بدأت تعلو في الآونة الأخيرة، شيئًا فشيئًا، أصوات تشير إلى اعتدال وانفتاح وسائل إعلامية كثيرة تعود ملكيتها للسعوديين. يمكننا أن نقول بأن هذه الظاهرة أصبحت توجهًا عامًا تمامًا. ومثال على ذلك، الذي أوردناه في آخر مقالة لنا في موقع “ميدا”، هو كيف أنه في فترة زمنية قصيرة، نسبيًّا، تم نشر عدد من المقالات في أهم الصحف السعودية، الشرق الأوسط، والتي تشير إلى انفتاح ملفت تجاه إسرائيل. إلى جانب أصوات ليبرالية ومعتدلة، يمكن أن نجد أيضًا في وسائل إعلام سعودية مختلفة، خطًا هجوميًا ضد إيران و”الإخوان المسلمين” وتحديدًا في قناة العربية.
ما عدا “التلميحات” من خلال وسائل الإعلام تجاه إسرائيل والغرب، واضح أنه يوجد اعتدال مؤخرًا فيما يخص السياسة الخارجية السعودية. يثير هذا التوجه حالة من الحيرة، تحديدًا على ضوء طابع السعودية الوهابي المتطرف. لا شك أن كثيرين يتساءلون كيف بالإمكان وصف دولة لها سمعة مريبة، وهذا أقل ما يقال عنها، فيما يخص مكانة المرأة وحقوق المواطن بأنها “معتدلة”؟ في السطور التالية نطالب بتسوية هذه المسألة وحتى أن نشرح كيف يمكن حدوث تعاون استراتيجي بين إسرائيل والدول الغربية وبين المملكة العربية السعودية.
تقاسم واضح للسلطة بين المؤسسة الدينية والمملكة
كما هو معروف، حقوق المواطن السعودية لا تتم ممارستها أبدًا: تُقمع حقوق النساء والعمال الأجانب في السعودية بشكل فظ؛ تعمل في المملكة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (“مطاوعة”) التي تفرض ارتداء الزي الإسلامي؛ تُدار قوانين المملكة حسب أحكام الشريعة، وتنفذ فيها أيضًا أحكام الإعدام وقطع الرؤوس. وأيضًا العبودية، بالمناسبة، فقد ألغيت في السعودية بشكل رسمي في عام 1962 فقط.
إلا أن، في كل هذه التفاصيل يكمن أساس الاختلاف بين المملكة السعودية وبقية الدول العربية: فإن القمع في السعودية يقتصر فقط على فرض سلوكيات دينية محافظة ولا يتعدى إلى الاضطهاد، القمع السياسي وانتهاك حقوق الفرد عمومًا. بشكل عام، تفضل السلطات نهج الاستقطاب على القمع الفظ (باستثناء التعامل مع الشيعة)؛ وقد كانت أجهزة الأمن السعودية ضعيفة جدًا حتى عام 2000، ولم تقم أبدًا هذه الأجهزة بأدوار تشبه دور أجهزة الأمن والمخابرات في مصر، العراق أو سوريا؛ ولا يوجد في السعودية ما يسمى “دولة المخابرات”، أي حكم أجهزة أمنية. إن جاز التعبير، فإن المملكة السعودية عبارة عن قبيلة متطورة تستعين في حكمها بوسائل عصرية وثروة النفط، وليس كحكم ديكتاتوري عصري.
الأمير تشارلز في السعودية (AFP)
ليتسنى لنا فهم كيف تكوّن هذا الواقع السعودي علينا أن نشرح أولاً العلاقة المتبادلة الوطيدة بين المؤسسة الدينية وبين العائلة المالكة، تلك العلاقة التي يكمن فيها سر صمود المملكة العربية السعودية من أواخر القرن الثامن عشر حتى يومنا هذا.
تشكلت السعودية نتيجة تحالف بين رجال دين وهابية وبين عائلة آل سعود. الوهابية هي عقيدة دينية محافظة – متطرفة، تأسست على يد محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثامن عشر، والتي تتبع المذهب الحنبلي – أحد المذاهب الأربعة الشرعية لدى الإسلام السُنة. في تلك المرحلة، تبلورت المبادئ الأساسية، التي ترسم مسار الوهابيين أيضًا في القرن الواحد والعشرين. ومن تلك المبادئ هناك طاعة “ولي الأمر”، أي الحاكم الشرعي الذي يطبّق الشريعة. يفسر التأكيد على هذا المبدأ الشرعية التي يمنحها الوهابيون للعائلة السعودية المالكة.
رجال الدين الوهابيين دورهم الفعلي هو “منح الخلاص الديني” ويحتكرون مسألة الحفاظ على تطبيق النهج التقليدي الإسلامي المتزمت في البلاد، وذلك بتصريح من العائلة السعودية المالكة. بالمقابل، تمنح المؤسسة الدينية لنظام الحكم الحرية التامة بما يتعلق بالسياسة الخارجية والداخلية، على شكل دعم ديني (الفتاوى وغيرها). لا نتحدث هنا عن فصل بين السلطات بل تكافل، الأمر الذي يتيح بقاء هاتين السلطتين في الدولة الواحدة بجانب الأخرى.
الجهاد؟ لا يناسبنا
بكل ما يتعلق بالجهاد ودعم الإرهاب، يجب أن نعرف أنه رغم الفكرة الشائعة، لا توجد علاقة مباشرة بين التزمت الديني والعنف الجهادي. وبالتالي، رغم تطرفها الديني، فإن علاقة المملكة السعودية بالإرهاب معقّدة. بلا شك، أحد المبادئ الوهابية الأساسية هي محاربة عبادة الأصنام وإدخال أية تحديثات على الإسلام (“بدعة”). غير أن “عبادة الأصنام” أو “البدع” التي تتوجب محاربتها، ليس تحديدًا المسيحية أو اليهودية، بل ظواهر الدين الشعبي، الصوفية والشيعة التي كانت منتشرة في نصف الجزيرة العربية، ومثل أيضًا، الحج إلى أضرحة الأولياء الصالحين والصلاة لأولئك الأولياء الصالحين. بحيث أن، كل مسلم ليس وهابي يعتبر كافرًا يجب أن يعود للإسلام من جديد تمامًا كما تم اعتبار الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر بأنها دولة كافرة ويتوجب محاربتها. إلا أنه كلما انخرط الوهابيون بالحكم، تلاشى هذا المبدأ النظري شيئًا فشيئًا.
كان أول وأبرز توجه للسعوديين تجاه الجهاد في عام 1979، عندما اجتاح الاتحاد السوفيتي أفغانستان، حينها تجند الكثير من السعوديين للقتال ضدّ الجيش الأحمر. إلا أنه، لا يمكن اعتبار هذا دليلا على سياسة سعودية داعمة للإرهاب. كان يعتبر الدفاع عن أفغانستان ضد “الكفار الحمر” واجبًا على كل المسلمين، لأن الحديث هنا كان عن محاربة محتل أجنبي وليس عن إرهاب: كان التعاطف ضد احتلال أفغانستان أيضًا في الغرب ولم تكن فقط مسألة إسلامية داخلية.
رغم أن الحرب ومشاركة الكثير من السعوديين بالمعارك لم يؤثران على نظلم الحكم، إلا أن تعاملهم تغيّر عندما أدركوا بأن الجهاد ضد “الحكام الكفرة” قد يهددهم هم ذاتهم.
يحدث شيء مشابه تمامًا اليوم فيما يخص الحرب الأهلية في سوريا. من جهة، المملكة العربية السعودية تموّل الثوار الإسلاميين الذين يحاربون الأسد، عدوهم البغيض. من جهة أخرى، يقتصر الدعم السعودي على التمويل فقط، ولا علاقة له بأمور القيادة والسيطرة على الجماعات المسلحة. وأكثر من ذلك، بالنسبة للغالبية في الوطن العربي فإن الثوار في سوريا يخوضون ثورة مشروعة، تشبه الحرب في أفغانستان.
مقاتلو جبهة النصرة في سوريا (MAHMUD AL-HALABI / AFP)
كما في فترة الحرب في أفغانستان، يخشى السعوديون أنفسهم اليوم من الإرهاب. استعد رئيس جهاز المخابرات الأمير بندر بن سلطان للاحتمال النظري بأن يوجه الجهاديون أسلحتهم ضد المملكة العربية السعودية. وكأمر احترازي صدر قبل فترة أمر ملكي يمنع المشاركة بأي نوع من الجهاد خارج حدود السعودية وحتى التعاطف معه، ومن يخالف هذا الأمر يعرّض نفسه للسجن لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات. يهدف هذا الأمر إلى تفادي تكرار ما حدث في التسعينات، عندما عاد السعوديون الذين حاربوا في أفغانستان إلى السعودية وحاولوا زعزعة الأمن في المملكة.
تمويل الثورة في سوريا يشبه بشكل كبير ومن عدة نواح تحويل الأموال لتمويل الإرهاب الدولي، المسألة التي تثار مرارًا وتكرارً بما يخص الشأن السعودي. رغم أنه خلال التسعينات قد تبرعت المملكة بمبالغ كبيرة لترسيخ العقيدة وللصدقة مع تجاهلها لحقيقة أن جزءًا من تلك الأموال ذهب إلى القاعدة وللعمليات الإرهابية، ولم يكن ذلك أمرًا مباشرًا أو توجيهًا مباشرًا للإرهاب. هذا التمييز هام جدًا، وذلك لأنه لم تكن لدى السعوديين في نهاية الأمر القوة الفعلية أبدًا لقيادة منظمات إرهابية أو رسم سياسات لها. عمومًا، كانت تهدف هذه الخطوات إلى إبعاد هذا الإرهاب عن المملكة، وعدم استخدامه كأداة استراتيجية.
أضرت سياسة السعودية الإرهابية بالنهاية أيضًا بالمملكة ذاتها. رغم تلك السنوات التي تغاضى فيها السعوديون عن وصول الأموال للإرهابيين، عندما بدأت القاعدة تنفذ عمليات ضد الأجانب داخل حدود الدولة، تغيّر نهج التعامل الأساسي في النهاية. ربما تم توجيه الإرهاب ضد “الأجانب” وليس ضد العائلة المالكة، إلا أنه اعتبر تهديدًا ضد المملكة، بحيث أنه لم يعد بإمكان السعودية الادعاء بأن القاعدة هي مشكلة أمريكية وليست سعودية.
الاختلافات بين الوهابيين والقاعدة ليست خلافات نظرية فقط: تدعم القاعدة على غرار “الإخوان المسلمين”، إسقاط النظام السعودي كما كل الأنظمة العربية، وهم يتبنون فكرًا يعتبر الجهاد فرض على كل مسلم. بالمقابل، مذهب الوهابي، كما حال المذاهب الأساسية في الإسلام، يعتبر الجهاد قرار خوض حرب سياسية والمخوّل الوحيد لاتخاذه هو الحاكم الشرعي، بدعم من رجال الدين. لهذا، ينفر السعوديون من الأعمال الإرهابية والجهادية العشوائية التي يبادر إليها مقاتلون فرديين.
السعودية والإخوان المسلمين: جذور العداوة
رغم ستة عقود من التعاون بين “الإخوان المسلمين” والعائلة المالكة السعودية، شهدت مؤخرًا العلاقة بين الجانبين تدهورًا خطيرًا . لم يكن الاضطهاد السياسي والخلافات السياسية العلنية إلا جزءًا من تلك الحالة. تم تسجيل تحوّل خطير في العلاقات في عام 2012، عندما فاز “الإخوان المسلمين” بالرئاسة في مصر. ربما لم يحدث ذلك التدهور بين ليلة وضحاها: لم يبرز التهديد الذي كان يشكّله “الإخوان المسلمين” إلا مع حدوث “الربيع العربي”، عندما استطاعوا اعتلاء سدة الحكم في مصر وتونس.
في الخمسينات، وفر السعوديون ملجأً للإخوان، الذين عانوا اضطهادًا شديدًا في مصر. وجاء ذلك كردة فعل سعودية ضد تآمر ناصر. انخرط “الإخوان المسلمين” في جهاز التربية الإسلامي في السعودية إنما ليس ضمن الهرمية الوهابية، أي السلطة الدينية. بقيت هذه المراتب محصورةً للنخبة الوهابية فقط. لا شك أن السعودية دائمًا ما كانت تغض الطرف فيما يتعلق بتعليم ثقافة العنف وعدم التسامح، ولكن، كل ذلك كان أشبه باتفاق غير مكتوب: يمكن للضيوف تناول أمور الإسلام، على شرط ألا يتدخلوا في السياسة الداخلية. عندما خرق “الإخوان المسلمين” الاتفاق أو أصبحوا يشكلون تهديدًا على الاحتكار الفكري للوهابيين – تغيّر كل شيء.
تبلورت الأفكار الوهابية قبل وقت طويل من تشكل عقيدة “الإخوان المسلمين”، وقبل أية علاقات مع الغرب. بناء على ذلك، يمكن القول بأن الوهابيين هم محافظون متطرفون ليسوا عصريين، بينما يشكّل “الإخوان المسلمين” وحركات أصولية إسلامية أخرى صيغة دينية جديدة تنسجم وتحاكي الغرب.
كما ورد آنفًا تطبق المملكة الشريعة عمليًا، لذا لا يحتاج السعوديون لنظرية كالتي وضعها “الإخوان المسلمين” والتي تتعلق بكيفية بناء دولة إسلامية – فهم حققوا هذا الهدف منذ زمن. يعارض “الإخوان المسلمين” الحكم الملكي عمومًا، ويدعمون الدستور والانتخابات، الأمرين اللذين لا يريد أمراء المملكة ورجال الدين سماعهما. لهذا السبب، يعتبرون حركة “الإخوان المسلمين” جهة تهدد احتكارهم السياسي والديني.
لا يرى الوهابيون، رغم محافظتهم، أي تناقض بالإذعان إلى حاكم مسلم مثالاً على الورع والتقوى (انظر إلى الصور التي تظهر رحلة تسوق في الغرب وسيارات فاخرة) طالما كان يطبّق الشريعة. هذا مبدأ متناغم ولا يشكل أي نفاق من جهتهم، بخلاف ما يعتقده “الإخوان المسلمين” والجهاديون الذين يعتبرون هذا الأمر نوعًا من النفاق الصارخ.
مثال آخر من بين عدة أمثلة شبيهة توضح تلك العلاقة هو الاجتياح العراقي للكويت عام 1990. لم يتردد الملك فهد بالطلب من الجيش الأمريكي بأن يستخدم أراضي السعودية، بينما نشر رجال الدين الوهابيين فتاوى تدعم ذلك القرار، بما يتلاءم مع الآلية التي سبق وشرحناها. أثار هذا القرار غضب الجهاديين و”الإخوان المسلمين” الذين كانوا يقفون في ذلك الوقت مع صدام حسين، الأمر الذي زاد الفجوة بينهم وبين السعوديين.
استيعاب الواقع المعّقد
لا يستوجب الفهم الصحيح للملكة العربية السعودية التفكير الواسع فحسب، بل أيضًا فهم ذلك التعقيد، الذي يتيح تحليل الواقع إلى عوامل مختلفة وفهم كل واحد منها على حدى: مثلما أن التزمت الديني لا يؤدي بالضرورة إلى عنف جهادي ولا يناقض التعاون الأمني مع الكفار، هكذا أيضًا حال البراغماتية والاعتدال حيث أنهما لا يعنيان التسامح وحقوق الإنسان. وكذلك تعريف “التطرف” و “الاعتدال” يكون أحيانًا خاطئًا، لأنه علينا أولاً تعريف معنى متطرف وبالنسبة لماذا. مثلاً، لا شك أن إيران أكثر انفتاحًا وليبراليةً من السعودية، إلا أن النظام الإيراني يمارس الإرهاب ضد إسرائيل بينما السعودية لا تفعل ذلك.
من المهم أيضًا أن ننتبه إلى أن المجتمع السعودي أيضًا آخذ بالتغيير وإن كان بشكل بطيء: المقاهي التقليدية التي تُباع فيها النرجيلة والقهوة باتت تختفي بينما يُفتتح في المدن السعودية المزيد والمزيد من المقاهي التي تبيع قهوة الإسبرسو والكابوتشينو بدل القهوة العربية بينما تسود الموسيقى الغربية والطابع الغربي دقيقو الملاحظة قد يلاحظون أيضًا ظواهر لم تكن في المقاهي التقليدية: يجلس أشخاص وحدهم وأمامهم فنجان قهوة وكمبيوتر محمول.
في الختام، تجدر الإشارة إلى أنه من الصعب أن نرى في الأفق تعاونًا بين السعودية وإسرائيل، إلا أنه علينا أن نتذكر أن المملكة، كباقي دول الخليج، ليس لديها تاريخ نزاع فعلي أو إقليمي مع إسرائيل. القضية الفلسطينية كانت، بالطبع، ولا زالت عائقًا في ترسيخ العلاقات، ولكن، أيضًا في هذا الخصوص يجب أن نتذكر أنها ليست القضية بحد ذاتها، بل أنها جاءت لتخدم هذا الجانب أو ذاك من السياسات والمصالح الضيّقة، تمامًا كما كانت الحال دائمًا في كل الدول العربية.
تم نشر المقالة لأول مرة على موقع ميدا http://mida.org.il/
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني