يصعب أحيانًا استيعابُ فظائع المحرقة. فحين نفكّر في العدد الهائل (6 ملايين يهودي) للقتلى، لا يمكن للعقل أن يستوعب فورًا معنى هذا العدَد. أمّا حين نهبط إلى المستوى الشخصيّ، ونسمع قِصَص الناجين، يمكن أن نبدأ في إدراك ما جرى هناك حقًّا.

لكلٍّ ناج قصّتُه. فثمة من اختبأ في الأقبية وقنوات المجارير، ثمّة مَن زيّف هويته، كما أنّ هناك مَن هرب إلى الغابات وقاتل المحاربين غير النظاميّين، فضلًا عن الذين انتقلوا من مكانٍ إلى مكان وامتلكوا حظًّا كبيرًا. لكنّ قصّة ميشكا زلبرشتاين، اليهوديّ الذي وُلد في بولندا ونجا من النازيين حين كان في العاشرة من عُمره، هو استثنائيّ وعجيب إلى حدٍّ بعيد.

حين اندلعت الحربُ، كان طِفلًا، وسكن مع والدَيه وأخوَيه في بياليستوك في بولندا. “كنتُ في العاشرة، على ما أظنّ. كنتُ معينًا لأبي الإسكافي، وكنتُ أتجوّل في المدينة، وأبحث عن أحذية مهترئة تحتاج إلى إصلاح”، يتذكّر. ويضيف: “حتّى أدخلونا إلى الغيتو (حيّ مطوَّق سجنوا فيه اليهود)، وضعوا لنا شارةً صفراء، وغير ذلك. أتذكر الجوع بشكل أساسيّ، وأبي يذهب ليبحث لنا عن طعام. يومًا ما، ذهب ولم يعُد. لم تسمح لنا أمّي بعد ذلك بمُغادَرة المنزل، لكن كان علينا أن نُدخِل شيئًا إلى فمنا”.

يروي زلبرشتاين أنه اعتاد الهروب من الغيتو لمقايضة الأغراض بالغذاء، رغم علمه أنه كان سيُقتَل لو أُلقي القبض عليه. “في إحدى المرّات، عدتُ إلى الغيتو عبر ثغرة في الجدار، لأجد فجأةً مسدّسًا مُصوَّبًا إلى صدغي”، يتحدث متابعًا: “عرفتُ أنّ كل شيء قد انتهى. وقف قبالتي شرطي من الـ “إس. إس” ويهودي من “اليودينترات” (مجلس اليهود)، وضرباني بالهراوى. كسَراني. ظنّا أنهما قضيا عليّ، ولكن أُغمي عليّ فقط. استيقظتُ منتصف الليل، وقلتُ لنفسي: (لن أعودَ إلى هناك)”.

يهود في غيتو بياليستوك، 1941
يهود في غيتو بياليستوك، 1941

بدل العودة إلى الغيتو، قرّر ميشكا، ابن العشر سنوات، أن ينجو بجلده ويدخل إلى أعماق غابة خارجَ المدينة. فهرب من الغيتو، وبدأ بالركض دونَ توقُّف. “ركضتُ حتّى الصباح، حتّى وجدتُ كومةً من القشّ، غطّيتُ بها نفسي ونِمتُ. حين قُمتُ، أردتُ العودة إلى الغيتو، لكنني لم أعرف الطريق. رأيتُ سيّاراتٍ للألمان، صُعقتُ، وركضتُ نحو الغابة”. 

من الصعب فهم كيفية نجاحه في النجاة، ويمكن أن نفهم من رواياته لمَ فقدَ كلّيًّا ثقته بالبشر.. “مكثتُ يومًا لدى مسنّة لأسبوعَين، وعملتُ مقابل الطعام، حتّى وصل الألمان”، يروي. ويتابع: “قبضوا عليّ ليلًا، وأكرهوني على خلع ثيابي ليرَوا إن كنتُ يهوديًّا” (أي إن كان مختونًا). في منتصف الليل، فيما كان عُريانًا كما كان حين وُلد وجاثيًا على رُكبتَيه، فحصوه بفانوسٍ على الأرضية المغطّاة بالثلج. لن ينسى في حياته هذه اللحظة المُذلّة. لم يعُد بإمكانه إخفاء يهوديّته. “رآني الضابط وقال أمرًا بالألمانيّة واستدار”، يصف بتوتُّر. “في الثانية التي كفّ عن النظر إليّ فيها، استجمعتُ قوّتي ولذتُ بالفرار. علمتُ أنه سيقتلني. بدأتُ بإطلاق النار صوبي، فركضتُ وركضتُ حتّى وقعتُ في بِئر. ظننتُ أنهم سيأتون خلفي، لكنهم لم يأتوا”.

“توقفتُ سريعًا جدًّا عن الثقة بالناس، فكانت الحيوانات كلّ ما تبقّى لي”، يقول متحدّثًا كيف نجح في البقاء. “كنتُ وحيدًا. كنتُ أسير في النهار، وفي الليل أحفرُ مكانًا صغيرًا، أغطّي نفسي بالأغصان، وأخلد إلى النوم. كان الطقسُ باردًا، ولم أمتلك سوى الخِرَق. كان البردُ لا يُحتمَل، فيتجمّد كلّ جسمي أحيانًا. كان شعري طويلًا، وأظفاري سوداء. كان لديّ قمل، وزحف الدود على جِسمي. وقعتُ يوما في بِركة ماء، وكان كلّ جسمي مملوءًا عَلَقًا”.

من أجل البقاء، اضطُرّ إلى تناوُل ما وجده في البريّة. “من الصعب تصديق ما كنتُ آكله. في الصيف، كان الأمر أسهل، لأنّ ثمة فطرًا، حلزونًا، وتوتًا بريًّا. كنتُ آكل العشب، والأغصان المُختلفة. كلّ ما رأيتُ الحيوانات تأكله أكلتُه أنا أيضًا. في الشتاء، لم تكن كلّ هذه الأمور موجودة، وكان بطني يلتصق بظهري من شدّة الجوع. أتذكّر أنني كنتُ أصنع كراتٍ من الثلج، وآكلها”. يتحدّث أنه اعتاد على أكل جثث الحيوانات التي وجدها في البريّة، كما حاول قتل حيوانات عبر حفر بِئر صغيرة. “كنتُ أحفر، أجلس جانبًا، وآمل أن تقع داخلها، ثمّ أقتل حيوانات، خصوصًا الأرانب، بعصاي”.

ميشكا زلبرشتاين
ميشكا زلبرشتاين

“حاولتُ مطاردة كلّ ما يمشي على أربع. كان صراخ الحيوانات يصل السماء. لم يكن لديّ سكين، لذا كنتُ أفترس الحيوانات. كنتُ آكلها نيئة ولا أبالي. كان كلّ همّي أن آكل شيئًا. أحيانًا، كنتُ أقبض على كلب في قريةٍ ما، وأعيده إلى الغابة معي، أقتله، وآكُلُه. اليوم، أُدرِك أنني أصبحتُ حيوانًا أنا نفسي”. ‏

يمكن فقط تخيُّل كم كانت الأمور التي اختبرها هذا الطفل صعبةً وفظيعة. “تحدثتُ إلى الله، إلى والديّ. لكنّ أحدًا لم يستجِب”، يُخبر. ويتابع: “كلّ الوقت كنتُ أطلب الصفح من أمّي التي لم أعُد إليها. لكنها لم تُجِب. كنتُ حائرًا. لم أعرف ماذا كان يجري معي. أحيانًا، كنتُ أصلّي أن أموت على الفور. ربّما كان ذلك أسهل”.

لكنّ قصته عاشت نقطة تحوّل ملحوظة ومذهلة حين صادف يومًا قطيعًا من  الذئاب. “اعتقدتُ أنها كلاب ذات أسنان ضخمة، لكنني لم أفزع. ففي تلك المرحلة، لم أعد أخاف شيئًا. كانت الذئاب على بُعد مئة متر عنّي ربّما. كانت تعوي: أوووو”، يقول دون أن يتردّد في تمثيل ذلك بنفسه. يقول: “إنه يَصُمّ الأذنَين”.

“لقد كانت جميلةً جدًّا، وكانت جراءً صغيرة”. يَروي مُضيفًا: “رأيتُ كيف كانت الأمهات تتقيأنَ الطعام ليأكله الصغار. كنتُ أرمي عظام الحيوانات للجراء، فكانت تأتي للّعب معي. كشفت الذئبة الأمّ أسنانَها، لكنها لم تفعل لي شَيئًا. كنتُ أسيرُ وراءَها، لا معها بالضبط، بل خلفها دائمًا. لقد رأَوني ورأيتُهم”.

ذئبة تغذي أشبالها
ذئبة تغذي أشبالها

وجد مرّة جيفة حصان، فأعاد من لحمه إلى رُكنه. “لم أكُن أبالي بالذباب، فقد كنتُ مسرورًا بأنّ لديّ لحمًا، وأعطيتُ أيضًا للصغار فورًا”، يقول قاصدًا صِغارَ الذئاب. “كانت بيننا صداقة. نعم، صداقة. أعرفُ أنّ هذا يبدو غريبًا. إنهم أذكياء، نبلاء. في نظري، كانت الذئاب أفضل من البشَر. حتّى اليوم، لا أخاف منها”.

أحيانًا، كانت الذئاب يُخاصمُ أحدُها الآخَر. تتخاصم حقًّا. لكنها لم تمسَّني، كنتُ أسير خلفَها أسابيع طويلة، ثمّ كانت تختفي، وتعود إليّ من جَديد. بعد ذلك، لم أخشَ شيئًا. فقط حين كان على شفير الإعياء التامّ، كان يخرج إلى القُرى المجاورة، يسرق الغسيل عن الحبال، ويطلُب بعض الطعام. “طرقتُ أبواب الجارات، وطلبتُ بعض الخُبز”، يتذكّر ميشكا. “كانت تضربنَني أحيانًا، وتعطينني رغيفًا جافًّا أحيانًا أخرى. كان الأولاد في القرية يجرون ورائي ويدعونني “مجنونًا”. بحثتُ عن الطعام فقط. كنتُ أسير إلى زريبة الخنازير، وآكل من طعامها. كان حارًّا، وكانوا يُعطونني بقايا البطاطا.

بعد الكثير من المُعاناة في الأشهر الطويلة في الغابات، وصل ميشكا إلى روسيا البيضاء، وصادف جنودًا روسًا. سحبوني من الغابة، منحوني اسم ميشكا، وأرسلوني إلى معسكَر عمل في سيبيريا. في نهاية الحرب، نجح بصعوبة شديدة في العودة إلى مسقط رأسه، لكنه لاقى استقبالًا باردًا بشكل خاصّ من اليهود الذين بقوا على قيد الحياة. “مررتُ بكلّ هذا، ليهزأ بي اليهود أخيرًا”، يتذكّر. ويضيف: “لم يقبلوني كما كنتُ، قائلين: (ما هذا، إنه مجنون، إنه ليس يهوديًّا).

بدأتُ البحث عن والديّ وأسرتي”، ثم يتحدث عن العودة إلى المدينة التي وُلد فيها: “لكنني لم أتذكر أسماء الشوارع. لم أتذكّر شيئًا. ويبدو أنّ أحدًا منهم لم ينجُ”. ربط اليهود زلبرشتاين بحركة شباب هاجر في إطارِها إلى إسرائيل عام 1948.

بعد الحرب، هاجَر ميشكا إلى إسرائيل، تزوّج، وأنشأ أُسرة. احتفظ بقصّته المذهلة لسنواتٍ طويلة، حتّى كتبت حفيدته مؤلَّف “جذور” عن الأسرة، وبدأت بطرح الأسئلة، لتعرف عائلتها فقط أنه عاش مع حيوانات البَرّ.

اقرأوا المزيد: 1075 كلمة
عرض أقل