لقطة شاشة من مسلسل "سيناريست"، كاتب مع عائلته في السيارة عائدا من عطلة خائبة
لقطة شاشة من مسلسل "سيناريست"، كاتب مع عائلته في السيارة عائدا من عطلة خائبة

مسلسل “سيناريست”: صراع الهوية واللغة لدى العربي الإسرائيلي

مسلسل ”سيناريست" الذي يبث في ساعة الذروة على التلفزيون الإسرائيلي وتتحدث شخصياته باللغة العربية والعبرية، هو تجربة أصيلة في نقل تعقيدات الهوية التي يعيشها العربي في إسرائيل

27 فبراير 2016 | 13:31

يعرض في إسرائيل، في هذه الأيام، مسلسل جديد، بعنوان “سيناريست”، يتكلم أبطاله العربية والعبرية، ويحتل خانة ال “برايم تايم” على التلفزيون الإسرائيلي. بطل المسلسل عربي، اسمه “كاتب”، يعيش في القدس الغربية في حي يهودي علماني، كما يعرّف عن نفسه في بداية الحلقة الأولى من المسلسل. وفي مركزه حياة كاتب، والصراعات التي يعيشها في إسرائيل، لا سيما هويته “الإسرائيلية – الفلسطينية” التي لا يوجد لها مكان في هذا العالم، لكن، ليس فقط، فحياته لا تخلو من المتاعب الزوجية والمهنية والعاطفية، مثله مثل سائر البشر.

المسلسل من تأليف الأديب العربي الإسرائيلي، سيد قشوع، المعروف بمؤلفاته العبرية. ولمن يعرف قشوع، يفهم سريعا أن شخصية “كاتب” مستوحاة من حياة قشوع، وأن المسلسل بمثابة سيرة ذاتية لحياته الشخصية والمهنية المثيرة. ومثل الأديب المشهور، “كاتب” بطل الحلقة، متزوج وعنده ثلاثة أولاد، يعيش في حي يهودي في غربي القدس بعدما ترك قرية الطيرة حيث ولد. وهو يعيش صراعا متواصلا، ويحاول جاهدا أن يجد حقيقة ما يمكنه الاستناد إليها.

وتتجلى تعقيدات الهوية التي يعيشها كاتب في مجالات عديدة في حياته، مثلا في تربية أولاده. فمن جهة هو يرسل أولاده إلى مدارس يهودية، وهم يتحدثون اللغة العبرية بطلاقة. لكنه يريدهم أن يتكلموا اللغة العربية أيضا بطلاقة. والملفت في المسلسل أن الشخصيات تتنقل بين اللغة العربية والعبرية، في تعبير صريح عن ثنائية اللغة التي يعيشها العربي في إسرائيل، فهو يتكلم اللغة العربية في البيت واللغة العبرية في الحيز العام، وعادة ما تتداخل اللغتان.

وفي إحدى الحلقات، يرى كاتب أن ابنته لا ترغب في تعلم اللغة العربية في المدرسة، والأم تحاول أن تقنع البنت بأهميتها، ومن ثم تتوجه إلى زوجها (كاتب) قائلة: “يجب أن نجد حلا بالنسبة لمشكلة العربي! إما أن نسلّم مع الحقيقة أن أولادنا لن يتعلموا العربية وإما أن نجد لهم مدرسة ثانية تُعلّم العربية”.

مسلسل "سيناريست" من تأليف الكاتب العربي الإسرائيلي سيد قشوع
مسلسل “سيناريست” من تأليف الكاتب العربي الإسرائيلي سيد قشوع

ويركز المسلسل على الصراع الداخلي الحاد الذي يعاني منه كاتب، الناجم عن الهويات المتعددة التي ينتمي إليها، فهو قروي الأصل، فلسطيني، يعيش اليوم في الجزء اليهودي من مدينة القدس، وأسلوبه في الحياة إسرائيلي للغاية. وكل شيء في حياته يعاني من حالة انقسام. فتارة يشعر أنه لن يسمح لابنته أن تنسى أصلها، فيقرر أن يسافر إلى زيارة أهله في القرية، لكن سرعان ما يكتشف أن حياة القرية لم تعد تلائم زوجته وابنته، فابنته نباتية، وجدتها القرية تقدم لها اللحم دون مبالاة، وزوجته لا تتحمل الانتقادات لها بأنها تعلم أولادها في المدارس اليهودية مما يعرضهم إلى الانفتاح المفرط على الحضارة الغربية.

وتارة يحاول أن يدافع عن الأطفال الفلسطينيين الذي يعملون في سن مبكر ليعيلوا عائلاتهم، بدل الذهاب إلى المدرسة، ويقول لابنه إنهم أبطال بينما ينظفون سيارته، ليكتشف بعدها أنهم قاموا بسرقة شاحن هاتفه وسماعاته.

وتصل أزمة الهوية التي يعيشها كاتب إلى الذروة حينما يسافر إلى إيطاليا ليشارك في مهرجان أدبي خاص بمؤلفي منطقة حوض المتوسط، ويظهر اسمه في برنامج المهرجان على أنه أديب إسرائيلي، لكنه يحاول إخفاء هذه الهوية عندما يرى أن معظم المشاركين في المهرجان هم أدباء عرب. ويتحول المهرجان إلى صدام عنيف حينما يقرأ كاتب فقرة من كتابه باللغة العبرية، حينها تهاجمه مترجمة من الحضور، من أصول فلسطينية، وتقطع كلمته موجهة له ادعاءات قاسية مثل: كيف تقدر على التحدث بلغة من احتل بلادك وسلب أرضك وشرد شعبك؟ ويقف كاتب صامتا إزاء هذه الادعاءات، لا يعرف الإجابة عنها.

وعدا عن صراع الهوية، يمر كاتب في أزمة في حياته الزوجية، فزوجته لا تنام إلى جانبه، وهما لا يتحدثان تقريبا عدا عن الأولاد والواجبات البيتية، ويسيطر على حياتهما الجفاء، ما يزيد من خروجه من البيت، والذهاب إلى البار لتناول الكحول، وفي مرحلة معينة لا يهمّه خوض تجربة عاطفية خارج إطار الزواج. يكتشف خلالها كاتب أنه رغم نمط حياته الغربي، هو في داخله رجل “عربي”، لا يهتم بزوجته ويتوقع منها أن تحضر الطعام، ولا يعرف ماذا تشتغل حتى.

ويلقي المسلسل ضوءا على العلاقات بين العرب واليهود في إسرائيل، فمن جهة زملاء كاتب يهود، وهو يكتب بالعبرية، ولا توجد أي مشكلة في تقبله كعربي في إسرائيل. وتبدو الحياة في إسرائيل جيدة ومريحة للغاية. لكن انعدام الثقة والشكوك بين العرب واليهود يتجلى شيئا فشيئا في المسلسل. ففي إحدى الحلقات يحاول كاتب أن يبيّن لابنه أن لا داعي للخوف من اليهود “الحاريديم” (المتدينين)، ويأخذه إلى لقاء مع حاريدي كان قد تشاجر معه حول موقف السيارة. ويقوم كاتب بمصافحة الرجل الحاريدي، والاثنان يرحبان الواحد بمبادرة الآخر، لكن أولادهما يظلان ينظران الواحد إلى الآخر نظرة شك وعدم ثقة، ولا يتصافحان في إشارة قوية إلى حال العلاقات بين الشعبين.

أخيرا، من يريد أن يفهم كيف تبدو حياة العربي المتمدن، لا بد له أن يشاهد حلقات المسلسل (الرابط باللغة العبرية)، الذي يجمع بين المواقف الظريفة التي يعيشها طالب، وتلك المأساوية. وهو واقع يعيشه كثيرون في إسرائيل، ليسوا عربا بالمعنى الكامل، وليسوا إسرائيليين أيضا بالمعنى الكامل، إنما هم مخلوق هجين لا يعرف الاستقرار.

لكن هذا المخلوق الهجين، يبدو أنه صاحب الفرص الأكبر للتأقلم مع حضارتين مختلفتين، ما زال الصراع بينهما هو العامل المحدد لطبيعية علاقتهما.

اقرأوا المزيد: 746 كلمة
عرض أقل
خمسة كتاب إسرائيليين يجب عليكم معرفتهم
خمسة كتاب إسرائيليين يجب عليكم معرفتهم

خمسة كتاب إسرائيليين يجب عليكم معرفتهم

الوالد الذي فقد ابنه في الحرب، العربي الذي ترعرع طوال حياته بين اليهود، الفتى الصغير الذي هاجر من العراق، الصوت النسائي وشيخ القبيلة - أولئك هم الكتاب الإسرائيليون الخمسة الذين عليكم أن تتعرفوا عليهم

نقدّم لكم الكُتّاب الإسرائيليين الخمسة الرائدين اليوم. هم أولئك الأفضل من أي شخص آخر في وصف حالة الإنسان، كما ينعكس أمام أعينهم. في حياتهم وإبداعاتهم، هم المرآة الأدبية للمجتمع الإسرائيلي.

ديفيد غروسمان

في إحدى المرات، قبل أن يُولد، قلتُ لها إذا وُلد لي طفل، فأول شيء سأفعله كل صباح سيكون القدوم إليه وإعطاؤه صفعة في وجهه. هكذا فقط. حتى يعلم أنني على حقّ. وبأنّ هناك حرب فقط“.

(من كتاب “انظر تحت: الحبّ”)

ديفيد غروسمان (Flash90)
ديفيد غروسمان (Flash90)

عندما حدث أفظع شيء لديفيد غروسمان، كان قد أصبح كاتبا موضع تقدير. بعد سنوات تعمّق فيها بكتبه في دراسة ماهية الحبّ – الحب الذي بين الرجل والمرأة، بين الأب وابنه، وبين الرجل وصديقه – فقد ابنه أوري الذي قُتل في دبابة كان يُقاتل فيها في حرب لبنان الثانية، صيف عام 2006.

من خلال الفهم بأنّه “ليست هناك عدالة، هناك حربٌ فقط” – يظهر دائما في كتب غروسمان الإيمان بقوة الحبّ

في الفترة التي فقد فيها ابنه، عمل غروسمان على رائعته التي تحكي قصته الذاتية: “امرأة هاربة من الأنباء”، والتي تحكي قصة امرأة تهرب من منزلها في الوقت الذي يُجنّد ابنها للجيش، وذلك حتى لا تسمع خبر موته وتنقذه بذلك. حتى قبل ذلك فقد حظي بتقدير كبير بعد أن أجاد في وصف محنة الفلسطينيين في مخيّمات اللاجئين في كتابه “الزمن الأصفر” منذ عام 1987، والذي توقع اندلاع الانتفاضة الأولى.

ومع ذلك، مع كل المعاناة والفجيعة، من خلال الفهم بأنّه “ليست هناك عدالة، هناك حربٌ فقط” – يظهر دائما في كتب ديفيد غروسمان الإيمان بقوة الحبّ، وبقدرته على إصلاح الالتواء الذي في عالمنا. من شخصية شمشوم الجبّار في الكتاب المقدّس، مرورا بقصة الفتاة التي ناضلت من أجل إنقاذ شقيقها من إدمانه على المخدّرات وصولا إلى المرأة الهاربة خوفا من الأنباء عن وفاة ابنها – لا يختفي الأمل من أعماله أبدا.

وفي الوقت نفسه، فإنّ ديفيد غروسمان هو كاتب للأطفال موضع تقدير، حيث يستطيع كتابة أعمال تزيد من الحكمة وتتوجه إلى قلوب المراهقين، فضلا عن الكبار.

دوريت رابينيان

دوريت رابينيان (Moshe Shai/FLASH90)
دوريت رابينيان (Moshe Shai/FLASH90)

 

يُقلقني أنه يبكي في كثير من الأحيان. وعندما يضحك، يقلقني السعال الذي ينطلق من حنجرته. في إحدى الليالي، في الوقت الذي كان يغسل فيه الأطباق في الحوض، تنزلق إحدى الكؤوس وتستقرّ قطعة من الزجاج السميك في يده، في وسادة إبهامه الأيسر، كشفرة سكين، وتمزّق في لحمه جرحًا عميقًا، فتملأ كل الحوض بالدم“.

(من كتاب “جدار حي”)

 

في نظر الكثيرين، فإنّ دوريت رابينيان هي الصوت النسائي الرائد في الأدب الإسرائيلي. إنها تجيد – أكثر من أي كاتب وكاتبة إسرائيليين – أن تصف الفوارق الدقيقة في الحب: الشوق، الألم، القلق، الحميمية الهشّة.

بعد انطلاقها الأول ككاتبة شابّة واعدة، لم تستطع رابينيان على مدى 15 عامًا العودة للكتابة

بعد انطلاقها الأول ككاتبة شابّة واعدة، لم تستطع رابينيان على مدى 15 عامًا العودة للكتابة. استولى عليها الشلل. لقد بدأت بكتابة ما كان يفترض أن يُصبح روايتها الثالثة. كتبتها ثلاثة مرات أو نسخا مختلفة لها، وبعد خمس سنوات وضعتها على الرفّ.

انطلقت رابينيان هذا العام من جديد مع كتابها “جدار حيّ”، والذي يتناول أكثر القضايا تفجّرا: علاقة غرامية بين امرأة إسرائيلية ورجل فلسطيني، تجري في نيويورك. في نهاية المطاف، فإنّ الصراع في كتابها هو بين الاندماج والانفصال، بين المصير المشترك والهروب. وهي تثبت بذلك مجدّدا إلى أي مدى تعتبر محاولة الاعتماد على الحبّ ضعيفة، ولكنها رغم ذلك لا مفرّ منها.

إيلي عمير

إيلي عمير (Chen Leopold/Flash 90)
إيلي عمير (Chen Leopold/Flash 90)

 

إلى أين يذهب كل هذا، تساءلتُ الآن، لماذا لا يبقى الحبّ. إنّنا نتبعه طوال الحياة، وعندما يكون بأيدينا ينزلق من بين أصابعنا، ولسنا سريعين بما فيه الكفاية كي ننحني ونرفعه عن الأرض

(من كتاب “ما تبقى”)

 

 

 

ليس هناك كاتب آخر أجاد في قصّ تجربة الهجرة من الدول العربيّة إلى دولة إسرائيل مثل إيلي عمير. في الثالثة عشرة من عمره، وصل فؤاد إلياس ناصح خلاصجي من بغداد إلى إسرائيل. ولظروف الزمان والمكان فقد غيّر اسمه إلى اسم عبري، أكثر إسرائيليةً: إيلي عمير. في الفترة التي بدأ فيها يهود الدول العربيّة في الوصول إلى إسرائيل، وحظوا غالبا بمعاملة سيئة، تمّ إيواء أسرة عمير في مخيّم للمهاجرين، وهو نوع هشّ من المخيمات الانتقالية، في ظروف قاسية ومكتظّة.

يتناول الكتاب الأول، والأكثر شهرة لعمير، “ديك الفداء”، فترة صباه ومراهقته كـ “صبي أجنبي” في كيبوتس في شمال إسرائيل، وعملية “الانتقال” وتشكيل الهوية التي مرّ بها، كما مرّ الكثيرون من أبناء جاليات المهاجرين الشرقيين. والكتاب متشابك بالدوافع التي تؤكد على التوتر بين الشرق والغرب، المهاجر الجديد مقابل القديم، القوي مقابل الضعيف، التقاليد مقابل العلمانية، وهي موضوعات استمرّ في تناولها في بعض كتبه.

يعود “الوطن المزدوج” دائما ليُطرح من خلال كتابات عمير

حظي كتاب عمير “مُطيّر الحمام” والذي يتناول الفترة التي فرّ فيها يهود العراق إلى إسرائيل، بنجاح كبير في العالم وتم تجسيده سينمائيّا في الآونة الأخيرة. تشتبك داخل الكتاب، بالإضافة إلى قصة الجالية اليهودية، أيضًا قصص حبّ وخيانة، ويتناول معضلة الولاء: للحبيبة من جهة، وللوطن من جهة أخرى.

يعود “الوطن المزدوج” دائما ليُطرح من خلال كتابات عمير. من جهة، الإيمان بإسرائيل كوطن لليهود، ومن جهة أخرى، ذكريات الطفولة التي تعيده إلى الأحياء اليهودية في مدن العراق.

فيما عدا اشتغاله في الكتابة عمل عمير في عدة وظائف في وزارة استيعاب القادمين الجدد والوكالة اليهودية، وشجّع هجرة اليهود إلى فلسطين (أرض إسرائيل). بل شغل في الستينيات منصب مساعد رئيسي لمستشار رئيس الحكومة لشؤون العرب.

عاموس عوز

عاموس عوز (Flash90)
عاموس عوز (Flash90)

 

هناك ما يكفي من الألم حولنا، ولا يجوز إضافة الألم. ينبغي، إذا كان بالإمكان، التقليل. عدم رش المزيد من الملح على الجروح المفتوحة“.

