قد تكون عمليات التحالف العربي في اليمن لا تزال في بدايتها، ولكن يمكن من الآن فعلا أن نستنتج نتائج أولية وأن نقيّم دلالاتها. بدايةً، وجدت الدول العربيّة صعوبة منذ سنوات في التوحّد لعملية حقيقية، وخصوصا في عملية عسكرية، للدفاع عن مصالحها. ولكن اليوم، فإنّ جهود إيران لاختراق الساحات المختلفة في أنحاء المنطقة وتوسيع نفوذها فيها، هي التهديد الأخطر على الإطلاق – على الأقل بالنسبة لجزء من الدول العربيّة. وفقًا لذلك، يمكن من الآن فعلا الحديث عن إنجاز للإجماع العربي على ضوء قدرته على التكتّل بسرعة وبفاعلية غير مسبوقة لإزالة التهديد المتأصّل، وفق رؤيته، بتزايد النفوذ الإقليمي الإيراني. إذا تُوّجت العملية العسكرية ضدّ الحوثيين وأنصارهم في اليمن بالنجاح، فمن الممكن أن تُشكّل بداية لعمليات عسكرية مشتركة في المستقبَل أيضًا.
ثانيًا، كشف الإجماع العربي عن الاستعداد في تنفيذ عملية عسكرية كبيرة أيضًا دون القيادة الأمريكية، كما حدث في الماضي حتى عندما كان الأمر دفاعا عن المصالح العربية. واليوم، خرجت الحكومات العربية لعدم وجود خيار آخر على رأس المعسكر عندما تشكّل في نظرها تهديد حقيقي وخطير على أمن بلدانها. ونؤكّد مع ذلك، على أنّه ما زال الحديث عن صراع ضدّ تنظيم غير دولي ولا يملك قوة دولة، وفي ساحة قريبة ومعروفة للسعوديين (رغم أن الحوثيين يتمتّعون بالمساعدات الإيرانية الكبيرة، ولكنّهم بعيدون بمسافة كبيرة عن القدرات التي وصل إليها حزب الله على سبيل المثال).
إنّ جهود إيران لاختراق الساحات المختلفة في أنحاء المنطقة وتوسيع نفوذها فيها، هي التهديد الأخطر على الإطلاق – على الأقل بالنسبة لجزء من الدول العربيّة
ثالثًا، انتقلت الولايات المتحدة هذه المرة أيضًا إلى المقعد الخلفي. وذلك، بسبب رغبتها في عزل المفاوضات التي تجريها مع إيران في الشأن النووي عن الصعوبات الأخرى والتوصل إلى إنهائه قريبًا. ولذلك أعلنت الإدارة بأنّها لن تطرح قضية الأحداث في اليمن والتدخّل الإيراني فيها أمام الإيرانيين خلال المحادثات النووية. ورغم ذلك، يمكننا أن نلاحظ تدخّل إدارة أوباما من وراء الكواليس في العملية، وبشكل أساسي بسبب طموحه في تقليص التدخّل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط. ولكن تصريحات الإدارة بخصوص ما يحدث في اليمن كانت ضعيفة نسبيّا، وكان التدخّل العسكري واهنًا: تقديم مساعدة استخباراتية ولوجستية (عمليات البحث والإنقاذ) للقوات العربية. من جهة أخرى، نظرا لأن الإدارة أوضحت أنّها لا ترغب بالربط بين قضية اليمن والمحادثات النووية، يمكننا الافتراض، أنّ هذه المحادثات لن تؤثّر بشكل ملحوظ على التوتّر الإقليمي، الذي نشأ عقب التطوّرات في اليمن وتجدّد الاهتمام في التدخل الإيراني بالدول العربية. رغم ذلك، فالإدارة تواجه حالة غير مريحة، حيث إنّ عليها أن تُفسّر جهودها في التقدّم بسرعة باتجاه اتفاق في الشأن النووي، في الوقت الذي ينكشف فيه مجدّدا التدخّل الإيراني العميق في دول أخرى وفي الوقت الذي يصطفّ فيه جزء كبير من العالم العربي ضدّ إيران.
