إلى بيت والديها من أجل استكمال دراستها الأكاديمية، والآن تنهي البكالوريوس ووجهتها نحو المزرعة مجددا.

“أنت لا تعيش في ظل إطار الوالدين وإطار المجتمع هنا”

لقد جاءت رافقتنا بشكل خاصّ أثناء زيارة المكان. أتممنا كل الطريق من تل أبيب إلى تلّة تقع في منطقة نابلس، وبعد أن اجتزنا الحاجز إلى الضفة، تغيّر المشهد دفعة واحدة. “الأمر شبيه قليلا بغرب متوحش هنا”، قالت محاولة منها أن تجهّزنا للتغيير في الأجواء. وقد تبدّل المشهد المدني المألوف – المباني العالية، الشوارع الواسعة والمزدحمة والسماء الباهتة، بتلال واسعة تمتدّ حتى الأفق، وظهرت بينها كل بضع كيلومترات قرية فلسطينية أو مستوطنة يهودية، وكانت تطل فوقها سماء زرقاء صافية.

"تحديدا فالعمل الشاقّ هنا، الزراعي والرتيب، يحرّرك من التفكير" (Noam Moskowitz)
“تحديدا فالعمل الشاقّ هنا، الزراعي والرتيب، يحرّرك من التفكير” (Noam Moskowitz)

يمرّ الشارع في الطريق إلى المستوطنة في وسط قرية حوّارة الفلسطينية. وكانت رحلتنا في يوم الجمعة صباحا، في رمضان. وكانت جميع الدكاكين مغلقة ولم يكن أي شخص تقريبا في الشارع ولا أية سيارة في الطريق. إنه مشهد نادرا ما يمكن رؤيته عادة في القرية الصغيرة التي يزدحم شارعها الرئيسي جدا في الأيام العادية، حتى أنّه قد يستغرق عبور كيلومتر واحد ساعة كاملة. ولكننا لا نهدف إلى الحديث عن القرية، ووجهتنا نحو جيرانها.

مع الوصول إلى قمة التلة، تنفّست شيرا الصعداء. لقد اشتقتُ إلى المكان. “هذا المكان دائما يرحب بي”، كما توضح.

“هذا رائع، تحديدا فالعمل الشاقّ هنا، الزراعي والرتيب، يحرّرك من التفكير. في الدراسة أنت تفكر طوال الوقت، ولكن هنا أنت لست بحاجة إلى التفكير”، كما توضح قرارها للعودة إلى العمل في المزرعة رغم أنها تحمل لقبا أكاديميا.

توضح شيرا الاختناق الذي تشعر به عندما تعيش في منزل والديها، مقابل شعور الحرية الذي تشعر به هنا. “لا أحد يحاكمك هنا، أنت لا تعيش في ظل إطار الوالدين، وإطار المجتمع، يمكنك أن تكون على حقيقتك، وأن تعيش كما يحلو لك من دون أن ينتقدك أحد”.

حايا

"بحثتُ هنا عن الهدوء، العزلة المطلقة" (Noam Moskowitz)
“بحثتُ هنا عن الهدوء، العزلة المطلقة” (Noam Moskowitz)

إنها مسؤولة عن المطبخ وتطبخ لجميع العمال منذ نصف عام ووصلت من القدس، من بيت متدين يقع في أحد أفضل الأحياء في غرب المدينة. قبل مجيئها إلى المزرعة، قبعت في السجن العسكري لأنها تهرّبت من التجنيد للجيش الإسرائيلي. “من المفضل أن أكون هنا”، كما تقول.

“لقد هربت من كل الحياة، ولم تحظ بمعاملة جيدة، وقد وصلت إلى المستوطنة وهي متعبة، ولا حول ولا قوة …”. كما يعرضها أحد العمال مازحا. “ما مشكلتك أنت”؟ تقول حايا مستاءة. ولكنه يستمر بابتسامة ساخرة، “نحن اهتممنا بها، ورعيناها”.

“لا أحب تحديد تعريفات أبدا في الحياة”

تأخذنا حايا لنرى المبنى الذي يُستخدم مطبخا، غرفة طعام ومكانا للاجتماع. اليوم فقط عادت إلى المستوطنة بعد أن كانت خلال أيام العطلة في منزل عائلتها، ويرحب أصدقاؤها بها، وكل أحد منهم بطريقته الخاصة – “ماذا حدث لشعرك؟ وضعتِ قطة عليه”؟ يقول لها أحدهم. فأنا أنظر بدهشة – فيتضح أن خصلة شعرها المُجدلة المتدلية في طرف جديلتها هي جديدة.

"أنا اليوم أعيش هذه الحياة ولكن غدا يمكنني ان أعيش حياة أخرى" (Noam Moskowitz)
“أنا اليوم أعيش هذه الحياة ولكن غدا يمكنني ان أعيش حياة أخرى” (Noam Moskowitz)

بشكل عام، لا تبدو حايا تماما مثل فتاة متديّنة ورعة يدفعها حماس ديني، كما متبع التفكير حول فتيات المستوطنات. إنها ترتدي بنطالا قصيرا وقميصا ضيقا وتجلس بوضعية مبتذلة.

عندما سألتها إذا تعيش نمط حياة متدين مثل والديها أم لا، رفضت بشدّة أن تجيب عن ذلك. “لا أحب هذا السؤال، أنا اليوم أعيش هذه الحياة ولكن غدا يمكنني ان أعيش حياة أخرى. لا أحب تحديد تعريفات أبدا في الحياة”.

إنّ المشاعر الفردية القوية الخاصة بحايا تُميّز أيضا شبابا آخرين في المستوطنة كانوا قد واجهوا صعوبة في الصمود أمام الضغوط الاجتماعية في البيت وفي حياتهم السابقة. “ما جذبني إلى هذا المكان هو الهدوء، العزلة المطلقة”. تقول حايا، “في نهاية المطاف كل شخص يبحث عن شيء آخر”.

آفي

"هذا المكان في نظري هو العالم الحقيقي" (Noam Moskowitz)
“هذا المكان في نظري هو العالم الحقيقي” (Noam Moskowitz)

يعمل آفي في حظيرة الماعز منذ خمسة أشهر. لقد نشأ في بلدة حاريدية، متديّنة، تقع قرب القدس. يقول عن البيئة التي وصل منها “إنه عالم آخر، حيث يعيش والداي”. يوضح أن والداه يعيشا في مكان مختلف عنه ليس ماديا فقط، بل أيضا تفكيريا. “يقول والداي إنّ هذا ليس العالم الحقيقي”، كما يوضح، ولكن بالنسبة له “فهذا هو فعلا العالم الحقيقي”.

“يقولون لي مندهشين ‘أنت تحلب الماعز؟!’ فأجيب نعم، هذا هو عملي، وأنا احبه”

لماذا يفكرا على هذا النحو؟ سألته. “لأنهما لا يفهمان ذلك”، تنفجر حايا، “إنهما لا يعرفان طريقة الحياة هذه، ويفضّلان نمط حياتهما، ولكن من لا يسير وفق نهج حياتهما، ومن يعيش حياة في البحث عن الحياة الذاتية، فهذه الحياة لا تلائمه”!

ويوافق آفي على أقوالها. “المشكلة هي أنه تسود الفوضى في المدينة. أردنا أن نعيش حياة أكثر هدوءا، من دون التفكير في المال. تتوفر هنا كل احتياجاتي المعيشة. عندما أذهب إلى القدس يقولون لي مندهشين “أنت تحلب الماعز؟!” فأجيب نعم، هذا هو عملي، وأنا احبه”.

يوناتان

"كان مسار حياتي مختلفا وأنا سعيد لأنني أجريت هذا التغيير" (Noam Moskowitz)
“كان مسار حياتي مختلفا وأنا سعيد لأنني أجريت هذا التغيير” (Noam Moskowitz)

يوناتان هو واحد من بين شابين وحيدين قدما إلى المكان من بيت علماني تماما. وفي القرية التعاونية التي نشأ فيها في شمال إسرائيل يعمل معظم الناس في التكنولوجيا الفائقة ويحملون ألقابا أكاديمية متقدمة ويتقاضون أجورا مرتفعة، وسياسيا، يؤيد معظمهم التسوية السياسية ويعارضون المستوطنات. ولكنه قرر الذهاب في طريق أخرى.

“في المدرسة كنت اتعلم الرياضيات والإلكترونيات تعليما فائقا. هكذا كان نمط حياتي. ولكن لم أحبّه، ولم أستمتع به”

“قررت أنني أريد أن أتعلّم حرفة ذات عمل جسماني. فاتصلّت بورشات الحدادة في كل البلاد، وكان هذا هو المكان الوحيد الذي قلت فيه “ليست لدي أية خبرة” فأجابوني “ممتاز، تعال وسنعلّمك المهنة”.

“كان مسار حياتي مختلفا تماما وأنا سعيد بهذا التغيير. في المدرسة كنت التلميذ الذكي الذي تعلم الرياضيات والإلكترونيات تعليما فائقا. هكذا كان نمط حياتي. ولكن لم أحبّه، ولم أستمتع به”.

“الممتع في الحياة هو أن نعيشها، نشعر بها، من خلال الأعمال اليدوية مثل العمل في الكرم، ورشة الحدادة، وطالما أننا لا نفعل شيئا بأيدينا فلا نفهمها. وهذا يثير شعورا هائلا من الرضا. هذه حياة ممتعة ببساطة”، كما يقول وعيناه تبرقان.

"هذا المكان دائما يرحب بي" (Noam Moskowitz)
“هذا المكان دائما يرحب بي” (Noam Moskowitz)

“في الأسبوع الذي وصلت فيه إلى هنا لم أفكر أن الحديث يدور عن مستوطنة، وكنت فرحا جدا. قلت في قرارة نفسي، “واو، أنا سعيد”. بعد مرور الأسبوع الأول فقط، عندما عدت إلى زيارة عائلتي، قال لي صديقي “أنت لا تعرف ماذا تفعل، موضحا له أنه يعيش في المستوطنة أشخاص متطرفون”.

رغم أن يوناتان وفقا لكلامه أحبّ المكان، يبدو أنه الوحيد بين الأشخاص الذين أجريتُ معهم المقابلات في التقرير الذي يعرف التناقض بين الأعمال اليدوية والحياة الزراعية الريفية التي يحبّها جدا وبين العنف والصراعات القائمة دائما خلف الحياة في الضفة الغربية. “اكتشفت أنّه مكان معقّد، قاس يربّي أشخاصا عنيفين يرتكبون أعمال بشعة”، وهو ينظر نحو الأسفل.

ولكنه بالفعل مفتون بسحر المزرعة، ويرغب البقاء فيها في الوقت الراهن. ولذلك فهو مضطر في بعض الأحيان إلى أن يكون مرنا عند الضرورة. ” من الممكن أنه تحدث هنا أمور لا أوافق عليها. فأحاول أن أفحص ما هو ليس صحيحا في مبادئي، وما هو صحيح وممكن”.

شباب وصبايا مستوطنة تلال الابدية (Noam Moskowitz)
شباب وصبايا مستوطنة تلال الابدية (Noam Moskowitz)
اقرأوا المزيد: 1201 كلمة
عرض أقل
الحاخام أبراهام يتسحاق هكوهين كوك
الحاخام أبراهام يتسحاق هكوهين كوك

الوعد الإلهي

الحلقة الأولى من السلسلة ستكشف عن الدوافع الروحية والدينية الكامنة خلف حركة الاستيطان، الكتابات المقدسة وحتى الحاخامات الذين قادوا الحشود

هناك من يعتبر الحركة الصهيونية وليدة القومية الأوروبية الحديثة، بل كانت الغالبية المهيمنة من النشطاء الذين قادوا إقامة دولة إسرائيل من العلمانيين تماما وتنصّلوا من الارتباط بالدين العملي تماما. ولكن من أجل فهم المستوطِنين، يجب العودة إلى آيات قديمة في الكتاب المقدس، كانت قد أقنعتهم أنّ إقامة دولة إسرائيل أصلا هي وعد لإبراهيم من الله وأنّ هدفها هو تحقيق الخلاص.

الوعد

من ناحية الفكرة، فإنّ حركة الاستيطان اليهودية ليست نتيجة لاحتلال الأراضي في حرب عام 67، وأيضا ليست نتيجة قيام دولة إسرائيل عام 48. لقد دفعها شوق الشعب اليهودي للعودة إلى “أرض الميعاد” – وهي البلاد التي يسميها اليهود “أرض إسرائيل” في قلب الشرق الأوسط. من أجل فهمها يجب العودة إلى سنوات مضت، إلى الوعد الذي منحه الله، وفقا للمكتوب في الكتاب المقدس، لآباء الشعب اليهودي الثلاثة: إبراهيم، إسحاق ويعقوب، والتي بحسبها وُعِد ذرية هؤلاء الآباء، بنو إسرائيل، بهذه البلاد، ووُصفت مساحتها على أنها من نهر مصر غربا حتى نهر الفرات في الشمال الشرقي.

ولكن وفقا للتقاليد اليهودية، بعد أن لم ينفّذ شعب إسرائيل تعليمات الإله كما هو مطلوب منه، فقد حدث شرخ بينه وبين ربّه، والذي دمّر الهيكل الذي بُني تكريما له ونفى الشعب من أرضه في القرن السادس قبل الميلاد، ومنذ ذلك الحين أصبح شعب إسرائيل يرتقب عودته إلى الأرض التي وُعد بها.

وفقا للأدبيات اليهودية الصوفية التي كُتبت بعد الخروج إلى الشتات، فإنّ الشرخ بين بني إسرائيل والله سوف يلتئم. وعندما يلتئم سيأتي الله بالخلاص للعالم كله. يعتقد أحد التفسيرات أنّه لا يجب الانتظار بشكل غير فعال إلى أنّ يلتئم الشرخ تلقائيا، وإنما يجب العمل على التئامه وبذلك تسريع مجيء الخلاص للعالم. إذا كان الأمر كذلك، فكيف سيلتئم الشرخ الذي نشأ عندما نُفي شعب إسرائيل من الأرض التي وعد الله بها إبراهيم؟ وفقا لنفس التفسير، من خلال العودة إلى البلاد وتحقيق الوعد ‘سأعطي لك هذه البلاد’. إنّ الاعتقاد أنّ مهمة شعب إسرائيل هي تحقيق الخلاص للعالم، وأنّ عودة اليهود إلى أرض الميعاد ستسرّع من مجيئه، كان وقودا وحرّك اليهود المتديّنين أيضا للانضمام إلى الحركة الصهيونية العلمانية.

كان لهذا التيار في الصهيونية زعيم ديني وروحي واضح، وهو الحاخام أبراهام يتسحاق هكوهين كوك، ويلقب بالحاخام كوك (الأب). عاش حتى سنّ الأربعين في أوروبا الشرقية، ولكن في أعقاب دعوة يهود يافا إليه ليكون حاخامهم، هاجر إلى فلسطين عام 1904، وهكذا بدأت -قصته مع الصهيونية. “نحن نعترف ونؤمن أنّ خلاص إسرائيل سيأتي من خلال الخلاص الواضح، الذي قطعناه على أنفسنا والذي أعطانا الله إياه لإحراز التقدم من خلال: شراء البلاد، تخليصها، العمل فيها وبناؤها، احتلالها بفتوحات روحية وعملية”.

بن غوريون يخاطب الكنيست (Wikipedia)
بن غوريون يخاطب الكنيست (Wikipedia)

أراد الحاخام كوك, أمام شخصيات التيار المركزي في الصهيونية، الذين ادعوا أنّه “ليست هناك علاقة بين الصهيونية والدين”، تأسيس تيار بديل يعمل وفقا للافتراض المعكوس – أنّ دولة إسرائيل متعلقة بالدين تعلقا ثابتا. “الحركة القومية المرتبطة ببناء الأمة في أرض إسرائيل هي حركة إلهية ظاهرة”، كما كتب.

في العام 1947 وافقت الأمم المتحدة على قرار التقسيم، والتي بحسبها ستُقسم أرض إسرائيل – فلسطين إلى دولتين: دولة يهودية ودولة عربية. رفضت القيادة العربية هذا الاقتراح، بينما قبلته القيادة اليهودية، ولكن بصعوبة كبيرة. من جهة، كان ذلك اعترافا من الأمم المتحدة بحقّ الشعب العبري بالاستقلال السياسي، ولكن من جهة أخرى، تضمّن هذا الاعتراف طلبا مؤلما – وهو التنازل عن نحو نصف مساحة البلاد، وقد عارض قسم كبير من اليهود ذلك. “الشعب العبري لم ولن يعترف أبدا بتقطيع أوصال وطنه” كما أعلنت بعض المنظمات الصهيونية.

التحقيق

بعد قرار الأمم المتحدة تم إعلان قيام دولة إسرائيل وفي الوقت نفسه اندلعت حرب عام 48. اعتبر التيار الديني في الصهيونية، والمسمى أيضًا “الصهيونية الدينية”، إقامة دولة إسرائيل عام 1948 بمثابة معجزة إلهية – كبداية عملية الخلاص وتحقيق الوعد التوراتي. ولكن رافق الفرح الأكبر بتأسيس كيان قومي للشعب اليهودي في أرض الميعاد ألم بسبب تقسيم البلاد.

“في تلك الليلة الشهيرة التي جاء فيها القرار الإيجابي لقادة الأمم المتحدة… عندما خرج كل الشعب للاحتفال بمشاعر فرحه، لم أستطع الخروج والانضمام للفرح… أين الخليل الخاصة بنا – هل ننسى ذلك؟! وأين نابلس الخاصة بنا – هل ننسى ذلك؟! وأين أريحا الخاصة بنا- هل ننسى ذلك؟!” لم يقل كلمات الأسى هذه أي شخص، وإنما قالها ابن الحاخام كوك، الذي اعتُبر بعد وفاة والده زعيما روحيا رائدا في الصهيونية الدينية. والفرصة التي قالها فيها هي أكثر إثارة للاهتمام – قبل ثلاثة أسابيع فقط من اندلاع حرب 67 فجأة ومن دون استعداد مسبق، وعندما فجأة سيطرت إسرائيل على أراض كبيرة لم تكن مشمولة في اتفاق التقسيم الذي وقعت عليه عام 1947: في الضفة الغربية، في غزة، في سيناء والجولان. ورغم أن هذه المناطق لم تكن جزءا من مخطط الأمم المتحدة للدولة اليهودية، فقد كانت تلك الأراضي جزءا من أرض الميعاد وفقا للكتاب المقدس.

مظليون إسرائيليون في حائط البراق بعد سقوط القدس الشرقية بيد إسرائيل سنة 1967
الصورة المشهورة لمظليون إسرائيليون في حائط البراق بعد سقوط القدس الشرقية بيد إسرائيل سنة 1967

بالنسبة للصهيونية الدينية، كانت تلك هي اللحظة التي استطاع أبناؤها أخيرا أن يفرحوا فيها بحرارة لقيام دولة إسرائيل. اعتُبرت تلك الكلمات المتحمسة حول الخليل وأريحا ونابلس والتي قيلت قبل ثلاثة أسابيع من ذلك فقط، بالنسبة لأبناء الصهيونية الدينية نبوءة تحققت، وبتأثيرها كانوا عازمين في رأيهم على إقامة مستوطنات يهودية على أكبر مساحة ممكنة من أرض إسرائيل – بأيّ ثمن. لقد اعتبروا ذلك التحقيق الأسمى للصهيونية، ولكن زعماء الدولة كانوا أكثر تردّدا بخصوص استمرار السيطرة الإسرائيلية على تلك الأراضي لعدة أسباب: انطلاقا من الخوف من الرأي العام العالمي، الاعتبارات القضائية، والرغبة في إبقاء الباب مفتوحا لإعادتها في مفاوضات مستقبلية. عند هذه النقطة انفجر التناقض الاساسي بين مبادئ الصهيونية الدينية وبين الحكم العلماني لدولة إسرائيل، والذي أدى إلى الواقع الإسرائيلي المعقّد في أيامنا.

اقرأوا المزيد: 838 كلمة
عرض أقل