يُعتبَر الرفع التدريجي للقيود والحدود بين الأقليات في الدول العربية المختلفة إحدى نتائج “الربيع العربي”. والحالة الخاصّة التي تندرج في هذا الإطار هي الحضور المتزايد للحجّاج الأقباط إلى أماكن تقدسّها الكنائس في القدس. قُبَيل عيد الفصح القريب، وكما يحدث في كلّ عام منذ كانون الثاني 2011، بدأ الإعلام المصري يثير تساؤلات حول انسجام الزيارات إلى القُدس مع السياسة العربية حِيال إسرائيل. في هذه المقالة، سأدرس دلالات هذه الحالة الخاصّة.
إنّ عادة الحجّ التي جرت لقرون، بشكلٍ عامّ في فترة عيد الفصح، هي أحد مصادر فخر الكنيسة القبطيّة. إنّ الحجّ القبطيّ – المؤسس على قصّة ذهاب مريم، يوسف، والطفل يسوع إلى مصر هربًا من الملك هيرودس، المسجّلة في الكتاب المقدس – مثّل العلاقة الخاصّة بين الكنيسة في مصر وبين الأراضي المقدّسة المجاوِرة. كواحدة من الطوائف الصغيرة في القُدس، تحتفظ الكنيسة القبطيّة بمِلك متواضع في كنيسة القيامة، يشمل معبد بئر المياه الخاصّ بهيلانة ومعبد الملاك قرب ما يُعرَف بقبر المسيح. أصبح المكانان المذكوران مركزَي زيارة وجدانيَّين بالنسبة للحجّاج على مدى أجيال. لكن بعد حرب الأيام الستة وفَرض السيادة الإسرائيلية على البلدة القديمة في القدس، انقطعت هذه العادة بشكلٍ مطلقٍ تقريبًا، ولم تُستأنَف مذّاك، حتّى بعد التوقيع على معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
وفق الموقف الرسمي للكنيسة القبطيّة، فإنّ أتباعها، إلى جانب كونهم “مسيحيّين”، هم أيضًا “عرب” و”مصريّون” وطنيّون، لذا يرفضون زيارة المدينة المقدسة ما دامت واقعة تحت الاحتلال الإسرائيليّ. يمكن أن تُعتبَر هذا الزيارة تطبيعًا (كلمة أصبحت مصطلحًا مركزيًّا في علاقات إسرائيل بالدول العربية)، أي: إقامة علاقات “طبيعيّة” مع دولة إسرائيل والتسليم بوجود كيان ذي سيادة على أراضي فلسطين المحتلّة. وتمّت إجازة هذه المقاربة من قِبل بابا الأقباط الراحل، شنودة الثالث، الذي أفتى عام 1981 بأنّ الحجّ إلى القُدس يجري فقط إلى قُدسٍ محرّرة “يدًا بيد مع إخوتنا المسلمين”. وهكذا اختار شنودة، لأهداف ذات صلة بالسلام الوطنيّ، موقعًا إلى يمين جيرانه المُسلمين في مصر خصوصًا والعالم العربيّ عمومًا، إذ توقّفوا هم أيضًا عن زيارة المسجد الأقصى وقبة الصخرة بعد 1967.
فضلًا عن ادّعاء التضامُن العربيّ، ادّعت الكنيسة القبطيّة أيضًا أنه من غير الممكن زيارة القُدس، ما دامت المنطقة القبطيّة التاريخية في المدينة مسلوبة منها. وتقصد الكنيسة بذلك استيلاء شرطة إسرائيل عشيّة عيد الفصح عام 1970 على الأملاك القبطيّة في مركز “دير السلطان” على سطح كنيسة القيامة، حيث استبدل رجال الشرطة الأقفال في البطريركيّة القبطيّة، ونقلوا المفاتيح إلى جيرانهم – رهبان الكنيسة الإثيوبية. نُظر إلى ذلك العمل، الذي أخلّ بالوضع القائم منذ أجيالٍ عديدة في كنيسة القيامة، كسرقة همجيّة تهدف إلى سلب الطائفة الصغيرة حقّها بسبب انتمائها إلى دولة عدوّ – مصر. وجرى النظر إلى نقل المفاتيح إلى الرهبان الإثيوبيين تحديدًا، على ضوء العلاقات المعقّدة بين الكنيستَين إثر الخلاف القديم العهد على منطقة “دير السلطان”، كعملٍ ساخر كلّ غايته توطيد علاقات إسرائيل الدبلوماسية مع إثيوبيا تحت حُكم هيلا سيلاسي على حساب الكنيسة القبطيّة.
لم يغيّر اتّفاق السلام مع مصر، فضلًا عن النقاشات المتكررة في المحكمة العُليا الإسرائيلية، هذا الوضع إلى اليوم. عام 2001، وردًّا على دعوة المُفتي المصري الشيخ طنطاوي المسلمين إلى زيارة المسجد الأقصى في القدس، حذّر البابا شنودة أتباعه من أنّ “الأقباط الذين يزورون القُدس يُضعِفون موقف الكنيسة في شأن دير السلطان”. وقد اتّضح أنّ قوة جاذبية القُدس كبيرة تتخطّى جميع الادّعاءات المُقنعة، إذ إنّ حظر الحجّ إلى القُدس هو فتوى غير شعبيّة بين الأقباط، على أقلّ تقدير. واصل القليلون زياراتهم خفيةً، فيما أعلن كثيرون أنهم التزموا بالحظر إكرامًا للبابا الراحل فقط، منتظرين الفرصة لإعادة الزيارات إلى طبيعتها وإلى الوعي المصري.
لم تتأخر الفرصة لتتحقق. فقد جعل حدثان وقعا عام 2012 مجموعة من الأقباط يُحاوِلون استئناف الزيارات إلى القُدس. ففي شهر شباط، أثناء انعقاد مؤتمرٍ في الدوحة، دعا رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، المسلمين والعرب في العالم إلى زيارة أماكنهم المقدّسة في القدس والتعبير عن دعمهم للشعب الفلسطيني. بعد ذلك بشهرٍ واحد، رحل البابا شنودة الثالث، قبل أن يتمكن من استجابة الدعوة. حاوَل نحو ألفَي قبطيّ انتهاز الفرصة وزيارة المدينة المقدسة في فترة عيد الفصح في تلك السنة. كانت النتيجة مخيِّبة. فقد عاد الحجّاج بخفَّي حُنين، إذ أُغلق الدير والحصّة التابعان للأقباط في وجههم، ولم يوافق الرهبان على إجراء قدّاس العيد في حُضورهم. وسارعت البطريركيّة القبطيّة في الإسكندريّة إلى التصريح بأنّ حظر الحجّ باقٍ على حاله بعد وفاة البابا. أثار الأمر ضجيجًا وجدلًا داخليًّا لدى الطائفة القبطيّة في مصر، تحوّلا إلى جزءٍ من الجدَل الفقهي – السياسي لدى سياسيين وفقهاء مسلمين حول دعوة الرئيس عباس المثيرة للجدَل. على أية حال، توقّفت الزيارات.
بعد بضعة أشهر، لم يتوقّف الضجيج حول المسألة كما يبدو. فالبابا الجديد، تواضروس الثاني، انتُخب في تشرين الثاني 2012، لقيادة الكنيسة القبطيّة في مصر، وسُرعان ما واجه المعضلة. ففي الصحافة المصرية، قيل إنّ هذا كان التساؤل الأول الموجّه إليه من أفراد جماعة الأقباط. من أجل بلورة إجابة مدروسة، اجتمع “المجمع المقدّس” للكنيسة القبطية في مصر برئاسة البابا ليتداول في المسألة مجدّدًا. في النهاية، قرّر المجمع، لخيبة أمل كثيرٍ من الأقباط، إبقاء القديم على قدمه، وعدم إتاحة زيارة القُدس للأشخاص المعنيّين بذلك. وكانت الاعتبارات مبرّرة، إذ إنّ وضع الطائفة القبطيّة في مصر آنذاك كان حسّاسًا إثر تعزيز مكانة الشريعة الإسلامية في الدستور المصري الذي كانت تجري بلورته في ذلك الوقت. لهذا السبب، آثر زعماء الطائفة عدم التسبّب بحساسيّة لا لزوم لها بين الأقباط وجيرانهم المسلمين. وقد قدّم أسقف حلوان في القاهرة، الأنبا بسنتي، بعض العزاء في مُقابلة تلفزيونية إذ قال: “كلّ قبطيّ يحلم بزيارة القُدس، لكنّ مصر هي القُدس الثانية، لأنها البلاد الوحيدة التي زارتها العائلة المقدَّسة وقضت فيها فترةً طويلة”.