مقاتلو الائتلاف ضد الحوثيين (AFP)
فضلًا عن ذلك، فقد أثبتت العملية القوة الاقتصادية والسياسية لدى دول الخليج في الفضاء العربي. إنها لا تزال بحاجة إلى مساعدة عسكرية ودعم سياسي لدول عربية أخرى، وعلى رأسها مصر، من أجل الحصول على الشرعية والدعم العسكري لعمليّاتها، ولكن وزنها في الشرق الأوسط بعد الاضطرابات العربية قد ازداد. لا يزال الجيش المصري هو أقوى الجيوش العربية، ولكن في أعقاب الصدمة التي مرّت بها مصر في السنوات الأخيرة اضطرّ نظام السيسي إلى الحصول على مساعدات مالية كثيفة تُنقل إليه من دول الخليج – وحيث إنّ لديه هو أيضًا مصالح حيوية في إبقاء مضيق باب المندب، الذي هو الممرّ المائيّ الاستراتيجي الأبرز لقناة السويس، مفتوحا وبعيدا عن النفوذ الإيراني.
لدى مصر مصالح حيوية في إبقاء مضيق باب المندب، الذي هو الممرّ المائيّ الاستراتيجي الأبرز لقناة السويس، مفتوحا وبعيدا عن النفوذ الإيراني
يجب أن نضيف إلى النشاط والتماسك العربي تطوّرا آخر، يتعلّق بفاعلية المملكة السعودية نفسها. في الواقع، فمنذ بداية الاضطرابات التي اجتاحت العالم العربي في السنوات الأخيرة كان بالإمكان أن نميّز الحيوية في السياسة الخارجية السعودية، بعد أن تميّزت هذه الأخيرة على مدى سنوات بالسلبية نسبيّا. تمثّلت هذه الحيوية، من بين أمور أخرى، بدخول قوة سعودية إلى البحرين عام 2011. علاوة على ذلك، يجلس في الرياض الآن ملك جديد، أكثر نشاطا من سابقه، وهو يحاول بطرق مختلفة أن يوحّد الفضاء العربي وأن يجرّ وراءه الدول الإسلامية الرائدة بهدف إيقاف تمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة. حقّق الملك إنجازات كبيرة، وكدليل على ذلك، فقد نجح في جلب أطراف متخاصمة إلى المعسكر السنّي، تركيا ومصر، لدعم عمليّاته في اليمن.
الملك سلمان يستقبل السيسي في الرياض (AFP)
من الناحية السياسية والاقتصادية فليست اليمن دولة عربية مهمّة بشكل خاصّ، ولكن أهميّتها نابعة من موقعها؛ قربها من المملكة العربية السعودية، التي تربطها بها حدود على طول 1,800 كيلومتر، ومضيق باب المندب (البوابة الجنوبية لقناة السويس ولإسرائيل أيضًا). واليمن هي أيضًا واحدة من عدّة ساحات، التي وُجد فيها صراع على طابع الشرق الأوسط بين إيران وأتباعها وبين الكتلة السنية الملكية. بحسب رؤية السعوديين، إذا رسّخت إيران نفوذها في اليمن، فسيكونون محاطين من كلا الجانبين من قبل إيران، والتي بإمكانها بسهولة أن تحرّض الشيعة الزيديّين في المملكة العربية السعودية نفسها. فضلا عن ذلك، فاليمن هو ساحة دولية للحرب على الإرهاب السنّي المتطرّف، بعد أن أقامت فيه القاعدة قاعدتها الرئيسية في شبه الجزيرة العربية.
[mappress mapid=”16″]
وتلك هي أيضًا الأسباب التي جعلت إيران تبذل جهودا على مدى سنوات في إنشاء بؤرة نفوذ في اليمن، حيث إنّ قاعدتها هي العلاقة الشيعية للمتمرّدين الحوثيين. بعد أن أقامت إيران مركزَيّ نفوذ في منطقة البحر المتوسّط: في لبنان، بواسطة حزب الله، وفي قطاع غزة، بواسطة حماس، من المهم بالنسبة لها أن تنشئ مركزا مماثلا في اليمن في منطقة البحر الأحمر. من المفترض أن يُستخدم هذا المركز لتشكيل ضغط على السعودية، ليس فقط من جهة الشمال الشرقي، وإنما أيضًا من جهة الجنوب الغربي. في الواقع، فإنّ نموذج التدخّل الإيراني في اليمن يشبه ذلك الذي أسّسته في العراق: الدعم بالمال، السلاح والتدريبات العسكرية للميليشيات المسلّحة المحلّية، من أجل جعلها عامل قوة رئيسي في البلاد، ويكون معتمدا عليها. وفقًا لذلك، فمن الواضح أنّ العملية العسكرية بقيادة السعودية وبمشاركة الدول العربيّة الأخرى غير مرغوبة بالنسبة لإيران، لأنّها موجّهة بشكل كبير ضدّ تدخّلها في اليمن وقد تجرّ وراءها عمليات جماعية أخرى، ليس عسكرية فقط، في مراكز نفوذ إيرانية في الفضاء العربي.
رجل انقاذ في احد المواقع التي استهدفتها الغارات السعودية على مراكز للحوثيين في صنعاء (AFP)
في النهاية، أخذت السعودية على نفسها مستوى من المقامرة لدى خروجها إلى المعركة، حيث إنها غير قادرة الآن على أن تسمح لنفسها بالخروج خاسرة في صراع على عتبة بابها. من المرتقب أن تستدعي عمليّاتها العسكرية ردّا إيرانيّا مؤلمًا – من قبل الحوثيين أنفسهم أو من قبل غيرهم. لم تتردّد إيران في السنوات الأخيرة في محاولة الإضرار بالمصالح السعودية في المملكة نفسها أو خارجها. (نذكر في هذا السياق محاولة اغتيال السفير السعودي في الولايات المتحدة عام 2011، بالإضافة إلى الهجمة الإلكترونية الإيرانية التي شلّت نظام الكمبيوتر لشركة أرامكو السعودية عام 2012). تسعى السعودية في عمليّتها هذه أن تقطع التدمير الإيراني على حدودها الجنوبية بالإضافة إلى ردع النشاطات الإيرانية الأخرى.
الاختبار اليمني لدى المملكة العربية السعودية يتلخّص بالتالي: تحقيق إنجاز عسكري يقود إلى تسوية سياسية، تستطيع المملكة أن تتعايش معها. حتى التسوية، التي سيخرج الحوثيون بحسبها مع تلبية نصف تعطّشهم فحسب، ستكون ضربة لإيران
لا يمكن الانتصار على الحوثيين من الجوّ. وليس هذا هو الهدف أيضًا. الهدف الرئيسي للمملكة السعودية هو إعادة الحوثيين إلى طاولة المفاوضات على مستقبل اليمن بواسطة رافعة الضغط العسكرية. والهدف الثانوي للمملكة السعودية، هو منع استخدام الوسائل القتالية المتقدّمة – كالطائرات الحربية وصواريخ أرض-أرض -من قبل الحوثيين ضدّها، بالإضافة إلى منع سقوط المدينة الساحلية الاستراتيجية، عدن، بأيديهم، حيث سيكملون بذلك في الواقع سقوط اليمن كلّه.
يبدو أنّ الحوثيين، في فتوحاتهم السريعة، قد ألّبوا عليهم قوى أكثر قوّة منهم، والتي ستؤدّي إلى الإضرار بقوّاتهم وإلى انسحابهم للوراء. يبدو أنّهم لو لم يكونوا “جشعين” إلى هذه الدرجة، فقد كان بإمكانهم أن “يهضموا” اليمن بشكل أسهل. احتمالات السعودية بأن تدفع الحوثيين للتراجع إلى الوراء أكبر من قدراتها على التعامل مع فروع إيران في ساحات أخرى، حتى لو كانت فقط بسبب وجود الألفة الحميمة مع عناصر مختلفة في المجتمع والسياسة اليمنية وقرب اليمن الجغرافي منها. ومع ذلك، على السعوديين أن يستغلّوا بسرعة وكفاءة الزخم العسكري والسياسي الذي حقّقوه من أجل محاولة التوصّل إلى تسوية سياسية؛ أيضًا مع إعطاء تأثير أكبر للحوثيين بالمقارنة مع الماضي. إذا لم ينجحوا في القيام بذلك، فمن المرتقب أن يجدوا أنفسهم غارقين في الوحل اليمني.
استنفار أمني عند الحدود السعودية-اليمنية (AFP)
الاختبار اليمني لدى المملكة العربية السعودية يتلخّص بالتالي: تحقيق إنجاز عسكري يقود إلى تسوية سياسية، تستطيع المملكة أن تتعايش معها. حتى التسوية، التي سيخرج الحوثيون بحسبها مع تلبية نصف تعطّشهم فحسب، ستكون ضربة لإيران بل وربّما تعطي دفعة للقوات التي تقاتلها في الساحات الأخرى.
في النهاية، يكمن في العملية الجماعية بقيادة السعودية جانب إيجابي كبير لإسرائيل. تلفت هذه العملية الانتباه إلى التدخّل الإيراني في الدول الأخرى في الشرق الأوسط ونفوذها المتزايد في المنطقة، وهي تدلّ على أنّ التهديد النابع من إيران غير متعلّق فقط بجهودها في الحصول على السلاح النووي، وإنما أيضًا في سعيها الواضح لتصبح القوة الإقليمية الرائدة في المنطقة. من غير المستبعد، أن تساعد هذه العملية في إنشاء مصالح مشتركة بين إسرائيل والدول الأعضاء في التحالف السعودي.
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع INSS
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني