إن بعض الكنائس التي سنستعرضها في هذا التقرير قائمة منذ مئات السنين بل الآلاف. العالم المسيحي هو عالم واسع بجميع طوائفه ومميزاته المختلفة. هناك فروق كبيرة بين الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية، وبين الكنائس الغربية والشرقية والكنائس الحديثة. ولكن في هذا التقرير سنستعرض تحديدا 4 كنائس مميزة وفريدة من نوعها في الأراضي المقدّسة، والتي يتدفق إليها كل عام مئات آلاف الحجاج والسياح ليعرفوا عن المسيحية القديمة وزيارة مهد السيد المسيح.
كنيسة القيامة، في المدينة القديمة في القدس
كنيسة القيامة (Flash90/Hadas Parush)
هذه هي أكبر كنيسة مقامة في موقع تعتبره معظم المرويّات المسيحية موقع صلب، دفن، وقيامة يسوع المسيح. تقع الكنيسة في الحي المسيحي في البلدة القديمة والمذكورة في العهد الجديد. يعرف هذا المكان باسم “تلّة الجمجمة” (أو الجلجثة كما في بعض الروايات) المذكورة في العهد الجديد: “ولما مضوا به إلى الموضع الذي يدعى جمجمة صلبوه هناك” (لوقا: 23:33). منذ القرن الرابع للميلاد تُستخدم هذه الكنيسة، التي تُعتبر إحدى أهم الكنائس وأقدسها في العالم، مركزا للحجّ من جميع أنحاء العالم.
وفقا للمرويّات المسيحية فقد كان موقع الكنيسة موضعا لحدوث بعض الأحداث الأخيرة في حياة يسوع. بداية، حدّدت المسيحية هذا المكان باعتباره مكان صلب يسوع.
حجر الطيب قي كنيسة القيامة (Flash90/Miriam Alster)
بعد وفاته وُضع يسوع في قبر محفور في الصخر والذي بُني من أجل يوسف الرامي. بعد ثلاثة أيام جاءت إلى القبر مريم، والدة يسوع، ومريم المجدلية ووجدتا القبر مفتوحا وخاليا. وقد فاحت في الجوّ رائحة زهور ووقف في المكان ملاك وبشّرهما بقيامة المسيح.
في بداية الحقبة البيزنطية بُنيت في الموقع الكنيسة التي تشير إلى مكان صلب، دفن، وقيامة المسيح. وقد بدأ مشروع البناء الواسع هذا في أعقاب توجّه مطران القدس إلى الإمبراطور، عام 325، للكشف عن يسوع. ويبدو أن المهندس المعماري للكنيسة، التي بُنيتْ بين السنوات 326-335 ، هو سوري واسمه زنوبيوس.
مقام قبر المسيح (Flash90/Miriam Alster)
مع احتلال الفُرس للقدس عام 614 دُمّرت الكنيسة بالكامل تقريبا، وبقيت منها بقايا قليلة فقط. أقام الفُرس في المدينة سنوات معدودة، ومع عودة البيزنطيّين إلى القدس عام 628 بقيادة الإمبراطور هرقل مرّت الكنيسة بسلسلة من التجديدات والتي لم تُكتمل، حيث احتلّ المسلمون البلاد عام 638 وتم وضع حدّ لأعمال البيزنطيّين في القدس. ومع ذلك، فلم يمسّ المسلمون الكنيسة بسوء، كجزء من سياسة التسامح العامة التي مارسوها تجاه أبناء الديانات الأخرى التي أحتلوا بلادها، وخصوصا أهل الكتاب.
عام 1099، احتلّ الصليبيون القدس لمدة نحو مائة عام. فرمموا الكنيسة وزادوها فخامة، وفي الواقع فإنّ مبنى الكنيسة اليوم قائم بشكل شبه كامل على البناء الصليبي.
قبة كنيسة القيامة (Wikipedia)
تتحدث أوصاف الكثير من الحجاج من القرن التاسع عشر عن إهمال المبنى تحت الحكم العثماني. زار كاتب أمريكي الكنيسة عام 1857 ووصف الإهمال الذي كان سائدا حولها. عام 1808 اندلع الحريق الأكبر في الكنيسة والذي تسبب بأضرار كبيرة لها. وفقا لتوثيقات المؤرخين فقد تسبّب باشتعال النار راهب ثمل بل حاول إطفاءها بالخمرة (لأنه ظن أنها ماء). بعد الحريق فورا بدأت أعمال الترميم والصيانة المتجددة.
في تموز عام 1927، تضررت الكنيسة كثيرا في الزلزال الذي ضرب هذا المبنى المتهالك. حاول البريطانيون جعل الطوائف الثلاث الكبرى تتوصل إلى اتفاق بخصوص ترميم شامل للكنيسة ولكن من دون نجاح. ومع ذلك، حتى عام 1935 بدأ العديد من أعمال التجديدات لصيانة الكنيسة. ولكن، بدأت أهم تجديدات الكنيسة في الستينيات فقط، تحت الحكم الأردني، واستمر التجديد في الواقع حتى نهاية القرن العشرين.
صورة لقبر المسيح (Wikipedia)
هناك عدة مواقع في الكنيسة ولكن الأكثر إثارة للاهتمام موقعان سياحيان بشكل خاص: حجر الطيب وقبر يسوع. حجر الطيب، الواقع عند مدخل الكنيسة، هو الحجر الذي جرت عليه تجهيزات دفن يسوع بعد موته على الصليب.
البهو الدائري هو الكنيسة المركزية (متحدة المركز) التي يتوسطها قبر يسوع. عندما جاء المسلمون إلى القدس بنوا قبة الصخرة تماما بحجم قبة البهو الدائري لكنيسة القيامة. يعود الجزء الداخلي للبهو الدائري إلى الطوائف الثلاث وينظّف ممثّلوهم الأرضية وفقا لتناوب أسبوعي.
وحول القبر هناك أعمدة مرقّمة تعود إلى كل واحدة من الطوائف الكبرى. وأقيمت القبّة الجديدة للبهو الدائري عام 1997 وهي ثمرة تعاون الطوائف الثلاث الكبرى قبيل الألفية المسيحية. في القبة هناك فتحة تتصل بقيامة يسوع، تخرج من الفتحة 12 حزمة من الضوء (كعدد رسل يسوع) ولكل حزمة ثلاث زوايا ترمز إلى الثالوث المقدّس.
كنيسة رقاد السيدة العذراء، القدس
كنيسة رقاد السيدة العذراء (Flash90/Nati Shohat)
هذه الكنيسة تابعة للرهبنة البندكتية وتقع على جبل صهيون، في القدس، قرب قبر داود وبجوار السور الجنوبي للمدينة القديمة. وفقًا لإحدى المرويّات، تقع الكنيسة في الموقع الذي نامت فيه مريم، والدة يسوع إلى الأبد.
لم يذكر العهد الجديد ماذا كان مصير مريم، وهكذا فقد تطوّرت روايات مختلفة حول سيرة حياتها. وُصفت وفاة مريم وصعودها إلى السماء في نصّ من القرن الثاني. وفقا لذلك النص، فلم تمت ككل إنسان، وعوضًا عن ذلك فقد دخلت في نوم أبدي، حيث دُفنت من بعده. تعرض إحدى المرويات جبل صهيون باعتباره المكان الذي ذهبت مريم إليه لتنام نومها الأخير، والذي لم تستيقظ منه.
داخل كنيسة رقاد السيدة العذراء (Wikipedia)
وفقا للمرويات المسيحية فقد دُفنت مريم على سفح جبل الزيتون. ولكن وفقًا مرويات أخرى، فلم تمت مريم في القدس، وإنما خرجت منها بعد صَلْب ابنها. وفقا لهذه الرواية فقد أقامت منزلها قرب مدينة أفسس، غرب الأناضول في تركيا اليوم، وهناك توفّيت.
أقيمت الكنيسة على أرض استُخدمت في الماضي كمقبرة بروتستانتية. في معظم المصادر، يُشار إلى أنّ السلطان عبد الحميد الثاني قد أعطى هذه الأرض إلى الإمبراطور الألماني كهدية عند زيارة الأخير إلى الأراضي المقدسة عام 1898.
مشهد من داخل كنيسة رقاد السيدة العذراء (Wikipedia)
وتم وضع حجر الأساس لبناء الكنيسة في مراسم احتفالية في السابع من تشرين الأول عام 1900. وقد ألقي مهام تصميم المبنى وتشييده على هاينريخ رنارد (Heinrich Renard)، وهو معماري مشهور في ألمانيا.
خلال حرب عام 1948 كانت منطقة جبل الزيتون ساحة معركة بين جنود الجيش الإسرائيلي والجنود الأردنيين الذين تحصّنوا بالسور. ونتيجة للمعارك لحقت أضرار بالكنيسة. وسيطر الجيش الإسرائيلي على برج الأجراس ومن ثم استخدمه كنقطة مراقبة حتى احتلال المدينة القديمة في حرب الأيام الستة.
كنيسة البشارة، الناصرة
كنيسة البشارة، الناصرة (Flash90)
تقع كنيسة البشارة في وسط المدينة العربية الأكبر في شمال إسرائيل، الناصرة. وقد أقيمت في موقع كان فيه، وفقا للمرويات المسيحية الكاثوليكية، منزل مريم، والدة يسوع، والذي بشّرها فيه الملاك جبريل ببشرى حَمْلها. ولهذا السبب تُعتبر كنيسة البشارة، بل ومدينة الناصرة، من الأماكن الأكثر قداسة في المسيحية.
كنيسة البشارة، الناصرة (Wikipedia)
وقد كشفت الحفريات الأثرية التي أجريتْ في المكان عن بقايا ثلاث كنائس قديمة، كانت تقع في هذا المكان واحدة بعد الأخرى، وفي الواقع فقد استُخدم هذا الموقع كمكان عبادة قبل عهد المسيح. يقع الموقع جنوب قرية الناصرة القديمة، وبالإضافة إلى دور العبادة كشفت الدراسة أيضًا عن بقايا لمبانٍ سكنية، آبار، ومخازن للحبوب.
كنيسة البشارة، الناصرة (Flash90/Matanya Tausig)
وقد صُمّم المبنى الحالي لصالح حراس الأراضي المقدّسة الفرنسيسكان من قبل المعماري الإيطالي، جيوفاني موتسيو، وشُيّدت الكنيسة عام 1969. وتُعرف بقبّة مخروطية رمادية وكبيرة، وعلى رأسها مصباح يشبه المنارة. ويقع في منطقة الكنيسة، من بين أمور أخرى، دير الفرنسيسكان وكنيسة القديس يوسف أيضا. والكنيسة هي المبنى الأبرز في المدينة وهي تشكل رمزا للميدان الأكثر شهرة فيها.
كاتدرائية القديس يعقوب، الحي الأرمني في القدس
كاتدرائية القديس يعقوب، الحي الأرمني في القدس (Flash90/Hadas Parush)
تقع كاتدرائية القدّيس يعقوب في الحيّ الأرمني في المدينة القديمة بالقدس. بُنيتْ الكنيسة في القرن الثاني عشر على أساس بقايا بيزنطية من القرن السادس، وذلك بعد أن وافق صلاح الدين، الفاتح المسلم، بجلالة قدره، على بنائها.
وتُعتبر الكنيسة من أكثر الكنائس فخامة في إسرائيل، وهكذا وصفت أيضًا من قبل الحجاج منذ مئات السنين. يأتي الضوء الوحيد في الكنيسة من الشمس خارج القبة، ومن الشموع الكثيرة الموزّعة في أرجائها. تمثّل القبة في الوسط العالم المسيحي، وهي مبنية على أربعة أعمدة ترمز إلى كُتّاب الأناجيل في العهد الجديد (متى، يوحنا، لوقا، ومرقس). تحيط بجدران الكنيسة رسومات، ففي الجزء الأسفل منها هناك رسومات لشخصيات من المجتمع المحلي، وفي أعلاها تظهر رسومات قدّيسين مسيحيين أكثر شهرة.
مشهد من داخل كاتدرائية القديس يعقوب في القدس (Flash90)
أجريت عمليات تجديد واسعة في بداية القرن الثامن عشر من قبل البطريرك الأرمني غريغوري “حامل السلسلة”، والذي حصل على هذا الاسم بعد أن تقلد بإرادته سلسلة ثقيلة كعلامة على الاستعباد حتى يحصل على الأموال لتسديد الديون التي غرقت فيها الجالية الأرمنية المقدسية. نجحت رحلته في أرجاء أرمينيا أكثر من المتوقع، حتى بقيت أموال لإصلاح الكنيسة وبناء أسوار في الحيّ الأرمني. حظي الجدار الشمالي في تلك الإصلاحات باهتمام كبير، وكذلك الأبواب الخشبية المطعّمة بالصدف ودروع السلاحف واللوحات الخشبية الأخرى. ويلي هذه الكنيسة الصغيرة مباشرة باب غرفة وفيها بقايا بيزنطية، وكذلك غرفة يستخدمها الرهبان.
القديس يعقوب، الذي سمّيت الكنيسة على اسمه، هو يعقوب بن زبدي المسمى “يعقوب الكبير”، أحد رسل يسوع الاثني عشر وشقيق الرسول يوحنا. تم إعدامه من قبل أغريباس الأول عام 44. وفقا للمرويات فقد دُفن رأسه المقطوع في هذه الكنيسة في كنيسة صغيرة تقع في الجدار الشمالي (شمال الكنيسة)، ودُفنت بقية جسده في إسبانيا. هذه الكنيسة الصغيرة هي المكان المقدّس في الكنيسة.
مشهد من داخل كاتدرائية القديس يعقوب في القدس (Flash90/Zuzana Janku)
بُنيت الكنيسة على شكل الصليب، وعند المدخل خارج الكنيسة، من الساحة، يمكننا أن نرى من كلا جانبي الكنيسة لوحتين من الخشب (من اليمين) والحديد (من اليسار) معلّقتين على حبال. هذه هي الصنوج. حتى منتصف القرن التاسع عشر ونهاية عهد حكم محمد علي المصري، حظرت السلطات الإسلامية على المسيحيين استخدام الأجراس في الكنيسة. وقد تم الطَّرْق بمطارق خشبية على الصنوج بدلا من أجراس الكنيسة، واليوم أيضًا من حين لآخر يدعو الرهبان للصلاة بواسطة هذا الطَّرْق.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني