أصبحت رحلات وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لمنطقة الشرق الأوسط، منذ تعيينه وبدء مهامه ( في 1 شباط 2013) أمرا روتينيا، وفي الآونة الأخيرة باتت عاجلة. وقد قضى كيري معظم ساعاته في الشهور الأخيرة في مسعى لتعزيز الثقة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني وتحقيق رؤية “دولتَين لشعبَين”. لكن ملامح الأيام الأخيرة تظهر أن مساعيه لن تُخرج الطرفين المتنازعين من خندقهما، وهناك من يزعم أن مهمته فشلت.
وقد أثار تصميم كيري وإصراره على تكريس معظم وقته كوزير للخارجية للقضية الإسرائيلية – الفلسطينية دهشة الكثيرين، لا سيما أنّ هناك مواضيع مشتعلة أكثر في المنطقة والعالم، خصوصا الأزمة السورية وشبه جزيرة القرم ، وأنّ كلًّا من نتنياهو وعباس غير متحمسَين كثيرا لإنهاء النزاع.
ووصف عديدون كيري بأنه سياسي مثابر ودؤوب، لا سيما بعد أن استطاع إعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات، حتى درجة العناد. لكن قلائل توقعوا نجاحه في المهمة الأصعب في الشرق الأوسط، زاعمين أن الرجل لا يملك الخبرة الكافية لمعاجلة عدم الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
قد يساعدنا رسم ملامح شخصية الرجل الذي قد يستسلم قريبا لتعنت الفلسطينيين والإسرائيليين، على فهم دوافعه في المقام الأول، واحتمالاته في دفع عجلة السلام قدما أكثر مما فعل، وهل استنفد كيري كل إمكاناته؟
حياته ونسبه العائلي
جون فوربس كيري هو سياسي أمريكي وُلد في دنفر – كولورادو عام 1943. ابن عائلة وجيهة وشهيرة جدا. علم بأصوله اليهودية لأول مرة بعد كبره. عام 1971، تزوج كيري من جوليا تورن، ووُلدت لهما ابنتان. افترق الزوجان وتطلقا عام 1988. تعرف كيري لاحقا إلى زوجته الحالية، تريزا هاينتس، خلال مشاركته في مؤتمر “قمة الأرض” في ريو دي جانيرو. كانت تريزا هاينتس أرملة جون هاينتس، الذي كان سناتورا جمهوريا، ومالك الإمبراطورية الغذائية “هاينتس”. كيري اليوم هو أثرى سناتور، وقد موّل جزءا من نفقات حملته في الانتخابات الرئاسية (2004) من حسابه الخاص.
بدأ كيري يهتم بالسياسة منذ كان في المدرسة الداخلية المرموقة التي درس فيها في الثانوية، ومع انتهاء دراسته تطوع في حملة عائلة كنيدي، والتقى للمرة الأولى بالرئيس الأمريكي المنتخَب جون كنيدي. في مقابلة أجراها عام 1971 للبرنامج المرموق “60 دقيقة” في CBS، قال كيري إن لقاءه بكنيدي أثّر فيه كثيرا.
حرب فيتنام: اختبارات حياته التكوينية
بدأ اسم كيري يتصدر العناوين في الولايات المتحدة في السبعينات مع تزعمه معسكر المعترضين على حرب فيتنام (1975 – 1979)، التي خدم فيها كضابط بحري حاصل على أوسمة. خلال خدمته نال 3 قلائد “قلب الأرجوان” لإصابته في المعارك، ميدالية “النجم الفضي”، وميدالية “النجم البرونزي”. بدأ نشاطه الجماهيري فور انتهاء خدمته، وفي أعقاب النقد اللاذع بين الجمهور الأمريكي، والضغط الهائل الذي تمت ممارسته على الرئيس الأمريكي، نيكسون، لإنهاء الحرب التي كلفت ثمنا طائلا جدا.
كيري يتلقى ميدالية لإصابته في معارك حرب فيتنام (ويكيبيديا)
ترأس كيري جمعية الجنود القدامى ضد الحرب، واشتهر إثر الشهادة التي قدمها للجنة تابعة لمجلس الشيوخ، والتي وصف فيها شهادات جمعتها الجمعية من جنود قدامى حول فظائع الحرب التي ارتكبوها. خلال المقابلة التي أجراها معه برنامج “60 دقيقة”، قال كيري إنه في بداية الصراع كان من الصعب تجنيد الرأي العام الأمريكي ضد الحرب، ولم يوافق الإعلام تقريبا على تغطية لقاءات أجراها بين الجمهور مع مصابين في الحرب، مقاتلين، وعائلات متفجعة. أضاف كيري أنه بعد عدة لقاءات دون تغطية إعلامية، قررت الجمعية تسيير متظاهرين في العاصمة واشنطن، وخلال التظاهرة، ألقى جنود قدامى عديدون الميداليات التي تقلدوها قبالة مبنى الكابيتول كتصرف احتجاجي. حظي هذا العمل بتغطية واسعة، وأصبح كيري شخصية إعلامية عليها إقبال شديد. وقد سُئل كيري في المقابلة نفسها إن كان مهتما بأن يكون رئيس الولايات المتحدة في المستقبل، ففاجأت إجابته السلبية مجري المقابلة معه، مولي سايفر، الذي لم يسارع إلى تصديق تصريحات كيري الشاب.
الخطوة الكبرى القادمة: السباق إلى الرئاسة
سنة 1984، انتُخب كيري عضوا في مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس للمرة الأولى، وأعيد انتخابه منذ ذلك الحين. ترأس كيري لجنة الخارجية المرموقة، رغم كونه سناتورًا شابا يفتقر الكثير من الخبرة السياسية، وتبنى طوال سنوات عديدة الدبلوماسية كحل مفضل في جميع الأحوال، ومحاولة بناء تحالف قبل استخدام البندقية.
صورة لجون كيري في مجلس الشيوخ الأمريكي (ويكيبيديا)
يوضح محللون عديدون أنه يطبق هذه السياسة اليوم أيضًا في مسألة إعادة الإسرائيليين والفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات، وأنّ أوباما قرر تعيينه وزيرا للخارجية كمسعى أخير قبل أن تقرر الولايات المتحدة هجر الجهود السلمية في المنطقة، على ضوء الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب للولايات المتحدة، والرغبة في التموضع داخليا وإيجاد حل للمشاكل الداخلية.
عام 2003، أعلن كيري عن ترشحه للرئاسة الأمريكية. وبعد معركة صعبة خاضها داخل حزبه (الحزب الديموقراطي)، نجح كيري في التفوق على منافسيه الداخليين، ليتفرغ للحملة الرئاسية ضدّ منافسَيه الخارجيَين، الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني. شهد المواطنون الأمريكيون حينذاك معركة انتخابية صعبة شملت تشهيرا شخصيا. خلال الحملة، طُرحت مواضيع كتورط بوش في حرب العراق، وكذلك حرب فيتنام التي خدم فيها كل من كيري وتشيني. خسر كيري المعركة لصالح بوش بفارق أصوات طفيف.
علاقاته بإسرائيل
مع تعيينه من قبل أوباما في كانون الأول 2012 وبدء مهامه في 1 شباط 2013، نُشرت في إسرائيل تقديرات وتحليلات عدة تتعلق بقدرات كيري وعلاقته المستقبلية بحكومة نتنياهو، ومستقبل المفاوضات مع الفلسطينيين. اعتقد كثيرون أن أوباما قرر، خلافا لولايته الرئاسية الأولى، إخلاء المسرح والتراجع إلى الخلف. كان الحل، وفقا لهؤلاء المحللين، منح فرصة أخيرة للمفاوضات عبر وزير الخارجية كيري. لكن، خلافًا لمساعي التحريك السابقة، جرى تقييد نشاط كيري بوقت محدد، حيث كان عليه المحاولة وإحراز تقدم حتى حزيران 2013.
في مجالات مختلفة، ووفقا للمقاييس الغربية، يُعتبر كيري داعمًا لإسرائيل بشكل بارز. فهو يصوّت إلى جانب معظم الاقتراحات المؤيدة لإسرائيل في مجلس الشيوخ، وقد أيّد مرارًا الخطوات التي تتخذها إسرائيل للدفاع عن نفسها. وقد دعم كيري سياسة أوباما بتقديم مساعدة عسكرية سخية لإسرائيل، ويؤمن أن القنبلة الذرية الإيرانية خطر وجودي بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة.
بنيامين نتنياهو وجون كيري (Matty Stern/US Embassy/FLASH90)
لكن حسب بعض المقاييس والأوساط الإسرائيلية والأمريكية المحافظة، فإنّ كيري إشكالي لأنه يستطيع بكل سهولة انتقاد السياسة الإسرائيلية. انتقد كيري سابقا سياسة إسرائيل والحصار على غزة، وهو يُعَدّ من المعارضين بشدة لسياسة حكومة نتنياهو بتوسيع البناء في المستوطنات، كما يُعتبَر داعمًا بشكل مطلَق لحل الدولتَين المؤسس على حدود 67 مع تعديلات متفق عليها في الحدود. في شأن القدس، تحدث كيري أكثر من مرة عن دعمه لموطئ قدم للفلسطينيين في إطار حل مستقبلي يؤدي لإنهاء مطالب الطرفَين.
في الموضوع النووي الإيراني، يصفه معارضوه بأنه متردد ومكمل مسيرة أوباما الذي يخاف من الدخول في نزاع مع الإيرانيين، ويبحث دائما عن تحالفات غير ثابتة لحل الأزمة المستمرة. فهم يدّعون أنه رغم فشل المحادثات بين الدول العظمى وإيران، ورغم تلكؤ الأخيرة، لا تزال إدارة أوباما ووزير خارجيته يحاولون يائسين إيجاد صيغة تؤدي لوقف أجهزة الطرد المركزي والسباق للحصول على قنبلة ذرية إيرانية تهدد استقرار المنطقة، التي تشهد أصلا ما يكفي من العواصف.
وحاليا، على أرض الواقع…
وفي غضون ذلك، تستمر على أرض الواقع جهود كيري لإتمام صفقة مع الطرفَين لتمديد المفاوضات التي انطلقت أواخر شهر يوليو (تموز) 2013، ودخل اسم الجاسوس اليهودي، جوناثان بولارد، المعتقل في الولايات المتحدة على مسار المفاوضات، وترددت الأنباء أن كيري يبحث عن صفقة اتفاق، بموجبها يُفرَج عن بولارد والمزيد من الأسرى الفلسطينيين، لإقناع نتنياهو وعباس بتمديد المحادثات حتى نهاية العام الجاري وبداية العام المقبل 2015.
إلى جانب ذلك، يقوم وزير الخارجية بإطفاء حرائق سياسية في شبه جزيرة القرم بعد الصم السوري، والحرب الأهلية الدائرة في سورية منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام.
وكتب محللون في إسرائيل وخارجها، أن تجربة كيري خلال الأشهر التسعة المخصصة للتفاوض والتي ستنتهي نهاية الشهر الجاري، أبريل (نيسان) 2014، أفاقت كيري من حلمه بنيل جائزة نوبل للسلام.
صائب عريقات وتسيبي ليفني مع جون كيري بعد لقائهم في واشنطن (AFP)
وادّعى مقربون من الطرفَين مرارًا، سواء في الإعلام الإسرائيلي أو الإعلام الفلسطيني، أنّ كيري لديه الكثير من الطاقة والنوايا الطيبة، وأنّ لديه شعورا بالإرسالية ورغبة في تحقيق السلام في الشرق الأوسط، لكن يبدو أنه يفتقر إلى الخبرة لفعل ذلك. في الواقع، يناقض كيري المقولة إنّ “الولايات المتحدة لا يمكنها أن ترغب في السلام أكثر من الأطراف المتنازعة”.
وقد نجح كيري في الحقيقة، رغم نواياه الطيبة وشروعه في العمل، في إثارة علامات استفهام غير قليلة بخصوص مستقبل المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وبذلك أيضا شكوك الطرفَين، وذلك منذ حديثه عن برنامج استراتيجي للسلام الاقتصادي لم ينسق بشأنه مع أيٍّ من الطرفَين، أو تركيزه الأخير على تمديد المفاوضات عبر إطلاق سراح الأسرى بدلا من معالجة القضايا الجوهرية مثل الحدود، والترتيبات الأمنية، القدس وقضية اللاجئين، التي يختلف عليها الطرفان.
وإن كان السؤال الملّح قبل انطلاق مدة التفاوض العام الماضي هو: هل سينجح كيري في إيجاد صيغة لتعزيز الثقة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، مفاجئا المشككين بمساعيه ومنجزا اتفاق سلام؟ فأن السؤال الملّح اليوم هو: كيف سيبرّر كيري فشله في مهمة السلام في الشرق الأوسط، هل سيتهم أحد الطرفين أم كلاهما، أم أنه سيعترف بأنه كان “ورقة توت” لإدارة أوباما في قضية السلام في المنطقة؟
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني