“أعتقد أن من يعرّف نفسه على أنه فلسطيني لا يمكنه أن يكون صديقي. لا أعتقد أنني فلسطيني. وأنا لا أفهم الذين يدعونني “خائنا” في قريتي. إنهم يعيشون في دولة إسرائيل التي توفر لهم كافة الخدمات الممكنة. فالحياة هنا رائعة خلافا للدول العربيّة الأخرى”.
قال هذه الكلمات شاب في الخامسة والعشرين من عمره، وهو مسلم من قرية دير الأسد، شمال إسرائيل، عندما كان يحدثني وسط الصحراء الجنوبية حول النشاط العسكري لكتيبة الاستطلاع الصحراوية، التي هو قائدها.
“أحمد” ليس جنديا درزيا أو بدويا. يعرّفني على نفسه قائلا: “أنا مسلم، إسرائيلي فخور”، ويقف فخورا مرتديا زيّ الجيش الإسرائيلي ويحمل بندقية تافور.
مسلمون متطوعون في الجيش الإسرائيلي (Noam Moskowitz)
يثير تجنّد الشبان المسلمين بشكل خاص وعرب إسرائيل بشكل عام في السنوات الأخيرة جدلا قاسيًّا بين الأقلية المؤيدة وبين الغالبية المعارضة. وفقا للتقديرات، هناك نحو 1000 مسلم (غالبيتهم العظمى من الذكور) يتطوعون في الجيش الإسرائيلي اليوم، ولا سيما، أن قانون التجنّد في إسرائيل لا يلزم المسلمين. فهو ينطبق على الإسرائيليين اليهود وعلى مواطني البلاد الدروز الناطقين بالعربية.
من أجل الاطلاع على الأزمة في المجتمَع العربي في إسرائيل عن قرب، المنبثقة عن هذه القضية المثيرة للجدل سافرنا لإجراء مقابلة مع جنديَين مسلمَين يخدمان في هذه الأيام في الخدمة القتالية في الجيش الإسرائيلي. يرتكز معظم نشاط كتيبة الاستطلاع في الجيش الإسرائيلي في السنوات الأخيرة في قطاع غزة.
يقول “أحمد” إنّه في هذه الأيام يرى موجة آخذة بالازدياد من الشبان المسلمين الذين يرغبون في التطوّع في الجيش الإسرائيلي. “إنه مسار تقدّم اجتماعي فريد من نوعه. وهو واجبي المدني. أرى المزيد والمزيد من الشباب في قريتي دير الأسد ينضمون إلى الخدمة العسكرية. وأنصح الكثيرين بالتجنّد، بل إنني أطلب منهم التجنّد للألوية والكتائب القتالية وألا يكونوا جنودا في الجبهة الداخلية ويخدمون في مكاتبها بتل أبيب. وإذا كانت هناك إمكانية للاستمرار في الخدمة وتطوير مهنة عسكرية فهذا يُستحسن. لقد كنت قائدا مسؤولا عن أخي، والآن التحق ابن أخي الذي أنهى الصف العاشر بالخدمة في سلاح البحريّة في حيفا”.
مسلمون متطوعون في الجيش الإسرائيلي (Noam Moskowitz)
“أحمد” هو سليل عائلة كبيرة في قرية دير الأسد، والتي خدم جميع أبنائها الذكور في القوى الأمنية الإسرائيلية. أنهى شقيقه الذي تجنّد عام 2003 الخدمة في حرس الحدود وكان شقيقه الأصغر جنديا تحت قيادته، في نفس كتيبة الاستطلاع. “شجعنا والدي دائما على مساهمتنا في الدولة بفخر. فهو معروف جدا في القرية وفي منطقة الشمال. ورغم أنّ والدي لم يخدم في الجيش الإسرائيلي فقد حرص على أن ننضم إلى مسار مهني عسكري”.
خلال المقابلة لم يتردّد “أحمد” للحظة: كيف تردّ على من يصفك “خائنا”؟
“لا يهمني ذلك أبدا، بل على العكس، فأنا لا أفهم هؤلاء الذين لا يريدون الالتحاق بالخدمة العسكرية في دولة إسرائيل. إنها تمنحنا الكثير، وأنا مسلم فخور. وفي الوقت ذاته أنا إسرائيلي ونائب قائد في الجيش الإسرائيلي. وأكثر من ذلك، لا أفهم عرب إسرائيل الذين يعرّفون أنفسهم على أنهم فلسطينيون. أنا أبتعد عنهم ولا أريد أن يكونوا أصدقائي”.
الأسدي، الذي يعتبره قادته وكل من يعرفه “جنديًّا مهووسا” (وهو وصف للمقاتلين الذين يحلمون بالجيش، يأكلون، يشربون ويتنفّسون كل ما يتعلق به)، متزوج ولديه ثلاثة أطفال بل ويخطط لتوسيع أسرته.
وبينما يتّكئ على جيب عسكري، يخبرني “أحمد” أيضًا عن يومه الأول في الجيش الإسرائيلي قائلا: “لقد خشيتُ جدّا، ولم أعرف إلى أين وصلتُ وكيف سيكون استقبالي. وكلما تقدّمتُ وانتقلتُ في مسارات القيادة المختلفة، أدركت أكثر أنّه يجب عليّ أن أخدم أكثر في الجيش وأن أطمح إلى مهنة عسكرية هنا”.
اليهود والمسلمون المتطوعون اصبحوا اخوة للسلاح في الجيش الإسرائيلي (Noam Moskowitz)
وعندما سُئل كيف كان ردّ فعل أصدقائه اليهود في الكتيبة عندما علموا أنّه مسلم متطوع في الجيش الإسرائيلي أوضح قائلا: “في البداية، كان هناك من خاف من أن يقترب مني. إذ إنه ليس من المعتاد أن يتطوّع مسلم للخدمة في الجيش الإسرائيلي. ورويدا رويدا، بدأ الأشخاص من حولي بالتعرف عليّ وأصبحنا اليوم أفضل الأصدقاء و “إخوة السلاح”.
لم يشارك “أحمد” في الحرب الأخيرة في غزة (صيف 2014) ولكنّه انضمّ إلى بعض الخلايا العسكرية بصفته الناطق باللغة العربية وذلك للبحث عن الشبان الثلاثة الذين اختُطفوا (حزيران 2014) في مدن الضفة الغربية وأوضح قائلا: “طلبوا مني في الجيش الانضمام إلى خلية بحث نفّذت اعتقالات في القرى والمدن الفلسطينية. كنت أدخل مع الجنود وأتحدث مع الفلسطينيين بالعربية، لتسهيل عملية التواصل بين الطرفين. كان يعرف الناس أنّني عربي وكانوا يكيلون لي الشتائم التي كان يُستحسن لهم أن لا يقولونها. وهتفوا نحوي “خائن”.
سألته إذا شعر بالإهانة؟ إذا كان يخشى أن يضايقوه؟
فأجابني برباطة جأش مميّزة للقادة عادة “هذا لا يهمني أبدا. جئت لتنفيذ الأوامر فحسب”.
وعدّد لي “أحمد” بعد ذلك كافة المزايا التي يتمتع بها الشبان المسلمين في الجيش الإسرائيلي قائلا: “تعلّمت هنا معنى الانضباط والقيم. ويكافئ الجيش الشبان المسلمين الذين يلتحقون به. الجنود المسلمون قادرون على شراء قطعة أرض كبيرة بأسعار مدعومة من الدولة، أسعار زهيدة حقّا. وفضلا عن المنحة المالية الكبيرة التي يحظى بها الجندي عندما ينهي ثلاث سنوات من الخدمة (اليهود والعرب على حدٍّ سواء)، يتلقى المتطوعون المسلمون في الجيش راتبا عاليا بشكل ملحوظ (إضافة نحو 1500 دولار شهريّا) طوال أشهر الخدمة الستّة الأخيرة، ولكن لا يحظى الجندي اليهودي بهذه المزايا”.
خلال التدريبات، مرّ أمامنا جندي نحيف في ميدان الرماية. توجّهنا إليه للتعرّف عليه، فاتضحت لنا قصة أكثر مفاجأة، مناقضة تماما تقريبا لقصة الأسدي.
محمد (اسمه الكامل محجوب ومحفوظ في هيئة التحرير) هو شاب (20 عاما) من إحدى أكبر المدن العربية في شمال إسرائيل والأكثر تضامنا مع النضال ضدّ تجنيد المسلمين في صفوف الجيش.
محمد جندي في الجيش الإسرائلي نبذته اسرته (Noam Moskowitz)
تحدث قائلا بخجل شديد: “تجنّدت قبل ثلاثة أشهر في كتيبة الاستطلاع. ما زلتُ مجنّدا حديثا”. كان من السهل أن نلاحظ أن هناك قصة عائلية صعبة وراء تجنّده للكتيبة المقاتلة. كلما تقدّمنا في حديثنا انكشفت أمامنا شهادات قاسية لعنف مرّ به محمّد عندما أخبر أصدقاءه وأسرته نيّته بالتجنّد للجيش وقال “عشية وصولي إلى مكتب التجنيد، هاجمني أبي وأخي، وبالمقابل، حاولت أمي مساعدتي ولكن دون جدوى، فطُردتُ من منزلنا، وعندها توجهت مباشرة إلى مكتب التجنيد. لقد وصلت إليه، ولم يكن لدي إلى أين أعود في نهاية الأسبوع. وجد لي الجيش الإسرائيلي حلّا مؤقّتا للعودة إلى “بيت الجندي” (وهو مؤسسة تهدف إلى تقديم مأوى للجنود الوحيدين) في حيفا”.
يواجه محمد في هذه الأيام نبذًا اجتماعيا وأسريا شديدا بشكل خاصّ ولذلك يهتم المسؤولون في الجيش به. “كان لدي حلم التجنّد في الجيش الإسرائيلي وليس هناك أي سبب لأن أتخلى عنه. هتفوا نحوي “خائن” ولكنني أشعر بالرضى في الجيش وأفكّر بسيرة مهنية عسكرية طويلة”.
هل ترغب في استعادة العلاقة مع والديك؟ لمن تشتاق أكثر من بينهما؟
“أنا مستعد لإعادة العلاقة مع والدي ولكنّهما لا يرغبان فيها، ولذلك، أشعر الآن صعوبة. أكثر ما أشتاق إليه اليوم هو الطعام التقليدي، أحن إلى طعام أمي”.
هل تفهم معنى قرارك أن تكون جنديّا قتاليّا في الجيش الإسرائيلي؟ معنى أنك ستضطر إلى قتال أبناء شعبك في الجانب الآخر، وقت صدور الأوامر…؟
“أفهم أهمية هذا القرار وما زلت متمسكا به، أنا لا أحارب الأبرياء. سأحارب الإرهابيين وسأنفّذ أوامر قائدي”.
سيستمرّ موضوع تجنيد الشبان المسلمين للجيش الإسرائيلي، والذي يخدم دولة اليهود الديمقراطية، في التطرق إلى العلاقات العربية – اليهودية في إسرائيل في السنوات القادمة ولكن بدأت تتبلور لدي بعض الاستنتاجات المهمة حول هذا الموضوع:
مسلمون متطوعون في الجيش الإسرائيلي (Noam Moskowitz)
يشكل التجنّد للكثير من الشبان المسلمين، ولا سيما، الذين يعيشون في مناطق الهامش ارتقاء اجتماعيًّا ناتجا عن الخدمة في الجيش الإسرائيلي.
يشكل الدعم والمكافآت الاقتصادية التي يقدّمها الجيش الإسرائيلي إلى هؤلاء الشبان أهمية كبيرة للتفكير بالتجنّد.
يذوت المزيد من الشبان المسلمين حقيقة التجنّد وهم مستعدون للتطوّع في الخدمة العسكرية.
يخدم معظم الشبان المسلمين في وحدات قتالية ولا يتخلّون عن حلم السيرة المهنية العسكرية طويلة الأمد.
تتعزز أهمية الهوية الدينية والإسرائيلية لدى قسم كبير من المسلمين الذين وُلدوا في إسرائيل على حساب ضعف الهوية الفلسطينية.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني