لا تتوقف غالية بن علي عن المفاجأة. بعد أن مثّلت في عدة أفلام، ظهرت كراقصة، أخرجت أغانٍ أصلية خاصة بها، جدّدت كلاسيكيّات عربية معروفة، غنّت الفلامنكو بالعربية والأناشيد الدينية بأسلوب هندي، تعاونت مع المطربة الفرنسية – الأرمنية نارا نويان ومع فرق موسيقى إلكترونية، غنّت مع فرق مختلفة لموسيقى الجاز حول العالم ومع الموسيقي المصري الحائز على جائزة غرامي فتحي سلامة، غنّت في القاهرة مع المطرب “الشعبي” أحمد عدوية من جهة، وفي الإسكندرية مع فرقة الروك – جاز البديلة “مسار إجباري” من جهة أخرى. بعد كل ذلك، تمكّنت بن علي في الشهر الأخير فقط من إصدار أغنية جديدة مصحوبة بعمل فيديو خاص بها، والغناء في مهرجان موسيقى إفريقي في لندن والغناء مع مجموعة مغنيي موسيقى ألمانية كلاسيكية “‏The Vocalconsort Berlin‏” في ليتوانيا ‏ ومع الفرقة البلجيكية ‏”‏Zefiro Torna‏”‏ في أداء خاص سُمّي “رمزية العاطفة”، وقد أدوا فيها توزيعات موسيقية غربية وعربية لـ “نشيد الأنشاد”.

ويبدو أنّ ليس هناك أي نصّ يشبه شخصية بن علي أكثر من “نشيد الأنشاد”: من جهة، فهو أغنية حبّ مثيرة بين رجل وامرأة يتوجّه كلّ منهما للآخر، ومن جهة أخرى، هو نصّ ديني يُعتبر رمزًا للعلاقات بين الله والمؤمنين. التقليد والحداثة، الإيمان والجرأة، الغرب والشرق، البوب والكلاسيكية، الفنّ البصري والفنّ الصوتي؛ جميع هذه تلتقي عند بن علي، وتنصبّ إلى داخل صوتها المنخفض والعميق، والذي يبدو وكأنّه ينبع من رحم الأرض، من بحّة في الصوت مع وضوح، الغناء النسائي مع الغناء الصوفي ونداء المؤذن، والغناء مع الرقص.

تُعتبر بن علي مطربة – كاتبة، راقصة، ممثلة وفنّانة فيديو تونسية، تعيش في بلجيكا. وُلدت عام 1968 في بروكسل لوالدين هاجرا من تونس كطالبين للطبّ، ونشأت في منزل يحبّ الفنّ والموسيقى. حين كانت في الثالثة مع عمرها عادت إلى تونس مع أسرتها، التي انتقلت للعيش في مدينة جرجيس الساحلية جنوبي البلاد، وحين كانت في الواحد والعشرين من عمرها عادت للعيش في بروكسل حيث درست التصميم الجرافيكي. وقد تعرّضت هناك أيضًا لثقافات مختلفة وكانت منفتحة على تأثير الأساليب الموسيقية المختلفة. عام 1996 ظهرت للمرة الأولى كمطربة، وفي غضون مدة قصيرة تمّت دعوتها للغناء في فرنسا والبرتغال. عام 2000 شاركت للمرة الأولى في فيلم “موسم الرجال” للمخرجة التونسية مفيدة التلاتلي، ومنذ ذلك الحين لديها أعمال عديدة.

بين زرقة البحر وصفرة رمال الصحراء، كما تصف بن علي، كان السائحون والراديو الوسيلتين الوحيدتين اللتين ربطتا حياتها في جرجيس مع العالم الخارجي. وكانت المؤثرات كثيرة: الموسيقى الكلاسيكية المصرية، الأغاني الفرنسية، الأغاني السورية والعراقية، الموسيقى الهندية، الأغاني التونسية، قراءات منغّمة للقرآن والتراتيل (مزامير دينية)؛ أثّر كلّ ذلك على بن علي، التي انجذبت للموسيقى والفنّ والغناء في سنّ صغيرة.

لم تدرس أبدًا الغناء أو الموسيقى في إطار مقبول وإنما استندت إلى السماع فحسب. حسب كلامها، فقد تأثرت جدًا بالمطرب السوري أديب الدايخ، وخصوصًا بـ “تجويد القرآن” (قراءة القرآن بنغمات) للقارئ المصري الشهير الشيخ عبد الباسط عبد الصمد وبالأغاني الكلاسيكية لملكة الغناء العربي أم كلثوم. تم بثّ كلاهما يوميًا في الراديو وسَحرها، ويمكن سماع تأثيرهما في أغانيها اليوم.

بل إنها “تجرّأت” عام 2010 على إصدار ألبوم اسمه “غالية بن علي تغنّي لأم كلثوم” وقد أدّت فيه بعض الأعمال الكلاسيكية للمطربة المصرية الأسطورية. “تجرّأت”، لأنّ بن علي فعليّا لديها أسلوب خاصّ بها، سواء من الناحية الصوتية، أو من حيث تقديم الأغنية أو من ناحية مظهرها. إنّها متحرّرة، بل هي “برّية” بالمصطلحات المحلية، تظهر بشعر مجعّد ومنثور، ترتدي ثوبًا يكشف كفّا أو كفّين أو بنطالا ضيّقًا، ترقص على المسرح، وتسمح لنفسها بالتصرّف كما لم تكن أم كلثوم لتفعل أبدًا. تختلف بن علي بأسلوبها عن كل مطرب أو مطربة يمكن السماع عنهم اليوم في العالم العربي، ومن الممكن اعتبار ترجمتها الشفوية لأغاني أم كلثوم الكلاسيكية بالنسبة للأذن المحافظة “تدنيس للمقدّس” فعليّا. على أية حال، فإنّ التفسيرات العصرية لأغاني المطربة المصرية لا يسهل استيعابها دائمًا بالنسبة للجمهور التقليدي، وفي كثير من الأحيان لا تكون موضع ترحيب.

هذا ما حدث أيضًا في حالة بن علي. حين توجّهت إلى شركة تسجيلات عربية من أجل إصدار ألبومها الذي يحوي أغاني أم كلثوم، وُوجهتْ بالرفض بزعم أنّ “أم كلثوم لا تغنيها أية مطربة سوى أم كلثوم”. ولكن ذلك لم يردع بن علي، وبالتأكيد لم يمنعها من تسجيل الألبوم. بن علي هي امرأة نسوية، تغني من أجل تحرير الشعوب العربية وأيضًا تحرير المرأة، وهذا التحرير – من بين أمور أخرى – هو من أغلال التقاليد، بما في ذلك التقاليد الموسيقية التي تحترمها وتقدّرها بنفسها كثيرًا، ولكن ليس عندما تكون جامدة ومغلقة أمام الابتكار والتجديد.

فضلا عن ذلك، فلدى بن علي دور سواء في أوساط الشباب في العالم العربي أو في الغرب. وقد أوضحت في مقابلة ببرنامج الاستضافة المصري “مساء الخير” أنّ أم كلثوم هي المطربة العربية الوحيدة التي يعرفها الغرب ولذلك كان من المهمّ بالنسبة لها أن يُفسح المجال لأغانيها بحيث يكون من السهل الاقتراب من أم كلثوم والموسيقى العربية عمومًا. وفيما يتعلّق بالشباب العربي قالت إنّهم بالفعل يستمعون بشكل مختلف و”لديهم أصوات أخرى في آذانهم وموسيقى مختلفة”. وهكذا في الواقع وجدت نفسها وسيطة لأم كلثوم ليس للغرب فحسب، وإنما أيضًا لجيل الشباب في العالم العربي، والذي يتواصل بسهولة أكثر مع الأسلوب المعاصر الذي جاءت به.

وليس عبثًا أن تربط بن علي أم كلثوم بـ “تجويد القرآن” حيث إنّ لقراءة القرآن وللغناء العربي مبادئ مشتركة، وهناك من يزعم أنّ القراءة المنغّمة هي الأساس للغناء العربي. وقد كان لأم كلثوم بالفعل خلفية في تعلّم القرآن، بعد أن أرسلها والدها في طفولتها للدراسة في “الكُتّاب”. في الواقع، فقد عُرفت أم كلثوم طوال سنوات حياتها المهنية بفضل مهارات النطق الخاصة بها، التعبير الصحيح والحسّاس للنصّ، وبفضل استخدام ظلال النغمات الصوتية المختلفة، التي تضفي رنينا على بعض المقاطع، جذب الأصوات، التأخّر عند حروف ساكنة مختلفة وما شابه ذلك.

نعم إذًا، فإنّ بن علي لم تدرس في “الكُتّاب:، وهناك شكّ ما إذا كانت تتقن فنون القراءة الدينية بجميع قواعدها. ولكن لا شكّ أنّها استمعت لها كثيرًا وتأثّرت بها جدّا. وبطريقتها الخاصة، والاستثنائية في جمالها برأيي، تستخدم ما تعلّمته من الاستماع فحسب بشكل ذكيّ وبالأساس حسّاس جدّا. حتى أغانيها الأكثر “علمانية” (هناك شكّ إذا كانت ستوافق على هذا التعريف بنفسها) متأثّرة بعناصر مستمدّة من الصلاة والأناشيد الدينية، حيث إنّها تمزجها بأسلوب موسيقي معاصر وحديث. بالإضافة إلى ذلك؛ فعلاوة على أغانيها الخاصة، والأغاني الشعبية التي تقوم بتجديدها، فإنّ بن علي لا تخشى من التوجّه إلى النصوص الأكثر تعقيدًا في القصائد العربية القديمة، المكتوبة بلغة عربية فصيحة. “كلّ قصيدة تشكّل صورة كاملة”، كما قالت في المقابلة، “وأنا بالفعل مصمّمة جرافيكية. فأنا أبحث عن الكلمات التي تشكّل لي رؤية وأجواء تمكّنني من الحلم والتخيّل”.

ترقص في قصور مهجورة

في الحقيقة منذ صدور ألبوم أدائها لأغاني أم كلثوم قبل نحو أربع سنوات لم تصدر أيّ ألبوم. مع ذلك، فليس من الممكن لمبدعة موهوبة ومفرطة النشاط مثل بن علي أن تكون في حالة ركود. فبالإضافة إلى الأعمال المشتركة المختلفة والحفلات في أنحاء العالم، ترفع بن علي كلّ فترة إلى حسابات الساوند كلاود واليوتيوب الخاصة بها أغاني جديدة كتبتها أو أداءات جديدة لها لأغاني عربية كلاسيكية. بعضها يكون مصحوبًا بعمل فيديو تقوم هي بتصويره وتحريره، وتتحوّل بذاتها بفضل شاعريّتها إلى جزء لا يتجزّأ من الإبداع الغنائي الخاص بها. على سبيل المثال، أغنية “يوم سُحلت القاهرة”، والمخصّصة لأكثر مدينة محبوبة بالنسبة للمطربة بن علي وللأحداث التي جرت فيها في السنوات الأخيرة، تمّت مصاحبتها بفيديو خلاب تمّ تصويره في شوارع المدينة وصوحب بأغنية تبدو كنداء الآذان.

نموذج آخر وهو أغنية “دي سحالي” (السحلية) للشاعر المصري فؤاد حداد، الذي قضى سنوات غير قليلة في السجن وكان معروفًا بدعمه للنضال الفلسطيني. تمّت كتابة القصيدة بالعربية المصرية المحكية وهي تتحدث عن النفس الحرّة، مثل “أبو بريص” الذي يكون على الحائط، يصعد ويهبط، يذهب ويأتي متى يشاء. في تفسير بن علي، إضافة إلى عمل الفيديو الذي تمّ فيه تصوير ثلاث فتيات يلعبن مع بعضهنّ البعض ومع الكاميرا؛ تأخذ الأغنية معنى نسويّا واضحًا، لا يدعو فقط إلى التحرّر الوطني بل أيضًا إلى تحرير المرأة.

كانت الأغنية الأخيرة التي رفعتها بن علي هي توزيع موسيقي جديد للقصيدة الكلاسيكية “مالي فتنت بلحظك الفتاك” من عام 1926. وهي إحدى الأغاني الأولى لأم كلثوم والتي حظيت بتسجيل تجاري، ولذلك فقد حظيت بأداءات كثيرة من قبل العديد من المطربين، من بينهم المطربة اليهودية حبيبة مسيكة، التي كانت المطربة الوطنية لتونس حتى موتها المأساوي عام 1930. صوحب الأداء الجديد بعمل فيديو قامت بن علي بتصويره، وتبدو فيه وهي ترقص داخل أحد القصور المهجورة في تونس.

وليست كلاسيكيات أم كلثوم فحسب هي التي تحظى بتوزيعات بن علي الموسيقية. فقبل نحو عام رفعت إلى اليوتيوب قصيدة كلاسيكية أخرى، مصحوبة هي أيضًا بعمل فيديو قامت بتصويره وتحريره. هذه المرة كانت تلك قصيدة “لو كان لي قلبان”، والتي أداها في الأصل المطرب التونسي لطفي بوشناق.

وهي أحد النصوص الأكثر كلاسيكية في الثقافة العربية القديمة، والذي كُتب من قبل الشاعر قيس بن الملوّح ابن القرن السابع الميلادي. لقد عُرف بشكل أكبر بلقب “مجنون ليلى” لأنّه كان مجنونًا ببنت عمّه. ولكن عائلتها رفضت تزويجه من ابنتهم، وبدأ بكتابة قصائد الحبّ التي تمزّق القلب والتي انتشرت في أنحاء العالم العربي، حتى عثروا عليه ميتًا في وادٍ بشبه الجزيرة العربية عن عمر يناهز الثالثة والأربعين عامًا. وقد كُتب في القصيدة التي تؤدّيها بن علي: “لو كانَ لي قلبان لعشت بواحدٍ / وأفردتُ قلباً في هواك يُعذبُ، لكنَّ لي قلباً تّملكَهُ الهَوى / لا العَيشُ يحلو لَهُ ولا الموت يقربُ، كعصفورة في كف طفلٍ يهينها / تُعَانِي عَذابَ المَوتِ والطِفلُ يلعبُ، فلا الطفل ذو عقل يرق لحالها / ولا الطيرُ مطلوقُ الجناحينِ فيذهبُ”.

إنّ احتمال غناء بن علي في إسرائيل هو بطبيعة الحال يكاد يصل إلى الصفر. ولكن إذا جاءت لتغني في فلسطين فلا شكّ أنّني سأكون أول من يشتري تذكرة للحفل، لأنّه من الممكن جدّا أنّني أصبحت خلال الكتابة “مجنون غالية”.

اقرأوا المزيد: 1484 كلمة
عرض أقل