بات الوضع في تركيا مربكا. بعد كل عملية إرهابية يبدأ المحللون فورا في طرح التساؤلات- الأكراد؟ داعش؟ وربما تنظيم فتح الله غولن، الذي حظي سابقا باختصارات خاصة به في تركيا FETO (Fethullah’s Terror Organization). هناك حتى حركة سرية ماركسية صغيرة تعمل ميدانيا. يُنشئ النشاط الموازي لكل هذه التنظيمات الإرهابية سلسلة من العمليات الإرهابية المقلقة تقوّض الاستقرار في تركيا.
يبدو الأمر معقّدا، ولكنه في الواقع بسيطا جدا. لدى كل واحد من هذه التنظيمات أجندة واضحة وتتفاوت فيما بينها. إن تحديد الأهداف وطرق العمل سيمكننا من فصل هذه الخيوط المتشابكة.
نبدأ تحديدا بالتنظيم الأخير، الأصغر والأقل أهمية. وهو الحركة السرية المعروفة باسم DHKP-C (اختصار بالتركية لـ “حزب التحرر الشعبي الثوري – جبهة”) هو بقايا راديكالية لحزب اليسار الثوري التركي المعروف بـ (DEV-SOL). عملياتها الإرهابية موجهة بشكل أساسيّ ضدّ الشرطة وأجهزة القانون التركية، وكذلك ضدّ أهداف أمريكية. ففي السنوات الأخيرة حاولت، من بين أمور أخرى، ضرب السفارة الأمريكية في أنقرة والقنصلية في إسطنبول. وكما هو حال الكثير من التنظيمات الإرهابية الماركسية العريقة بات التنظيم ينفّذ العمليات لكل من يدفع ثمنا أعلى.
FETO، تنظيم غولن، هو ليس تنظيما إرهابيا أبدا. يدعي الكثيرون في تركيا وخارجها أن رجل الدين التركي المقيم في الولايات المتحدة بنى منظومة مؤيدين من أجل السيطرة على تركيا. ربما يكون ذلك صحيحا. تسلل أعضاء التنظيم – الذي يسمي نفسه Hizmet (الخدمة بالتركية) – من خلال عمل بطيء وشمولي إلى مناصب رئيسية في الدولة من بينها الشرطة، منظومة القضاء وحتى في الجهاز الحكومي الرفيع، ولكن في بداية عام 2014 بدأ دفعهم خارجا وسُجن الكثير منهم، بعد أن انهارت إجراءات الكشف عن الفساد الكبير في القيادة ومحاولة إسقاط الحكومة.
شارك ضباط تم تعريفهم كأعضاء في تنظيم غولن في محاولة الانقلاب في تموز، ولكن وفقا لكل الشهادات فالحديث يدور عن حزب واحد فقط إلى جانب بعض المجموعات الساخطة في الجيش، وربما تعمل أيضا دون موافقة القائد. حتى اليوم لا تعرف ولا حادثة واحدة فيها إثبات مقنع حول مسؤولية التنظيم عن العمليات الإرهابية الواضحة. رغم ذلك، ادعت السلطات في تركيا أنّ قاتل السفير الروسي عضو في FETO، ولكن اعتمد الدليل على أدلة غير مثبتة لذلك لم يقتنع به أحدا. من المرجح أن أردوغان سيستمر في اتهام صديقه السابق في كل حادثة إرهابية لم يتم فك رموزها.
الأكراد، المجموعة الثالثة في القائمة، هم ليسوا مجموعة متجانسة حتى عندما يتعلق الأمر بعمليات إرهابية. عدّل تنظيم الـ PKK (حزب العمّال الكردستانيّ)، الذي بدأ طريقه كحركة سرية ماركسية، عن أيديولوجيّته نوعا ما مع مر السنين، ولكن لا يزال يشكّل تهديدا كبيرا على السيادة التركية في شرق الأناضول. بعد انهيار العملية السياسية قبل نحو عام ونصف بدأت حرب داخلية شاملة بين الجيش والشرطة التركية وبين قوات كردية تعمل بشكل سري. إلى جانب القتال المباشر ضدّ الجيش التركي (والذي أضر كثيرا بالكثير من المدن والقرى الكردية في شرق البلاد) يمتلك هذا التنظيم أيضًا ذراعا للعمليات الإرهابية، والذي يعمل بشكل أساسي ضدّ القوى الأمنية في شرق الأناضول.
عام 2004 بدأت تعمل حركة سرية كردية جديدة تحت اسم TAK (اختصار صقور حرية كردستان)، والتي انشقت عن الـ PKK على خلفية استعداد الحركة القديمة بالتوصل إلى تسوية سياسية مع تركيا. هناك من يدعي أنّ هذا التنظيم ليس سوى تغطية لعمليات مثيرة للجدل لـ PKK، ولكن الأرجح أنّه فرع متطرف للحركة السرية. في السنوات الأخيرة، تنفذ حركة “الصقور” معظم العمليات الإرهابية في تركيا. أهدافها الإرهابية بشكل أساسيّ هي عناصر الجيش والشرطة، وتشكل السيارات المفخخة التي قتلت عناصر شرطة قرب إستاد باشيكتاش والجنود في الشاحنة في مدينة قيصرية في الأسابيع الماضية أمثلة واضحة على ذلك. إلى جانب هذه الأهداف تشمل أهداف هذه الحركة السرية أيضًا مكاتب الحكومة والإدارات المحلية، بشكل أساسيّ في الشرق، وكل المتعاونين مع الحكومة التركية في أوساط القرويين الأكراد.
https://www.youtube.com/watch?v=NtAbUuFLL9E
المجموعة الرابعة، داعش، وهي ليست انتقائية في أهدافها، كما نعلم جيدا، ولكنها تبذل تفكيرا استراتيجيا في اختيار أهدافها أيضا. ففي السنوات الأخيرة نفذت كل عملياتها تقريبا ضدّ مدنيين. أهداف التنظيم هي أولا زيادة التوتر بين الحكومة التركية وبين الأكراد. كانت تهدف العملية في المدينة الحدودية الريحانية وسلسلة العمليات في مدينة ديار بكر إلى الإضرار بالأكراد وزيادة عدم الثقة بينهم وبين الحكومة. هكذا تكون مكاسب داعش مزدوجة- إضعاف الجبهة الكردية ضدّها، وتوجيه الجهود التركية إلى نحو التعامل مع التمرّد الكردي. على المدى القريب المأساوي ساعدت الحكومة التركية داعش في المراحل الأولى، وتجاهلت عملياتها سامحة لها بالتموضع في تركيا. بل هناك من يدعي أنّها استخدمتها لتنفيذ عمليات معينة ضدّ خصوم داخليين. في 2015 فقط، تحت ضغوط غربية، غيرت الحكومة سياستها وبدأت بمكافحتها.
إلى جانب هدف الإضرار بالعلاقات الكردية التركية الواضح، يسعى عناصر داعش إلى الانتقام من الحكومة التركية التي أصبحت عدوّا والإضرار بالأمن الشخصي في تركيا، في الاقتصاد والسياحة. العملية الضخمة في أنقرة قبل نحو عامين، العمليات في شارع الاستقلال وفي ميدان السلطان أحمد في إسطنبول، والعملية الأخيرة في ملهى رينا في إسطنبول هي جزء من تلك الاستراتيجية.
لكل هذه التنظيمات هناك مصلحة في الاستمرار بالإضرار بالدولة التركية، ولكن لكل واحد منها هناك أهدافه الخاصة، قاعدة دعم مختلفة، وطرق عمل خاصة. طالما استمرت الحكومة التركية في عرض جميع التنظيمات كجبهة إرهابية واحدة دون التمييز بينها، وتقويض عمل الشرطة، الجيش والنظام القضائي، واعتقال المشتبه بهم على أساس ارتياب لا أساس له من الصحة، فستفشل في محاولتها بناء استراتيجية واضحة لمعالجة هذه التهديدات الإرهابية.
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع منتدى التفكير الإقليمي