لكنّ “القُدس الثانية” أيضًا لم تكن ودّية كثيرًا تجاه الأقلية القُبطيّة في تلك الفترة. فبعد سلسلة من الأحداث الدامية، أُبلغ في مصر أنّ أكثر من مئة ألف قبطي حصلوا على تأشيرات إقامة في دول أجنبيّة في حال جَعَلَ وقوعُ مصر تحت سلطة الإخوان المسلمين حياتَهم لا تُطاق. وقُبَيل عيد الفصح عام 2013، عادت إلى العناوين في مصر مسألة النقاش حول زيارات “المسيحيّين” إلى القُدس، وهذه المرّة مع إضافةٍ هامّة. فقد نقلت صحيفتا اليوم السابع والشرق الأوسط، فضلًا عن موقع الإنترنت المصري الجورنال، أنّ الإعلام الإسرائيلي تحدّث أنّ إسرائيل وعدت بمنح العائلات القبطية التي تصل إليها حقّ الهجرة، شرط امتلاك وثائق تدلّ على اضطهادهم دينيًّا على الأراضي المصرية، واستيفاء بعض الشروط الاقتصاديّة والمهنيّة. اتُّهمت إسرائيل باستغلال الوضع الاجتماعيّ في مصر بشكل تهكميّ لتربح داعمين لها بين الأقليّة القُبطيّة. في تلك الأنباء، أُفيد أنّ رجُلًا يُدعى منصور الصموئيلي، يترأس مكتب محامين يُعنى بطلبات الهجرة إلى إسرائيل، شهد على أنّ 237 قبطيًّا قدّموا طلباتٍ رسميّة للهجرة إلى إسرائيل. مع ذلك، ليست صحّة تلك المعلومات أكيدة، فقد نفتها السفارة المصرية في إسرائيل جملةً وتفصيلًا، كما نقلت قناة العربية التلفزيونية عن مصدر إسرائيلي رسميّ قوله إنّ تلك الأمور لا أساس لها من الصحّة. يبدو أنّ ذلك “السبق الصحفي” هدف إلى تلطيخ سُمعة الذين زاروا القُدس في ذلك العام رغم الحظر والتهديد، ومنع آخَرين من الاحتذاء بهم.
لكنّ الجهود لم تُجدِ نفعًا. ففي شباط من هذا العام، نُشر أنّ نحو عشرة آلاف قُبطيّ زاروا القُدس عام 2013. ففي مصر، يعمل نحو 20 شركة سفر في تنظيم رحلات للحجّاج الأقباط لمدّة أسبوع إلى القُدس في فترة عيد الفصح. وتعمل تلك الشركات بشكلٍ مشابه للشركات التي تسوّق رحلات الحجّ الشهيرة في العالم العربي، حتّى إنّها تصوّر السفر على أنه موازٍ من الناحية الدينية للحجّ الإسلاميّ. يتراوح سعر رحلة كهذه بين تسعة آلاف وعشرة آلاف جنيه مصري (4000 – 5000 شاقل جديد إسرائيلي)، وهي مشروطة بالتأشيرة الإسرائيلية طبعًا، التي تُعطى للنساء والأطفال وللرجال المولودين بعد عام 1970. قُبَيل عيد الفصح عام 2014، كتب الصحافي مجدي نجيب وهبة في موقع الإنترنت الذي يديره، “صوت الأقباط المصريّين”، مقالة استثنائيّة في لهجتها حول المنع الكنسيّ لزيارة القُدس. وجّه وهبة نقدًا للبابا شنودة ولخلَفه على ذلك، متهمًا إيّاهما بالانجرار إلى النقاش السياسيّ العربيّ ضدّ إسرائيل، حيث شكّلا ألعوبة في يد القوى المُعادية لمصر أيضًا. وهنا تساءل بتهكُّم إن كان الأمل بتحرير القُدس يشمل أيضًا الأمل أن تُتاح للأقباط زيارة أماكنهم المقدّسة في ظلّ الصراعات بين فتح وحماس، أو في أسوأ الأحوال، تحت سلطة حركة حماس. وشدّد على أهمية السلام مع إسرائيل، مقتبسًا من كلمات المسيح، ومنتقدًا بشكلٍ غير مباشر الكنيسة على عملها بخلاف ذلك. ولم يُخفِ وهبة في مقالته دعوَته إلى تحدّي الكنيسة وزيارة القُدس.
تشهد هذه الكلمات، التي تتحدّى المؤسسة الكنسيّة القبطية من جهة وقاعدة النقاش السياسيّ المصري من جهة أخرى، على تطوّر في السلوك السياسيّ والاجتماعيّ للأقباط في مصر. فصحيح أنّ النقاش حول الحجّ القبطيّ يدور على هامش الأحداث التاريخيّة التي تعيشها مصر، لكن لهذا السبب تحديدًا يمكن أن يتيح ذلك نظرةً إلى تعقيد تلك الأحداث. ففيما يبدو أنّ المجتمَع المصريّ يعيش عملية تسييس متسارِعة، يُعلِن الأقباط أنّ زيارة القُدس شأنٌ دينيّ محض، ليست له أية معانٍ سياسيّة. وفيما يبدو أنّ الشارع المصري يتطرّف في نظرته إلى قضيّة التطبيع مع إسرائيل، يجد عدد أكبر وأكبر من “المسيحيين” والمسلمين أنفسهم يدوسون أراضيها أو يتعاونون معها، علانيةَ أو خفيةً.
نُشر المقال على موقع Can Think، المختص بشؤون الشرق الأوسط. نشير إلى أنّ موقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمتّ بصلة إلى أية جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.