(من كتاب “راحة تامّة”)

 

 

 

 

عاموس عوز هو شيخ القبيلة الإسرائيلية، وصاحب الصوت الأوضح والأوثق للصهيونية الليبرالية في إسرائيل. فهو يؤمن بدولة إسرائيل، بمكانتها التاريخية، وبالثورة التي أحدثتها في أوساط الشعب اليهودي. ولكن من نقطة الانطلاق هذه، فهو يتألم أكثر من أي كاتب آخر في إسرائيل احتلال الأراضي الفلسطينية، والذي يُفسد – في رأيه – طابع البلاد التي يحبّها جدّا.

وهو يصرّح في العديد من الفرص، بثقة كبيرة، بأنه عن قريب ستقوم في القدس سفارتان: سفارة فلسطين في إسرائيل، وسفارة إسرائيل في فلسطين. وستكون المسافة بينهما، كما يعتقد، مسافة بضع دقائق من المشي.

من خلال هذا الاضطراب الشديد من فقدان الأم والانفصال عن الأب  تجمّع في قلب عوز ينبوع من الأعمال الأدبية

كان “الانفجار الكبير” الذي قلب حياة عوز رأسًا على عقب هو انتحار أمه، عندما كان في الثانية عشر من عمره. ترك بيت والده في أعقاب هذا الحدث المأساوي، وهو بروفيسور صهيوني-يميني، واكتشف عالم الصهيونية الاشتراكية. في أعقاب ذلك تمرّد على صورة والده، كما يقول في أحد كتبه. ومن خلال هذا الاضطراب الشديد من فقدان الأم والانفصال عن الأب لصالح العالم الجديد، تجمّع في قلب عوز ينبوع من الأعمال الأدبية.

هذا الصدع بين حياته حتى انتحار أمه، وحياته منذ ذلك اليوم؛ واضح في جميع أعماله. ثمة منافسة في كل واحد من كتبه، بين اليهودي القديم والصهيوني، بين اليمين واليسار، بين الشاب والكبير، بين الرجل والمرأة، بين الكارثة والأمل في حياة أخرى.

في رائعته “قصة عن الحبّ والظلام”، تشابكت قصة حياته الشخصية والمأساوية بشكل رائع مع تاريخ إسرائيل. إنّ الصراع الأبدي بين الحبّ والظلام هو القصة الواسعة التي تجمع بين كلّ أعماله.

سيد قشوع

سيارات معظم العرب ألمانية، باهظة الثمن، محرّكاتها كبيرة، مليئة بالإكسسوارات، أكثر تألّقًا بقليل ويوجد بينها عدد كبير من سيارات الطرق الوعرة ذات الدفع الرباعي. ليس أنّ أهالي التلاميذ اليهود يربحون أقلّ من أهالي الأطفال العرب في المدرسة، فالعكس هو الصحيح. ولكن وبخلاف الأهالي العرب، ليست هناك منافسة بين اليهود، لا يشعر أحد منهم بأنّ عليه أن يثبت نجاحه لأي شخص آخر، وبالتأكيد ليس عن طريق ترقية حجم محرّك السيارة كلّ عام“.

(من كتاب “ضمير المتكلّم”)

سيد قشوع (Nati Shohat/Flash90)
سيد قشوع (Nati Shohat/Flash90)

ليس هناك مثيل لسيد قشوع، المولود في مدينة الطيرة العربية، في وصف المعضلة الداخلية للفلسطينيين من مواطني إسرائيل. في الصراع بين اللغة العربية التي تحدّث بها قشوع في منزل أبيه وأمه وبين اللغة العبرية، انتصرت العبرية. عندما كان في سنّ الخامسة عشرة أرسله والداه للدراسة في مدرسة ثانوية إسرائيلية عبرية، حيث تعرّف فيها على العمق والثراء اللغوي للغة العبرية. ومنذ ذلك الحين فهو يجيد التعبير عن نفسه باللغة العبرية – وذلك على الرغم من أنه يراها لغة المحتلّ والظالم.

ينظر الفلسطينيون إليه كخائن صهيوني، ولكن العديد من الإسرائيليين ما زالوا ينظرون إليه كعربي ليس أكثر

ينظر الفلسطينيون إليه كخائن صهيوني، ولكن العديد من الإسرائيليين ما زالوا ينظرون إليه كعربي ليس أكثر، ويتعاملون معه باشتباه وتشكّك. ومن ناحيته فهو فلا يخفي يأسه من الأوضاع، وأنّه هشّ وضعيف. وهو يعرض في أعمدته الأسبوعية في صحيفة “هآرتس” نفسه بكامل النقد الذاتي: موبَّخًا من قبل زوجته، يهرب إلى شرب الكحول، ويربّي أطفالا ينسون تراثهم العربي.

وكذلك قشوع، وأيضًا أبطاله، يبحثون أبدا عن مكانهم الحقيقي، ولا يشعرون بالأمان في أي من المعسكرين. ويجدُ الصدام الذي لا بدّ منه بين هويّتيه الاثنتين، الفلسطينية والإسرائيلية

اقرأوا المزيد: 1301 كلمة
عرض أقل
سيد قشوع (تصوير: أفيرم ولدمن)
سيد قشوع (تصوير: أفيرم ولدمن)

سيد قشوع: أحد الكتاب الإسرائيليين الموهوبين

يبدأ هذا المساء الموسم الرابع من المسلسل "شغل عربي". نقدم لكم مقالا حول كاتب المسلسل، سيد قشوع

بدأ قبل أسبوعين بث الموسم الرابع من المسلسل “عفوداه عرفيت” (“شغل عرب”) في القناة الإسرائيلية الثانية. لقد تحول المسلسل الذي يصف الواقع الإسرائيلي من وجهة نظر عربية، إلى ظاهرة لم يسبق لها مثيل، حين تم وضع عائلة عربية في زمن البث الأكثر مشاهدة في إسرائيل، وحظيت بنجاح كبير. استعدادا لبدء عرض الموسم الرابع من المسلسل هذا المساء، نقدم لكم مقالا حول كاتب المسلسل، سيد قشوع، الذي توّجه كثيرون كأحد الكتاب الإسرائيليين الموهوبين وذوي التأثير الأكبر. 

يكتب الكاتب العربي الإسرائيلي الساخر سيد قشوع زاوية أسبوعية في صحيفة “هآرتس”، برنامج كوميدي واسع الانتشار في ساعات الذروة في التلفزيون الإسرائيلي، وثلاث روايات حظيت باستحسان النقاد. وكل ما يفعله، يفعله باللغة العبرية. إنه الغريب الذي شق طريقه إلى الحظيرة.

تقول دانا أولمرت، منظرة أدبية، محررة، وابنة رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت: “سيد قشوع يكتب ضمن كونه حقا كاتبا مهجرا حائرًا بين التقليد والهوية. فهو لم يعد جزءا من الثقافة العربية التقليدية، لأنه تلقى تعليمه باللغة العبرية وفي مدرسة يهودية. إنه إسرائيلي أكثر من أيّ شيء آخر”.

قشوع ابن السابعة والثلاثين معتاد على تعاطي الكحوليات وهو يدخن السيجارة تلو الأخرى، يتميز وجهه الطفولي بانتفاخات تحت عينيه، وغالبا ما ينتهي كلامه بتمتمة يتعذر فهمها. يكشف قشوع في زاويته الأسبوعية في صحيفة “هآرتس”، عن توعكه المستمر، شعوره المترسخ بعدم الأمان، وصراعاته المتعثرة مع الأبوة، الحياة الزوجية، والطموح المهني. ليس قشوع سوى قاصًا روائيا مركَّبًا.

نشأ في “الطيرة”، الواقعة في منطقة المثلث في إسرائيل، والمجاورة للخط الأخضر الذي يفصل إسرائيل عن الأراضي الفلسطينية. الأغلبية الساحقة من عرب إسرائيل – الذين يشكلون 20 في المئة من السكان، ويعرّفون أنفسهم كفلسطينيين – يعيشون في المثلث وفي الجليل.

في العام 1990، إذ بلغ 15 سنة، التحق قشوع بالأكاديمية الإسرائيلية للفنون والعلوم (IASA)، وهي مدرسة داخلية في القدس للمراهقين الموهوبين. وسرعان ما أدرك أن مجرد حضوره أثار الشبهات. “كرهتُ المدينة فور دخولها”، يكتب قشوع عن انتقاله إلى القدس. “في أول سفرة لي في الباص، دخل جندي وصنفني حالا كعربي: شاب يغادر قريته للمرة الأولى، بملابس عربية، شارب عربي خفيف، والأكثر تعبيرًا هو مظهر العربي الخائف. كانت هذه أول مرة أستقل فيها الباص ويتم تفتيشي فيها. هذا الأمر تطلب مني إخفاء هويتي الخارجية بعض الوقت”.

هذا الغوص في قلب المجتمع اليهودي – الإسرائيلي هو الذي خلّف التناقض الوجودي الذي يربك قشوع حتى اليوم. في الأكاديمية، تعلم كيف يبدو ويتصرف كإسرائيلي. تمرس هناك في اللغة العبرية وكل التشعبات الثقافية المشتقة عنها. منذ ذلك الحين، أصبح دون شك الكاتب العربي الأبرز في إسرائيل، وقد أصبح كذلك عن طريق الكتابة باللغة العبرية فقط.

سيد قشوع (تصوير: أفيرم ولدمن)
سيد قشوع (تصوير: أفيرم ولدمن)

يُقحم قشوع نفسه في كل ما يكتبه، وهو يفعل ذلك بطريقة لطيفة جدا. سخريته الذاتية خبيثة. عوضا عن تسمية أبطال رواياته “سيّد” يختار عدم تسميتهم إطلاقا؛ لكن المرء لا يحتاج إلى الكثير من التحليل ليفهم أنهم انعكاسات لشخصه.

“أحب التعامل مع الشخصيات التي أعرفها بشكل أفضل”، يقول قشوع في مقابلتنا الأخيرة. ويضيف دون أن يتردد: “أنا أعشق نفسي”. يجلس قشوع في مكتب يملؤه الدخان في الستوديو الذي يتم فيه إنتاج البرنامج التلفزيوني الناجح “عفوداه عرافيت” (شغل عرب)، وهو متحفظ، ودي ولكن حذر، وغالبا ما يكون غير متحيز أيضًا. يقدم الكثير من السخرية والسخرية المرّة، ولكن القليل من الإجابات المباشرة ذات القيمة. يبدو وكأنه يقول إن عمله يجب أن يتحدث عن نفسه. وهو يفعل ذلك على عدة أصعدة.

الشخصية المركزية في كل من روايات قشوع الثلاث هي عربي إسرائيلي بائس، ليس بطلا، ودون اسم. عمله الأول،  “عرب راقصون”، هو الأكثر وضوحا كسيرة ذاتية. فالرواية تتحدث عن طفل فلسطيني من الطيرة يلتحق بمدرسة داخلية محترمة في القدس، وينتهي به الأمر حائرا بين هويتين منفصلتين. بدلا من تعريف نفسه بطريقة أو بأخرى، ينجرف دون اسم نحو سن البلوغ، حاملا على عاتقه هم قومية عائلته المفرغة، ومسحوبا إلى الأسفل بملل الحياة اليومية.

“بطل [قشوع] لا إله له. فهو لا يهدّد بالعنف، ولا يطلب الشفقة، ” تكتب البروفيسورة مريم شليزنغر، التي ترجمت أعمال عدد من الكتاب العبريين المحترمين أمثال إتغار كيريت، أ.ب. يهوشوع، وشاي عجنون. “حياته كناية عن حفلة تنكرية، ورغم أنه يخون نفسه، ينكر نفسه، ويسكب نفسه في شخصية جديدة في كل مرة، فإنه صادق دائمًا. ولا يمكن لأي قارئ، محليا كان أم أجنبيا، أن يبقى لا مباليا إزاء حقيقته”.

لكن الحقيقة، كالحضارة، فهي نسبية. قال يوسف حاييم برنر، أحد روّاد الأدب العبري الحديث، يوما: “ذرّة حقيقية واحدة أكثر قيمة بالنسبة لي من كل الشعر الممكن”.

الراوي المجهول لرواية “ليكن صباحٌ” هو – كقشوع نفسه – صحفي عربي يعمل في صحيفة إسرائيلية. لكن بخلاف قشوع، الذي انتقل قبل سنوات من منطقة بيت صفافا العربية في القدس الشرقية إلى القدس الغربية اليهودية، يقرر بطل الرواية نقل زوجته وطفلته إلى مسقط رأسه في بلدة عربية إسرائيلية مجاورة للضفة الغربية.

"ليكن صباح" لسيد قشوع
“ليكن صباح” لسيد قشوع

تجري أحداث الرواية إبان انتفاضة الأقصى في أواخر العام 2000. تتحفز الشخصية المركزية في رواية قشوع للعمل، كما يخبر القارئ، جراء يومَين من الشغب. كصحفي، يُكلّف بطل ليكن صباح بحضور مآتم ومقابلة العائلات الثكلى. خلال ذلك، ينكسر شيء داخله.

“غيّر هذان اليومان حياتي،” يكتب قشوع على لسان الراوي بضمير المتكلم. “فجأة، بدأت حياتي كغريب، والتي كانت لها حسناتها، بالتوغل في الطريق. كوني غريبا هو ما أهلني لعملي وموقعي، وأعطاني اللغة التي أحتاجها لأكون محترفا بما فيه الكفاية كصحفي. كوني غريبا كان البداية لوضع حياتي في دائرة الخطر”.

لذلك يعود إلى موطنه، دون أن يأخذ بالاعتبار، أنه في الوقت الذي لم تتغير قرية طفولته فيه، فقد تغيّر هو. فيما ترغي السياسة وتزبد خارج حدود القرية، ينتهي الأمر بالراوي إلى الوقوع في تخبطات دائمة، محكومًا عليه ألا يشعر بالانتماء إلى أي مكان.

قد يكون شريك قشوع الأقرب هو شاي كابون، مخرج إسرائيلي بارز يخرج  “عفوداه عرافيت”. والآن، بعد إنتاج الموسم الرابع،  عفوداه عرافيت هو أحد البرامج الكوميدية الإسرائيلية الخمسة الأولى في كل الأزمنة، وبرنامج رائد دون منازع بالنسبة للممثلين العرب الإسرائيليين.

باستثناء برامج التلفزيون الواقعي، فإن  عفوداه عرافيت هو البرنامج الوحيد في التلفزيون الإسرائيلي الذي يعرض شخصيات عربية رئيسية، والوحيد بالتأكيد الذي يدور جزء كبير من الحوار فيه بالعربية. تعترف المجموعة الإعلامية الإسرائيلية “كيشيت” أنها خاطرت مخاطرة كبيرة حين أطلقت البرنامج عام 2007، وكانت مستعدة لرد فعل عنيف في البداية. وقد أتى رد الفعل العنيف – من الإعلام العربي في إسرائيل. جرى اتهام قشوع بالبذاءة، التنميط، وحتى الخيانة. لكن الإسرائيليين اليهود، الذي خافت “كيشيت” من أن يهتاجوا، شاهدوا وضحكوا فقط في الغالب.

“عندما يكتب عربي بالعبرية، فهو يربك هذه الألفة لأنه يتبين فجأة أن بإمكانك أن تنطق وتكتب بالعبرية دون أن تكون صهيونيا … إنه يكتب للجمهور اليهودي، وعندما نقرأه نشعر بالارتباك. من جهة تتعاطف مع تجاربه، ومن جهة أخرى، فهي مرآة صعبة جدا للنظر من خلالها”

“لن يقبل سيّد أن أقول ذلك، لكنني أعتقد أن هذا البرنامج أحدث تغييرا كبيرا في المجتمع الإسرائيلي”، يقول كابون. “إنها المرة الأولى التي ترى فيها عربيا كإنسان عادي معرّضًا للهجوم على التلفزيون الإسرائيلي. ليس كإرهابي ولا كضحية. ليس كأي شيء، بل كإنسان عادي كأي واحد فينا”.

بسبب القيود التي يفرضها التلفزيون، اضطر قشوع إلى تسمية الشخصية المركزية في البرنامج باسم محدد. فهو يُدعى أمجد، وهو (مرة أخرى) صحفي يكتب في جريدة عبرية. كقشوع نفسه، أمجد متزوج من عاملة اجتماعية عربية إسرائيلية؛ وهو كصانعه، يرسل أبناءه إلى مدارس عبرية. يجسّد أمجد نسخة مبالغًا فيها من هوية قشوع المضطربة. يُعتبر قشوع، في إسرائيل، وهي أمة مبتلاة برهاب الأجانب وبالعنصرية العرضية، نسخة محسنة عن العربي الجيد، العربي الذي يتجاوز الأمور، الذي لا يجرؤ على المهاجمة.

لكن ليس ثمة قطاع من المجتمع الإسرائيلي لا يمسه برنامج عفوداه عرافيت. من العلماني إلى الأرثوذكسي، مرورًا برفاقه العرب، يستخدم قشوع مهاراته الكوميدية البارعة والحوارات الثاقبة ليعرّي النفاق المنتشر في إسرائيل، بمحافظيها العنصريين، لبرالييها التبريريين، وعجز كل شخص في المركز. يمكنه أن يفعل ذلك، لأنه مهما كان المكان الذي يقف فيه، فقشوع يراقب من الخارج.

ممثلو "شغل عرب"
ممثلو “شغل عرب”

قشوع وكابون صديقان حميمان، يقضيان الكثير من الأمسيات بعد الإنتاج في السمر معًا. عملهما الإبداعي متضافر جدا بحيث يتقاسمان مكتبًا، جالسَين خلف طاولتَين متوازيتَين، مواجهَين أحدهما للآخر، بحيث يتمكنان من تمرير الأفكار، الإهانات، والسجائر أحدهما للآخر.

سألتُ كابون عن التشابهات بين حياة أمجد وحياة قشوع. “لا يمكنك أن ترسم شخصية بعيدة جدا عنك أنت،” يقول كابون. “لذلك نعم، أظن أنّ أمجد قريب جدا من سيّد. فهو يتلاعب بلون معين من شخصيته. بالطبع، أمجد هو أكثر تعقيدًا. فشخصيته متعددة الألوان. لكن هذا لون بارز، وهذا ما نراه في البرنامج”.

لذلك لا عجب أن مآزق قشوع الوجودية تتجلى بطريقة جديدة عبر أمجد. خلال الموسم الثالث من عفوداه عرافيت، يذهب أمجد إلى برنامج “الأخ الأكبر” الإسرائيلي ويتظاهر (ربما بقدرة شديدة على الإقناع) أنه إسرائيلي يهودي؛ يزعم أن لديه أختًا لبرالية، ذات فكر حر ليثبت تعاطفه مع النسوية؛ وبما أنه لا نباتيين عربًا، يقرر الامتناع عن أكل اللحوم ليصبح “متحضرا”.

لكن الحلقة الأخيرة في الموسم تتخذ دورا أكثر جديا. تدوي صفارة إنذار من غارة جوية في منتصف الليل، ما يؤدي إلى تدافع كل سكان شقة أمجد في القدس إلى الملجأ. يعلق يوسكي ويوكابد المسنان، العروسان الجديدان العربية واليهودي أمل ومئير، أمجد، وزوجته بشرى، وأولادهما خلف باب فولاذي. بفقدان الاتصال بالهواتف الخلوية وبانعدام أية وسيلة للتحقق مما يثير الرعب في الخارج، يبدأ الجيران بالتعبير عن مشاعرهم الحقيقية.

“كان يجب أن ندعهم يحصلون عليها” يقول أحد الجيران لجار آخر، فيما يراقب أمجد من الجانب الآخر من الملجأ. يقول أمجد، المتألم من إهماله، “إلى جانب واقع وجود حرب في الخارج، ثمة شيء ما بخصوص هذه الوحدة، أليس كذلك؟” يحدق الجميع بصمت. أخيرا، يتهجم ناتان، صديق جيد لأمجد خارج الملجأ، قائلا: “قل أمجد، لماذا تهاجمون القدس؟”.

يستمر التوتر حتى يندلع جدال سياسي حامٍ. يجد أحدهم زجاجة فودكا، ويقترح لعبة “حقيقة-أمر” المسلية. لكن اليهود في الغرفة يعودون مرارا وتكرارا إلى مسألة الولاء: أنت تعيش هنا، لكن إلى جانب مَن أنت؟ ربما يكون الإيرانيون هذه المرة، يقول أمجد، مذكّرا المجموعة أنّ الإيرانيين ليسوا عربا. “ربما هذه المرة”، يقول بمسحة من التفاؤل، “نحن هنا معا”.

لكن الزجاجة تستقر سريعا على أمجد، وهو دوره ليقول الحقيقة. يسأله يوسكي أين يختار العيش إذا خُيّر بين إسرائيل وأية دولة عربية. تركّز الكاميرا على أمجد، وأخيرا بعد ثلاثة مواسم طويلة، لا يحاول أن يكون غير ما هو عليه حقّا. فجأة، تتخذ “الغرفة الآمنة” معنى جديدا. إذا كان ذلك يعني تجنب الحياة على هامش المجتمع، يقول أمجد ليوسكي، فإنه يفضل أن يكون قد وُلد في مكان آخر. حتى لو كان “المكان الآخر” يعني العيش تحت حكم استبدادي في مصر أو سوريا.

يتردد قشوع حين أسأله إن كان يتماثل مع انعكاس ذاته. يقول “سيكون من الصعب جدا”، ويضيف، “لأنني أعرف واقعا آخر. لدي حرية التعبير”. لكن إذا كان ذلك يعني معرفة مكاني في المجتمع والانسجام فيه، فإنني حقا، “أفكر أحيانا مثل أمجد”.

هذه هي عبقرية كتابة قشوع. في كل كتاب، زاوية صحافية وحلقة تلفزيونية، يسخر من العالم حوله، لكنه يسخر من نفسه أيضا. لا يمكن لأحد أن يقول إنه غير منصف.

وتقول أولمرت “هناك مبدأ في القومية أنه ثمة ألفة بين اللغة التي تنطق بها والمكان الذي تعيش فيه”. “عندما يكتب عربي بالعبرية، فهو يربك هذه الألفة لأنه يتبين فجأة أن بإمكانك أن تنطق وتكتب بالعبرية دون أن تكون صهيونيا … إنه يكتب للجمهور اليهودي، وعندما نقرأه نشعر بالارتباك. من جهة تتعاطف مع تجاربه، ومن جهة أخرى، فهي مرآة صعبة جدا للنظر من خلالها”.

سيد قشوع (تصوير: أفيرم ولدمن)
سيد قشوع (تصوير: أفيرم ولدمن)

لأنه جزء من الحضارة الإسرائيلية وغريب عنها في آن واحد، تظن أولمرت أن قشوع هو في الموقع المثالي ليقدم هذا الانعكاس. “إنه يظهر الحضارة الإسرائيلية كعنصرية، مليئة بالإجحاف ضد العرب، تفتقر إلى النقد الذاتي”، تتابع “لذلك فإن الشخصيات المركزية لديه هي دائما غير أبطال”.

في روايته الثالثة الأحدث، “ضمير المخاطب المفرد”، يعرض قشوع اثنين، لا واحدا، من اللا أبطال. أحدهما يُشار إليه بصفته المحامي، ويبقى دون اسم، فيما الآخر اسمه أمير. لكن السماح لأحد شخصياته بالتمتع باسم لا يشكل ذلك الانعطاف الذي قد يبدو للبعض. فأمير هو اسم شخصي شائع لدى العرب واليهود على حد سواء، وهو ما يشدد قشوع عليه لقرائه فيما يمضي الكاتب بعمق أكبر نحو سياسة الهوية وإغواء التمرير“.

لا يمضي وقت طويل حتى يفقد أمير، ليس اسمه فحسب، بل كامل هويته العربية. فهو يتبنى التاريخ الشخصي لشاب إسرائيلي يُدعى يوناتان، يتواجد في حالة نفسية نامية نتيجةً لمحاولة انتحار فاشلة. في قصتَين منفصلتَين لكن متضافرتَين، يباشر أمير/يوناتان والمحامي المجهول الاسم رحلة مليئة بالمصاعب للقبول والاندماج في القدس العصرية.

“العقدة هنا هي الوسيلة التي يفحص قشوع من خلالها مسائل الهوية والطبقة الاجتماعية” كتب سكوت مارتيل في مقالة نقدية في  لوس أنجلس تايمز. وبفعله ذلك، يعزف قشوع على الوتر الأهم في الحياة الإسرائيلية، كاتبًا روايات تتحدث عن العلاقات العرقية والتوتر الديني في هذه الدولة الأكثر تعقيدا بين الدول.

توقف قشوع عن الكتابة بالعربية منذ انخرط في الأكاديمية الإسرائيلية للفنون والعلوم. فيما لا يزال يتحدث العربية بطلاقة، ويستطيع أن يكتب حوارات بالعربية لبرنامج عفوداه عرافيت، فإن فهمه للعربية الفصحى ضعيف في أفضل الأحوال. في الموسم الثالث من البرنامج، يسخر قشوع من قدراته المحدودة بإظهار أمجد، محاولا الكتابة لصحيفة فلسطينية، يبذل جهده لطباعة بضع كلمات بسيطة بالعربية على حاسوبه.

“لغتي العبرية أفضل بكثير من العربية لأنني لم أمارس العربية منذ كنت في الخامسة عشرة” يقول قشوع. “لكنني أكذب إن أنكرت أنني كنتُ أرغب دائما أن أكون جزءا من الشعب الأقوى في إسرائيل. وقد كانت هذه الطريقة الوحيدة”.

إنجازات قشوع مثيرة للإعجاب بالطبع، لكن حملها، يقول كابون، ساحق أيضًا. “بطريقة ما، يحمل سيّد همّ كامل الشعب الفلسطيني على كاهله” يخبرني كابون. “أظن أنّ الضغط عليه أكثر من أي شخص آخر. من السهل إنتاج الأدب الساخر حينما تكون مرتاحا على مقعدك. لكن من الأصعب فعل ذلك حينما تكون في الشرق الأوسط الدموي، وحينما تكون عربيا”.

توضح أولمرت الأمر بطريقة مختلفة. قشوع، حسب رأيها، لا يعيش في عالمَين. فأبواب العالمَين موصدة أمامه. “فالعرب يعتبرونه يهوديا جدا، واليهود يعتبرونه عربيا جدا. إنه عالق في الوسط”.

حتى بعد ثلاث روايات عبرية ناجحة، يعترف قشوع أنه ما زال يحلم بكتابة كتاب بالعربية. فقد يمنحه ذلك، كما يقول، ذاك الإحساس المتملص بالانتماء. ويقول لي “اللغة مجرد أداة”. “مؤخرا، أفكر بممارسة العربية، القراءة أكثر بالعربية، وربما كتابة رواية بالعربية يومًا ما. لديّ إحساس غريب بأن روايتي الرابعة ستبدأ بالعبرية، تنتقل إلى مزيج بين العبرية والعربية، وتنتهي بالعربية”.

سألتُ قشوع إن كان هذا التنقل بين لغة وأخرى رمزيا. ضحك وغيّر الموضوع. كان هذا السؤال، كما بدا يحاول القول لي، مفرطًا في التبسيط. سألته لاحقا إن كان ثمة رسالة يريد إيصالها للشعب الإسرائيلي. فهو في النهاية، أمضى سنوات حياته كبالغ يعمل بالعبرية ويعيش بين اليهود.

“لا، لا، ليس لديّ أي نقطة” يقول. “أريد من الجميع أن يحبوني فقط”.

نشر على موقع The Tower Magazine  

اقرأوا المزيد: 2209 كلمة
عرض أقل