في عام 2000، وهو العام الذي تولى فيه بشار الأسد مقاليد الحكم بعد وفاة أبيه، تلقّت العائلة الحاكمة في سوريا هزّة داخلية قوية؛ فخلال حفل عشاء، نشأ جدال حادّ بين الشقيق الأصغر ماهر، وبين صهرهم آصف شوكت المتزوج من أختهم الكبيرة بشرى. ومن شدّة الغضب سحب ماهر فجأة مسدّسه وأطلق النار على بطن صهره.
تلقّى مواطنو سوريا دليلا آخر على ما شعروا به منذ وقت طويل؛ هناك شيء غير اعتيادي في عائلة الأسد، وهذا ليس مجرّد علاقات عدائية داخل العائلة. هناك سلوك عنيف، جامح، حيوانيّ، وحشيّ. بل وبين أبناء العائلة أنفسهم.
صاحبت هذه الوحشية قصة حياة بشار الأسد والسوريين منذ أكثر من 40 عامًا، حين سيطرت العائلة العلوية من القرداحة في الساحل السوري قرب اللاذقية على الدولة.
تمثال للأب حافظ الأسد في دمشق (AFP)
أقام الأسد الأب، الذي كان قائد السلاح الجوّي السوري ووزير الدفاع، نظامًا إرهابيًا في الدولة بعد أن أقصى مساعده الأكبر في بداية سنوات السبعينات، ووضع قواعد حديدية أورثها أيضًا لمن جاء بعده.
“تعيش عائلة الأسد منذ بدايتها، بسبب جذورها العلوية، بشعور عميق من المطاردة”، يقول خبير في الشؤون السورية. ” من المثير أن نرى كيف حتى حين يستخدمون القوة بشكل وحشي، في حالات عديدة ضد أبرياء، لا يزالون بوعيهم هم الضحية”.
كان عمر بشار الأسد 8 سنوات في حرب أكتوبر/ تشرين الأول. وهو الحدث الذي صمم من دون شكّ إدراكه للسياسة الإقليمية. فقد تعلّم أنه من أجل الهروب من المشاكل الداخلية يمكن دومًا اتهام إسرائيل. فهو يضع كل عام إكليلا من الزهور على النصب التذكاري للجنديّ المجهول في ذكرى الحرب التي اندلعت في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول، ويشيد بـ “الانتصار السوري الرائع الذي أحرز الفخر والكرامة القومية العربية”. حتى بعد أن بدأت أعمال العصيان في بلاده، وتخلّت الجامعة العربية عنه، كان لا زال يستخدم البلاغة القديمة للتحدث عن الطموحات والكرامة الوطنية اللتين ليستا قائمتين حاليًا.
لكنّ ثمة حدثا آخر أكثر صلة بالأحداث الراهنة في سوريا وهو مجزرة حماة، لأنها صممت وعيَ بشار الأسد إزاء كيفية التعامل مع المجتمع المتمرّد. جرت المجزرة في سوريا في 2 فبراير/ شباط عام 1982، وذلك حين هاجم الجيش السوري و”كتائب الدفاع” بأوامر من الرئيس السوري حافظ الأسد وبقيادة أخيه الشاب رفعت الأسد مدينة حماة، وتم قتل آلاف المواطنين السوريين السُنة، من أجل منع محاولة حدوث انقلاب ضدّه.
وقدّرت منظمة حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية أنّ عدد القتلى في المجزرة يتراوح بين 10,000 إلى 25,000 شخص، ولكن منظمة حقوق الإنسان السورية قدّرت أنه كان عدد القتلى في المجزرة نحو 40,000 شخص. تم تدمير معظم أحياء مدينة حماة، وترك البلاد نحو مليون سوري.
ترك هذا الحدث انطباعًا كبيرًا لدى الابن بشار، ورسّخ في نفسه الدافع لقمع كل محاولة انقلاب أو مظاهرة بيد من حديد، حتى لو كان ثمن ذلك هو تحوّل الصراع المسلّح في بلاده إلى حرب أهلية وإلى المأساة الإنسانية الأكبر في القرن الحالي.
“لا يجب أن يتعجب من تابع كيف كان أبوه يذبح عشرات الآلاف من السنة في حماة، من الذبح بوسائل أخرى – السلاح الكيميائي، في ضواحي دمشق. هذا هو عالم المفاهيم ذاته، الذي نحن على حق فيه، وعلينا استخدام كافة الوسائل ضد من يتحدانا”، يقول الخبير، ويضيف : “يعمل أسد من منطلق أنه يجري الحديث عن حرب لا بد منها، فإذا خسرها ستكون تلك نهايته الجسدية ونهاية عائلته، ولكن أهم من ذلك، المستقبل المفزع الذي سينتظر الطائفة العلوية. سيكون هذا الفشل مسجلًا على اسمه”.
بشار الأسد (AFP)
في الحقيقة، أراد الأسد الهروب من مصيره ولكن كلّ شيء تغيّر في 21 كانون الثاني عام 1994، حين كان شقيقه باسل الأسد يقود السيارة بسرعة على الرغم من الضباب، متوجهًا إلى مطار دمشق، واصطدم بدوار وتوفي على الفور.
كان من المفترض أن يكون “الشهيد” الأسد وريث أبيه، وقد تام تأهيله لهذا المنصب طوال حياته، لكونه الابن البكر. أخوه الصغير، بشار، الذي كان منطوٍ أكثر منه، كان ملائمًا جدًا لحياته المخططة: حياة طبيب عيون مريحة في لندن. لقد حمل باسل البكر، على ما يبدو، كل الحضور والقدرة على القيادة التي لا تشتهر بها عائلة الأسد بكل الأحوال، ولم يكن بشار الصغير على رادار للعالم. كان عديم الأهمية إلى هذه الدرجة.
بعد حادث السيارة فورًا، حيث كان من المفهوم ضمنًا أن بشار هو الوريث الجديد، بدأت أجهزة الاستخبارات بجمع المعلومات بشكل مكثف حول من سيكون لاحقًا إحدى الشخصيات الأكثر تأثيرًا في الشرق الأوسط.
يكمن الإثبات على أن العالم لم يعرف أي شيء تقريبًا عن أسد الصغير في أنه مع المصادقة على تعيينه كرئيس في استفتاء شعبي (بأغلبية 97%، كالمعتاد)، عرضت التعيين معظم التقارير في الغرب كـ “فجر يوم جديد”. لقد تابع الغرب بأمل، وكذلك قوى ليبرالية في الشرق الأوسط، التفاصيل المعروفة حول حاكم سوريا الجديد: انفعلوا من الحقيقة أنه بخلاف أبيه الذي يعتبر من الطراز القديم، تلقى بشار الأسد ثقافته الرسمية في الغرب، أنه يتحدث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة وهو يقضي الكثير من الوقت على الإنترنت.
ولكن ما فشل الغرب في فهمه هو أن الإنجليزية السلسة، الزوجة المتابعة للموضة، والدكتوراه من جامعة إنجليزية، لا تضمن الالتزام بالديمقراطية، القيم الليبرالية أو حقوق الإنسان.
على الرغم من المحاولات لتدفئة العلاقات مع الولايات المتحدة والوصول إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل، لم يترك تحالفه مع إيران وحزب الله ومحاولاته في بناء مفاعل نووي أي مكان للشك: يستتر تحت الخطابات الطويلة والبلاغة الملتوية شخص متطرف جدًا.
ويواجه الأسد اليوم قرارات صعبة بخصوص مستقبل العائلة ومستقبل نظامه في سوريا حيث دخلت الحرب الأهلية في سوريا إلى عامها الرابع. ولكن يمكن التوقّع أن قراراته لن تخرج عمّا هو مألوف ومقبول في عائلة الأسد؛ العائلة الحاكمة الأكثر دموية من بين الحكومات التي قامت في الشرق الأوسط. وستبقى سياسية الأسد مزدوجة وهي يد من حديد وقمع داخلي، وابتسامات وأخلاق في الخارج.
وفيّة لزوجها وعائلتها
من كان يظنّ أن زوجة بشّار، أسماء الأسد، ستلطف من توجه زوجها أو تحاول التأثير على عالمه الداخلي، فهو مخطئ تمامًا. فقد تحوّلت لتكون أداة لتحسين صورة نظام الحكم. تلك التي كانت تسمّى “المرأة الأكثر أناقة في السياسة العالمية”، و”البريطانية المغرية التي تسترد سوريا من التجمّد”، ظهرت بصورة امرأة منافقة ومستعدية لشعبها.
أسماء الأسد وبشار الأسد (AFP)
أسماء، المولودة في لندن لعائلة سنية غير تقليدية وثرية، ودرست في مؤسسات مرموقة وكانت خبرتها في العمل تشتمل على العمل في بنوك في لندن ونيويورك، جسّدت وجه الكوزموبوليتانية المتجدّدة لسوريا. وقد سحرت قيمُها الليبرالية المستنيرة التي انعكست في شخصيّتها كل من كان حولها.
وكان الغرب مباركا لمشاركة أسماء نخبة من نساء زعماء الدول العربية اللواتي أظهرنَ وجهًا جديدًا لشخصية السيّدة الأولى. نساء يمثّلن رمزًا للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في دولهنّ بل ويقدنَ ذلك بأنفسهنّ.
ولكن بدأ الصدوع في صورتها الإيجابية يظهر قبل ذلك، حين ردّ زوجها على التمرّد ضدّ حكمه بخطوات عنيفة. بينما كان الآلاف من أبناء شعبها يذبحون بأوامر الرئيس، لم تُظهر أي علامة من المعارضة أو الصراع الداخلي.
وشيئا فشيئًا بدأت المشاعر المختلطة تجاه زوجة الرئيس بالاندفاع. فمن ناحية، هي الأنثى الشابة الوسيمة، التي مثّلت القيّم الليبرالية الغربية، والتي جسّدت الشعور بالفخر الوطني. ومن ناحية أخرى، بدأت الشكوك تنمو بأنّ مهمّتها التي تقوم بها هي تقديم صورة رقيقة وإنسانية للنظام الذي هو خلاف ذلك تمامًا.
بدأت تفاصيل جديدة بالانكشاف والتي رسمت صورة أخرى: امرأة سطحية، منافقة ومستعدية، مهتمّة بتجميع السلع الفاخرة من خلال الإنترنت بدلا من رفاهية مواطني بلادها في ساعة ضائقتهم؛ فهي ماري أنطوانيت الشرق الأوسط. لقد اختارت تعزيز الثقافة في سوريا وأن تعزز علاقاتها مع مديري متحف اللوفر في باريس في الوقت الذي كان عشرات السوريين يقتلون يوميًا.
كانت رسالتها واضحة: موقف وفيّ إلى جانب زوجها حتى في ساعة الأزمة. بكلمات أخرى: موقف وفيّ إلى جانب القاتل.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني