كل مُشاهد يعرف أسطح المنازل الحمراء في المستوطنات الإسرائيلية، والتي ترمز إلى انتقال النشاط الاستيطاني من خلال ممارسة متمرّدة وعفوية إلى إقامة أحياء برجوازية. تقف الآن أمام قراء موقع “المصدر” فرصة لإلقاء نظرة خاطفة إلى داخل مستوطنة أخرى – تُعتبر “أول البؤر الاستيطانية” في إسرائيل. البؤرة الاستيطانية هي مستوطنة سرية، لا تعترف دولة إسرائيل بها – بل وفي أحيان كثيرة تهدمها.
نظرا لذلك، فبؤرة “تلال الأبدية” أو باسمها العبري “جفعوت عولام”، خالية من الأسطح الحمراء، الشوارع المرتبة والأسر المتدنية الشابة ذات الكثير من الأطفال. بدلا من ذلك، منذ 19 عاما فيها مزرعة وماعز ودجاج وتحديدا الكثير من الشباب العازبين الذين لا يتدبرون أمورهم في أي مكان آخر.
الشبان الذين يأتون إلى هذه المستوطنة هم في الأصل ليسوا الشبان الذي كنتم تتوقعونهم – لا يضعون السوالف والقلنسوة، ولا يدير معظمهم نمط حياة متدين. إنهم يعيشون ويعملون في المستوطنة سبعة أيام في الأسبوع، في حظيرة الماعز والكرم وورشة الحدادة وقنّ الدجاج وغيرها. يصل معظمهم لقضاء عدة أشهر فقط، وبعضهم يبقى لسنوات طويلة.
إذًا لماذا وصلوا إلى هذه التلة المعزولة، التي تمرّ من وسط قرى فلسطينية معادية، وفي الطريق إليها هناك نقاط عديدة دفع فيها يهود آخرون حياتهم ثمنا لاختيار العيش فيها؟
شيرا
“هنا يمكنك أن تفعل ما تشاء” (Noam Moskowitz)
تبلغ شيرا الخامسة والعشرين من عمرها، ووصلت إلى المستوطنة قبل أربع سنوات، وعملت تقريبًا في كل واحد من مجالات العمل فيها. ولاحقا أخذت استراحة مؤقتة وعادت إلى بيت والديها من أجل استكمال دراستها الأكاديمية، والآن تنهي البكالوريوس ووجهتها نحو المزرعة مجددا.
“أنت لا تعيش في ظل إطار الوالدين وإطار المجتمع هنا”
لقد جاءت رافقتنا بشكل خاصّ أثناء زيارة المكان. أتممنا كل الطريق من تل أبيب إلى تلّة تقع في منطقة نابلس، وبعد أن اجتزنا الحاجز إلى الضفة، تغيّر المشهد دفعة واحدة. “الأمر شبيه قليلا بغرب متوحش هنا”، قالت محاولة منها أن تجهّزنا للتغيير في الأجواء. وقد تبدّل المشهد المدني المألوف – المباني العالية، الشوارع الواسعة والمزدحمة والسماء الباهتة، بتلال واسعة تمتدّ حتى الأفق، وظهرت بينها كل بضع كيلومترات قرية فلسطينية أو مستوطنة يهودية، وكانت تطل فوقها سماء زرقاء صافية.
“تحديدا فالعمل الشاقّ هنا، الزراعي والرتيب، يحرّرك من التفكير” (Noam Moskowitz)
يمرّ الشارع في الطريق إلى المستوطنة في وسط قرية حوّارة الفلسطينية. وكانت رحلتنا في يوم الجمعة صباحا، في رمضان. وكانت جميع الدكاكين مغلقة ولم يكن أي شخص تقريبا في الشارع ولا أية سيارة في الطريق. إنه مشهد نادرا ما يمكن رؤيته عادة في القرية الصغيرة التي يزدحم شارعها الرئيسي جدا في الأيام العادية، حتى أنّه قد يستغرق عبور كيلومتر واحد ساعة كاملة. ولكننا لا نهدف إلى الحديث عن القرية، ووجهتنا نحو جيرانها.
مع الوصول إلى قمة التلة، تنفّست شيرا الصعداء. لقد اشتقتُ إلى المكان. “هذا المكان دائما يرحب بي”، كما توضح.
“هذا رائع، تحديدا فالعمل الشاقّ هنا، الزراعي والرتيب، يحرّرك من التفكير. في الدراسة أنت تفكر طوال الوقت، ولكن هنا أنت لست بحاجة إلى التفكير”، كما توضح قرارها للعودة إلى العمل في المزرعة رغم أنها تحمل لقبا أكاديميا.
توضح شيرا الاختناق الذي تشعر به عندما تعيش في منزل والديها، مقابل شعور الحرية الذي تشعر به هنا. “لا أحد يحاكمك هنا، أنت لا تعيش في ظل إطار الوالدين، وإطار المجتمع، يمكنك أن تكون على حقيقتك، وأن تعيش كما يحلو لك من دون أن ينتقدك أحد”.
حايا
“بحثتُ هنا عن الهدوء، العزلة المطلقة” (Noam Moskowitz)
إنها مسؤولة عن المطبخ وتطبخ لجميع العمال منذ نصف عام ووصلت من القدس، من بيت متدين يقع في أحد أفضل الأحياء في غرب المدينة. قبل مجيئها إلى المزرعة، قبعت في السجن العسكري لأنها تهرّبت من التجنيد للجيش الإسرائيلي. “من المفضل أن أكون هنا”، كما تقول.
“لقد هربت من كل الحياة، ولم تحظ بمعاملة جيدة، وقد وصلت إلى المستوطنة وهي متعبة، ولا حول ولا قوة …”. كما يعرضها أحد العمال مازحا. “ما مشكلتك أنت”؟ تقول حايا مستاءة. ولكنه يستمر بابتسامة ساخرة، “نحن اهتممنا بها، ورعيناها”.
“لا أحب تحديد تعريفات أبدا في الحياة”
تأخذنا حايا لنرى المبنى الذي يُستخدم مطبخا، غرفة طعام ومكانا للاجتماع. اليوم فقط عادت إلى المستوطنة بعد أن كانت خلال أيام العطلة في منزل عائلتها، ويرحب أصدقاؤها بها، وكل أحد منهم بطريقته الخاصة – “ماذا حدث لشعرك؟ وضعتِ قطة عليه”؟ يقول لها أحدهم. فأنا أنظر بدهشة – فيتضح أن خصلة شعرها المُجدلة المتدلية في طرف جديلتها هي جديدة.
“أنا اليوم أعيش هذه الحياة ولكن غدا يمكنني ان أعيش حياة أخرى” (Noam Moskowitz)
بشكل عام، لا تبدو حايا تماما مثل فتاة متديّنة ورعة يدفعها حماس ديني، كما متبع التفكير حول فتيات المستوطنات. إنها ترتدي بنطالا قصيرا وقميصا ضيقا وتجلس بوضعية مبتذلة.
عندما سألتها إذا تعيش نمط حياة متدين مثل والديها أم لا، رفضت بشدّة أن تجيب عن ذلك. “لا أحب هذا السؤال، أنا اليوم أعيش هذه الحياة ولكن غدا يمكنني ان أعيش حياة أخرى. لا أحب تحديد تعريفات أبدا في الحياة”.
إنّ المشاعر الفردية القوية الخاصة بحايا تُميّز أيضا شبابا آخرين في المستوطنة كانوا قد واجهوا صعوبة في الصمود أمام الضغوط الاجتماعية في البيت وفي حياتهم السابقة. “ما جذبني إلى هذا المكان هو الهدوء، العزلة المطلقة”. تقول حايا، “في نهاية المطاف كل شخص يبحث عن شيء آخر”.
آفي
“هذا المكان في نظري هو العالم الحقيقي” (Noam Moskowitz)
يعمل آفي في حظيرة الماعز منذ خمسة أشهر. لقد نشأ في بلدة حاريدية، متديّنة، تقع قرب القدس. يقول عن البيئة التي وصل منها “إنه عالم آخر، حيث يعيش والداي”. يوضح أن والداه يعيشا في مكان مختلف عنه ليس ماديا فقط، بل أيضا تفكيريا. “يقول والداي إنّ هذا ليس العالم الحقيقي”، كما يوضح، ولكن بالنسبة له “فهذا هو فعلا العالم الحقيقي”.
“يقولون لي مندهشين ‘أنت تحلب الماعز؟!’ فأجيب نعم، هذا هو عملي، وأنا احبه”
لماذا يفكرا على هذا النحو؟ سألته. “لأنهما لا يفهمان ذلك”، تنفجر حايا، “إنهما لا يعرفان طريقة الحياة هذه، ويفضّلان نمط حياتهما، ولكن من لا يسير وفق نهج حياتهما، ومن يعيش حياة في البحث عن الحياة الذاتية، فهذه الحياة لا تلائمه”!
ويوافق آفي على أقوالها. “المشكلة هي أنه تسود الفوضى في المدينة. أردنا أن نعيش حياة أكثر هدوءا، من دون التفكير في المال. تتوفر هنا كل احتياجاتي المعيشة. عندما أذهب إلى القدس يقولون لي مندهشين “أنت تحلب الماعز؟!” فأجيب نعم، هذا هو عملي، وأنا احبه”.
يوناتان
“كان مسار حياتي مختلفا وأنا سعيد لأنني أجريت هذا التغيير” (Noam Moskowitz)
يوناتان هو واحد من بين شابين وحيدين قدما إلى المكان من بيت علماني تماما. وفي القرية التعاونية التي نشأ فيها في شمال إسرائيل يعمل معظم الناس في التكنولوجيا الفائقة ويحملون ألقابا أكاديمية متقدمة ويتقاضون أجورا مرتفعة، وسياسيا، يؤيد معظمهم التسوية السياسية ويعارضون المستوطنات. ولكنه قرر الذهاب في طريق أخرى.
“في المدرسة كنت اتعلم الرياضيات والإلكترونيات تعليما فائقا. هكذا كان نمط حياتي. ولكن لم أحبّه، ولم أستمتع به”
“قررت أنني أريد أن أتعلّم حرفة ذات عمل جسماني. فاتصلّت بورشات الحدادة في كل البلاد، وكان هذا هو المكان الوحيد الذي قلت فيه “ليست لدي أية خبرة” فأجابوني “ممتاز، تعال وسنعلّمك المهنة”.
“كان مسار حياتي مختلفا تماما وأنا سعيد بهذا التغيير. في المدرسة كنت التلميذ الذكي الذي تعلم الرياضيات والإلكترونيات تعليما فائقا. هكذا كان نمط حياتي. ولكن لم أحبّه، ولم أستمتع به”.
“الممتع في الحياة هو أن نعيشها، نشعر بها، من خلال الأعمال اليدوية مثل العمل في الكرم، ورشة الحدادة، وطالما أننا لا نفعل شيئا بأيدينا فلا نفهمها. وهذا يثير شعورا هائلا من الرضا. هذه حياة ممتعة ببساطة”، كما يقول وعيناه تبرقان.
“هذا المكان دائما يرحب بي” (Noam Moskowitz)
“في الأسبوع الذي وصلت فيه إلى هنا لم أفكر أن الحديث يدور عن مستوطنة، وكنت فرحا جدا. قلت في قرارة نفسي، “واو، أنا سعيد”. بعد مرور الأسبوع الأول فقط، عندما عدت إلى زيارة عائلتي، قال لي صديقي “أنت لا تعرف ماذا تفعل، موضحا له أنه يعيش في المستوطنة أشخاص متطرفون”.
رغم أن يوناتان وفقا لكلامه أحبّ المكان، يبدو أنه الوحيد بين الأشخاص الذين أجريتُ معهم المقابلات في التقرير الذي يعرف التناقض بين الأعمال اليدوية والحياة الزراعية الريفية التي يحبّها جدا وبين العنف والصراعات القائمة دائما خلف الحياة في الضفة الغربية. “اكتشفت أنّه مكان معقّد، قاس يربّي أشخاصا عنيفين يرتكبون أعمال بشعة”، وهو ينظر نحو الأسفل.
ولكنه بالفعل مفتون بسحر المزرعة، ويرغب البقاء فيها في الوقت الراهن. ولذلك فهو مضطر في بعض الأحيان إلى أن يكون مرنا عند الضرورة. ” من الممكن أنه تحدث هنا أمور لا أوافق عليها. فأحاول أن أفحص ما هو ليس صحيحا في مبادئي، وما هو صحيح وممكن”.
شباب وصبايا مستوطنة تلال الابدية (Noam Moskowitz)
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني