لا شك بأن أم كلثوم هي ملكة الثقافة المصرية. وليس فقط بالنسبة للمصريين. يعتبرها الملايين حول العالم كرمز ثقافي مصري وعربي عصري، “صوت أمة كاملة”، كما أطلق عليها باحثون أمريكيون.
أطلق عليها عشاقها العديد من الألقاب مثل “كوكب الشرق”، “الست”، و”الهرم الرابع”، العديد من الأهل أسموا بناتهم تيمنًا باسمها، منهم الكاتب نجيب محفوظ وزوجته؛ كان يتم استقبالها، خلال رحلاتها في العالم العربي، في المطارات من قبل رؤساء وملوك، وكان يتم التعامل معها باحترام وكأنها قائدة بكل معنى الكلمة، وشخصيتها، التي كانت بمثابة أيقونة ثقافة، طُبغت على الطوابع الرسمية في الدولة، وعلى البلوزات، الحقائب، الأقراط والكثير من الإكسسوارات.
سمحنا لأنفسنا أن نورد لكم 5 حقائق ملفتة عن تلك المرأة، التي تخطت كل تحديات المُجتمع المصري؛ في تلك الفترة وتحوّلت إلى شخصية محترمة ومُطربة لا مثيل لها:
1. وُلدت أم كلثوم، أو باسمها الحقيقي؛ فاطمة إبراهيم البلتاجي، في قرية طماي الزهايرة؛ في دلتا النيل، في وقت ما بين عاميّ 1898 -1904 (حينها لم يكن يتم تسجيل الولادات بشكل مُنظم). كانت عائلتها فقيرة وكان والدها إمام المسجد المحلي. تم إرسالها، وهي لا تزال طفلة؛ مع أخيها خالد، إلى “الكتّاب”، لتعلم القرآن. ربما لم يتوفر ما يكفي من المال، لدى رب العائلة، لتمويل استكمال تعليم الابنين، وبعد مرور بضع سنوات، أخرج ابنته من المدرسة وترك ابنه ليتابع تعليمه؛ ولكن تلك السنوات كانت كفيلة بأن تحصل أم كلثوم على مهارات لتستثمرها طوال 25 سنة من الحياة المهنية الموسيقية: في الثقافة الموسيقية العربية معروف بأن من يريد أن يُتقن استخدام اللغة ولفظ الكلمات والغناء بأفضل صورة، عليه تعلم القرآن، وتحديدًا “تجويد القرآن”. تقول أم كلثوم في إحدى المقابلات إنها كانت تُقلد والدها وأخيها “مثل الببغاء”، دون أن تفهم معنى الكلمات التي تُقال.
2. اعتاد الوالد، كنوع من زيادة المدخول، هو وابنه وأفراد العائلة أن يقدموا عرضًا في قرى دلتا مصر وتقديم أغانٍ دينية في مناسبات عائلية وفي الأعياد. في واحدة من تلك المناسبات، حين كان يُفترض أن يقدموا عرضًا في بيت عُمدة القرية، مرض شقيق أم كلثوم، وقرر الأب أن يصطحب ابنته للعرض وهي ترتدي زي فتى.
3. لم تكن بداية أم كلثوم في القاهرة بسيطة أبدًا. ربما كانت قد أصبحت معروفة ولكن طريقة تقديمها للعروض وأغانيها لم تكن ملائمة لصناعة الترفيه. كانت القاهرة في العشرينات مدينة عالمية. كان يعرض في ملاهيها الليلة مغنيون ومغنيات وراقصات شرقيات مع مرافقة موسيقية. كانت غالبية الجمهور من الرجال، الذين كانوا معتادين على شرب الكحول والاستمتاع بتدخين الحشيش، وكثيرًا ما كانوا يتغزلون بالفنانات اللواتي يقدّمن العروض وحتى أنهم كانوا يضايقونهن. كانت أم كلثوم في البداية تعرض في تلك الملاهي وهي تلبس زي الفتيان، بينما تعتمر كوفية وعقال، ويرافقها رجال العائلة. وفي وقت لاحق أيضًا، عندما تخلت عن ارتداء زي الفتيان، ظهرت بلباس تقليدي ومتواضع، مع غطاء رأس، وقدّمت الأغاني الدينية القديمة وأغانٍ في حب النبي. لم تتجاهل الانتقادات قدراتها الصوتية وموهبتها، ولكن منتقديها كانوا يقولون إنها لم تجلب شيئًا جديدًا ولا توجد فيها روح فنية.
4. بدأ يأتي التغيير على مهل. استجابت أم كلثوم، على الرغم من موقف أفراد عائلتها، للجمهور المصري الذي كان يبحث عن التجديد وعن المشاعر الرومانسية. بدأت شيئًا فشيئًا بتغيير أسلوب أغانيها، وانتقلت من القصائد الدينية وأغاني حب النبي لأداء أغانٍ أخف، أغاني حب مكتوبة باللغة العامية العربية وليست باللغة الفصحى. كذلك حسّن دخولها، شيئًا فشيئًا، إلى مجتمع النخبة من مسارها وكذلك أدى ذلك إلى تغيير في نمط زيها. نزعت عن رأسها غطاء الرأس التقليدي، بدلت ملابسها الريفية بفساتين سهرة، على الطراز الأوروبي، وبالنهاية أقالت والدها وأخيها وبقية الرجال المرافقين لها واستأجرت مجموعة من العازفين لمرافقتها. هكذا جعلت نفسها مُطربة تناضل من أجل ضمان مكان لها في عالم الترفيه التجاري المحلي وراحت تطمح للمزيد من الشهرة.
https://www.youtube.com/watch?v=YzbfP1T0wgQ
5. ليس من العجيب أيضًا خشية جمال عبد الناصر، عند اندلاع ثورة الضباط الأحرار؛ عام 1952، وقرار الضابط الذي كان مسؤولاً عن البث الإذاعي، وجيه أباظة، عدم إذاعة أغاني أم كلثوم، بأن يثور الشعب ضد قادة الثورة. عندما علم جمال بقرار أباظة أسرع بالاتصال به وسؤاله عن سبب اتخاذه لذلك القرار. “لأنها جزء من الماضي”، أي للحقبة الملكية التي كانت قبل الثورة، قال ذلك الضابط. غضب الناصر وقال له: “إذًا، أنا أقترح أن تهدم الأهرامات وتمنع النيل من التدفق، لأنه كان أيضًا يتدفق في العهد الملكي”. طلب ناصر وأصر أيضًا على أن تعمل أم كلثوم مع عبد الوهاب، الغريمان، بأعمال مُشتركة. فشل الناصر، وفقًا لكلام نجيب محفوظ، بتوحيد الأمة العربية ولهذا أراد أن يجمعها من خلال حب عملاقي الموسيقى هذين. كانت نتيجة ذلك الأغنية المعروفة “انت عمري” عام 1964 ومن ثم جاءت 9 أغانٍ أنتجها الخصمان معًا. كانت هناك انتقادات أيضًا ضد أم كلثوم وضد ظاهرة الإعجاب بها. هناك من انتقدوها بسبب علاقتها بالنخبة، وآخرون على طباعها الخشنة، وهناك من انتقدوا امتلاء الصحافة المصرية بالحديث عن عروضها وعنها، من أغانيها ومن خزانة ملابسها. سئم الكثيرون من أبناء الجيل الشاب، في نهاية حياتها المهنية، على الرغم من تقديرهم الكبير لصوتها وقدرتها الموسيقية، من أغانيها الطويلة واشتكوا من أنها تسيطر على ساعات البث في الراديو وتمنع فنانين آخرين من نيل الشهرة. ترك موت أم كلثوم في عام 1975 صدمة للمصريين والعالم العربي. يُقدّر عدد المُشاركين بجنازتها من مليوني حتى أربعة ملايين شخص. يعتقد الكثيرون، على أي حال، أن جنازتها كانت أكبر من جنازة عبد الناصر. من غير المؤكد أن الأمر كان كذلك إلا أنه تلك هي طريقة الجماهير لتقول أن أم كلثوم حظيت بشعبية أكبر من شعبية القائد الوطني، بحيث حققت آمالهم.