حلب ليست جرح سوريا الدامي وحدها فقط، وإنما أيضًا جرح الإنسان العربي والنظام العالمي في زمننا. تفسح ظروف دولية مجالا مريحا أمام العنف الدامي وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، المعروفة لنا جيدًا من التاريخ المُعاصر. تحدث تلك الجرائم بينما تُكتب هذه السطور، في حلب وفي مناطق أخرى من سوريا، دون أي رادع، وحتى ببث حي ومباشر في حالات معينة.
يتكون النظام العالمي من مؤسسات الأمم المُتحدة ومجلس الأمن والقانون الدولي ومصالح بعض الدول التي تلعب دورًا رئيسيًا. يمر هذا النظام، منذ نهاية الحرب الباردة في ثمانينات القرن الماضي، بعملية تغيير ولكن العولمة والإجراءات التي ترافقها تُغير أيضًا خارطة المصالح الاقتصادية والاستراتيجية في العالم.
وفي السنوات الأخيرة، تتشكّل القوى العُظمى على الساحة الدولية من جديد: تتراجع مصادر طاقة معينة، تظهر وتتطور مصادر طاقة جديدة، تُقام مناطق مُشتركة وتُفتح خطوط جوية وبحرية. تتفكك دول وفي المقابل تنهض دول أخرى (204 دولة أعضاء اليوم في الأمم المتحدة، مقارنة بـ 170 دولة في الثمانينات)، تتغير وتُمحى حدود دولية، تتشكل تحالفات جديدة وتغيّر الصين النظام العالمي. وهذه الأمور تُعبر جزءًا صغيرًا فقط من الأسباب التي تدفع إلى تغيّر النظام العالمي في عصرنا هذا.
إلا أن تلك التغيرات أيضًا باتت تؤثر في المُصطلحات الأساسية مثل مُصطلح “الدولة”، “السيادة”، “الرأسمالية”، الديموقراطية”، “القومية”، “المجتمع المحلي”، وما إلى هنالك. تُضعف العولمة وتفكك حتى دولاً وطوائف وتمحي الحدود. تتبدل ديناميكية النظام بديناميكية فوضى وتخريب وتقويض للدولة وسيادتها لصالح تكتلات دولية. تثور مدنٌ أيضًا على دولها وتعلن أقاليم استقلالها، وأفضل مثال على ذلك في الشرق الأوسط هو إقليم كردستان. ويُعاد تنظيم العالم من جديد.
تتراجع أهمية المؤسسات الدولية والنُظم المسؤولة عن ترتيب العلاقات الدولية وتنظيمها. كذلك يتراجع تأثير تلك المؤسسات في قدرتها على منع الإبادات الجماعية أو الجرائم الإنسانية. ففشلت في سوريا وحلب حتى منظمات الدعم الإنساني، وحتى أن بعض تلك المنظمات موّل أتباع الأسد لأنهم أخذوا جزءا من مساعداتها ونقلوا جزءا قليلا منها إلى المُحاصرين والمُحتاجين فقط. تحولت الثورة الشعبية ضد نظام الطاغية إلى صراع عالمي، بينما يدفع الشعب السوري الثمن الذي دفعه قبله الشعب العراقي والأفغاني والأوكراني والبوسني والليبي واليمني، وما زالت القائمة طويلة وتضم العالم.
تعيد دول رئيسية في العالم مثل الصين واليابان وألمانيا، تغيير سياستها بخصوص التسليح واستخدام جيوشها. تُبنى قواعد عسكرية وأساطيل وتُشترى حاملات طائرات وتُرسل قوات عسكرية إلى خارج حدود تلك الدول. إذا كانت هذه الأشياء تتم خلال الحرب الباردة بشكل مخفي أو كان يُغض الطرف عنها وكانت تُجرى تحت غطاء دبلوماسي كبير، ها هو الآن يحدث التدخل العسكري أو الامتناع عنه دون خجل. لم تعد وثيقة حقوق الإنسان ومعاهدة جنيف تُهمان من يريد التدمير والتخريب ولا حتى من يُمكنه التدخل لمنعهما.
وفي واقع لا يمكن فيه كبح جماح استخدام القوة، تفقد المؤسسات الدولية والأعراف الدولية أهميتها. لا تقلّق المجازر والجرائم وعمليات الإبادة الجماعية تلك الجهات المُنشغلة اليوم بإعادة بناء النظام العالمي من جديد.
هذه هي المحنة التي وقعت فيها حلب. فيهتم اللاعبون الأساسيون المتورطون في ما يحدث في حلب اليوم بقضايا استراتيجية وجيوسياسية تطال كل العالم، وسكان حلب هم ضحايا نظام عالمي لا يعرف الرحمة أو الخوف من الله. يفيد تجنّد شخصيات مرموقة أو منظمات دعم بشكل هامشي فقط.
ما يحدث في حلب سيتكرر في أماكن أخرى في سوريا وفي الشرق الأوسط والعالم. بات النظام العالمي الجديد، أو الفوضى العالمية، يُدرك نقطة ضعفه ويستثمر فيها كل قوته. وهناك أيضًا ستسقط ضحاياه.
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع منتدى التفكير الإقليمي.