تُعتبَر الإزالة التدريجية للحواجز الجسدية بين الأقليات في الدول العربية المختلفة أحدَ الآثار الكثيرة للربيع العربي. وإحدى الحالات الخصوصية في هذا المجال هي الحضور المتزايد للحجّاج الأقباط في الأماكن المقدسة للعالَم المسيحي في القدس.
نذكر بدايةً أنه بعد التوقيع على معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر، قرّر زعيم الكنيسة القبطية السابق، البابا شنودة الثالث (رحل عام 2012)، منعَ الأقلية القبطية في مصر من زيارة القدس “ما دامت تحت الاحتلال”، وما دام لم يجرِ حلّ القضية الفلسطينية. لكنّ البابا الحالي، تواضروس الثاني، بدأ عملية تغيير هذه السياسة.
فعلى سبيل المثال، أثار البابا تواضروس الثاني ضجة كبيرة في مصر والدول العربية حين قرّر زيارة القدس في تشرين الثاني 2015، للمشاركة في تشييع مطران الكنيسة القبطية للكرسي الأورشليمي، الأنبا أبراهام، الذي توفي حينذاك. وسرت شائعات في مصر أنه سافر في الطائرة نفسها التي سافر فيها السفير الإسرائيلي في القاهرة، الذي كان متوجها لقضاء عطلته الأسبوعية في إسرائيل. وكما ذُكر آنفًا، كان الأقباط قد توقّفوا عن زيارة أماكنهم المقدسة في القدس منذ حرب العام 1967.
يُذكَر أنّ هذه الزيارة النادرة لم تأتِ من فراغ. فمنذ وفاة شنودة عام 2012، وهو الذي أدان بشدة زيارة الأماكن المقدسة في القدس، ينتهز عدد متزايد من الأقباط غياب سياسة واضحة من أجل زيارة القدس في رحلات جوية مباشرة من مصر.
وإذا لم يكن ذلك كافيًا، بدأ الإعلام المصري قُبَيل عيد الفصح كلّ عام (بدءًا من سنة 2011 مع اندلاع أحداث الربيع العربي) يُثير السؤال: هل تنسجم زيارات الأقباط إلى القدس مع السياسة العربية تجاه إسرائيل؟
لا شكّ أنّ عادة الحجّ، التي تواصلت لقرون، في موسم عيد الفصح عمومًا، كانت أحد مصادر فخر الكنيسة القبطية في مصر. فالحجّ القبطي، المؤسس على رواية الكتاب المقدس حول فرار مريم، يوسف، والطفل يسوع إلى مصر من حُكم الملك هيرودس بالموت، مثّل العلاقة الخصوصية بين الكنيسة في مصر وبين البلاد المقدسة المجاورة. وكواحدة من الطوائف المسيحية الصغرى في القدس، لدى الكنيسة القبطية أملاك متواضعة في كنيسة القيامة، أضحت مراكز زيارة وجدانية بالنسبة للحجّاج الأقباط المصريين على مدى أجيال. ولكن بعد حرب الأيام الستة (نكسة 1967) وفرض السيادة الإسرائيلية على البلدة القديمة في القدس، توقف هذا التقليد ولم يُستأنَف حتى بعد التوقيع على اتّفاق السلام مع مصر.
مجتمع صغير، أقلية دينية كبيرة
الأقباط هم إحدى أقدم الطوائف المسيحية في الشرق الأوسط. فقد كان معظم سكّان مصر مسيحيين حتّى ظهور الإسلام في القرن السابع، حين اعتنق الملايين الإسلام. وطوال التاريخ، شهد الأقباط فترات تمييز وفترات راحة بشكل متقطّع. فخلال العقود الثلاثة لعهد مبارك على سبيل المثال، نعم الأقباط بهدوء نسبي، ولكنهم بقوا ضحية للتمييز في الجامعات، الشرطة، والوظائف الحكومية. ولا تخلو الروايات الشعبية الواسعة الانتشار في مدن مصر الكبرى من الحديث عن فتيات قبطيات اختُطفنَ وأُكرهنَ على اعتناق الإسلام.
مع تولي محمد مرسي، المنتمي إلى الإخوان المُسلمين، رئاسة الجمهورية في حزيران 2012، ساد ذُعر لدى الأقباط في مصر ممّا قد يخبئه لهم المستقبل. بشكل عامّ، يُعارض الإخوان المُسلمون ممارسة العنف ضدّ الأقباط. فخلال عهده الرئاسي، أدان مُرسي مضايقة الأقباط، رغم أنه حمّلهم المسؤولية عنها، واهتمّ بتعيين أقباط في مناصب وزارية واستشارية في حكومته. أمّا مَن يُعتبَرون أعداء الأقباط فهم السلفيون، الذين تحالفوا مع الليبراليين في الاحتجاجات الأخيرة للإطاحة بمرسي.
https://www.youtube.com/watch?v=zgmO_W7ZHkU
يُشكّل الأقباط، البالغ عددهم 8 – 10 ملايين في مصر (من أصل نحو 50 مليونًا في العالم، بشكل أساسي في إثيوبيا، إريتريا، ومصر) نحو عُشر سكّان مصر والأكثرية الساحقة من المسيحيين فيها. وهم يسكنون في المدن الكبرى، مثل القاهرة والإسكندرية. ومنذ الانقلابَين اللذَين أطاحوا بالرئيسَين محمد حسني مبارك ومحمد مرسي، يُعاني الأقباط من مُضايَقات متكررة. فقد قُتل العشرات منهم في مواجهات في السنوات الخمس الأخيرة، أُحرقت كنائس، وأخبرت منظمات حقوق الإنسان عن الاعتداء على نساء يُضربنَ ويُكرهنَ على ارتداء الحجاب والتفوّه بالشهادتَين.
ومنذ عقود، يُغادر أفراد الطبقة الوسطى والمثقفون الأقباط مصر والشرق الأوسط – إلى الولايات المتحدة، بريطانيا، وأستراليا – بحثًا عن تعليم أفضل ومستقبل مهنيّ واعد أكثر.
الأقباط في إسرائيل
تعود الشهادات على حُضور للأقباط في القدس إلى أوائل القرن الميلادي التاسع. ومنذ عام 1236، عُيّن مطران قبطي على القدس، ولا تزال المطرانية القبطية موجودة فيها مذّاك. مبنى المطرانية موجود في دير مار أنطونيوس، المجاوِر لكنيسة القيامة. إضافة إلى ذلك، يمتلك الأقباط بعض أماكن الصلاة في كنيسة القيامة.
ويدور صراع قديم بين الأقباط وبين الكنيسة الإثيوبية حول ملكية دير السلطان، بناية موجودة على سطح كنيسة القيامة. وكان هذا النزاع قد نشأ حين سيطرت الشرطة الإسرائيلية في عيد الفصح عام 1970 على الأملاك القبطية في “دير السلطان”، إذ استبدلت الشرطة الأقفال في البطريركية القبطية وسلّمت المفاتيح لجيرانهم – رهبان الكنيسة الحبشية. نُظر إلى نقل المفاتيح إلى الرهبان الأحباش تحديدًا، إثر العلاقات الشائكة بين الكنيستَين وصراعهما التاريخي على “دير السلطان”، كخطوة استفزازية تهدف إلى تحسين العلاقات بين إسرائيل وإثيوبيا، وذلك إثر العلاقات السيئة بين إسرائيل ومصر قبل توقيع معاهدة السلام بينهما. يسكن اليوم في المبنى رهبان إثيوبيون وراهب قبطي واحد. وبسبب النزاع، فإنّ المبنى اليوم في حالة سيّئة.
يسكن معظم الأقباط في القدس في خان الأقباط، مبنى في حيّ النصارى بُني عام 1838. ولا يتعدى عدد الأقباط في القدس اليوم عشرات العائلات. كما يسكن بعض الأقباط في الناصرة، ويحملون اسم العائلة “قبطي” ويبلغ عددهم نحو ألفَين. في مدينة يافا الساحلية، كانت هناك جماعة قبطية لديها كنيسة ونزل، لم يبقَ منها اليوم سوى قليلين. كما يسكن عدد من العائلات المسيحية التي تحمل الاسم “قبطي” في مدينة حيفا.
زيارة القدس: علنًا أم سرًّا
انتُخب البابا تواضروس الثاني في تشرين الثاني 2012 لقيادة الكنيسة القبطية في مصر، وسُرعان ما واجه القضية. فقد ذكرت الصحافة المصرية أنّ هذا كان السؤال الأول الذي وجّهه إليه أفراد المجتمع القبطي. من أجل بلورة إجابة مدروسة، التأم “المجمع المقدس” للأساقفة في مصر برئاسته، وأعاد بحث المسألة. في النهاية، قرّر المجمع، مخيّبًا آمال أقباط عديدين، الإبقاء على الوضع القائم وعدم السماح للمعنيين بزيارة القدس أن يفعلوا ذلك. وكانت اعتبارات المجمع مبرّرة، إذ كان وضع الأقباط في مصر حسّاسًا حينذاك، إثر تعزيز مكانة الشريعة الإسلامية في الدستور المصري الذي كانت تتمّ صياغته. استنادًا إلى ذلك، اختار قادة الطائفة عدم التسبّب باحتكاك غير ضروريّ بين الأقباط وجيرانهم المُسلمين.
في شباط 2014، نُشر أنّ نحو 10 آلاف قبطي زاروا القدس عام 2013. وفي مصر، يعمل نحو عشرين شركة سفر على نقل الحجاج الأقباط ضمن رحلات منظّمة مدّتها أسبوع إلى القدس في أعياد الفصح. يتراوح سعر رحلة كهذه بين 9000-10000 جنيه مصري، وهي منوطة طبعًا بموافقة إسرائيل، التي تُمنَح للنساء والأطفال والرجال المولودين بعد عام 1970. قُبَيل عيد الفصح عام 2014، كتب الصحفي مجدي نجيب وهبة في موقعه على الإنترنت “صوت الأقباط المصريين” (مُغلَق حاليًّا) مقالة استثنائية في حدّتها حول الحظر الكنيسي على زيارة القدس. فقد انتقد البابا شنودة وخلفه، متّهمًا إياهما بالانجراف نحو الجوّ السياسي العربي ضدّ إسرائيل، ممّا أفاد القوى المعادية لمصر أيضًا. ولم يُخفِ وهبة في المقالة دعوته إلى عصيان الكنيسة وزيارة القدس.
تدلّ هذه الأقوال، التي تتحدى المؤسسة الكنسية القبطية من جهة وقواعد النقاش السياسي المصري من جهة أخرى، على تطوّرات في السلوك السياسي والاجتماعي للأقباط في مصر ونظرتهم إلى إسرائيل والمجتمع القبطي الصغير الذي لا يزال موجودًا في إسرائيل. صحيح أنّ النقاش حول الحجّ القبطيّ يتمّ على هامش الأحداث التاريخية التي تعيشها مصر اليوم، لكن لهذا السبب تحديدًا يمكن أن يدلّ على تعقيد الأحداث الجارية.
ففيما كان يبدو أنّ المجتمع في مصر يمرّ بعملية تسييس مُسرَّعة، يُبيّن الأقباط أنّ زيارة القدس هي شأن دينيّ بحت، لا يجب أن يُنسَب له أيّ معنى سياسي. وفيما كان يبدو أنّ الشارع المصري ينحو نحو التطرّف في شأن التطبيع مع إسرائيل، يجد الكثيرون من المسيحيين والمسلمين أنفسهم يزورونها أو يتعاونون معها، علانية أو في الخفاء.
نُشر جزء من المعلومات في هذا التقرير، حول العلاقة بين الأقباط المصريين والقدس، للمرة الأولى في مقالة للباحث الإسرائيلي، دوتان هليفي، في موقع منتدى التفكير الإقليمي