في كانون الثاني عام 2007، حين أعلنت هيلاري كلينتون عن ترشحها لرئاسة الولايات المتحدة، كان ذلك يبدو وكأنّ رئاستها مضمونة. عضو مجلس الشيوخ من نيويورك والسيّدة الأولى سابقًا، وقفت أمام إنجاز تاريخي؛ المرأة الأولى في الولايات المتحدة، والاستطلاعات تزيد من ثقتها. وقد اعتبر الرئيس الحالي آنذاك، جورج دبليو بوش، ليس شعبيًّا بالمرّة، حتى كان التقدير أنّ من ينجح في الحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة فسيتغلّب بسهولة على كل مرشّح يضعه الحزب الجمهوري، وهو حزب بوش.
ولكنّ الطموح شيء والواقع شيء آخر. بعد شهر من الإعلان عن ترشّحها، أعلن باراك أوباما عن ترشّحه، والذي كان يومذاك عضو مجلس شيوخ صغير وليس معروفًا من ولاية إيلينوي. كان لدى كلينتون صاحبة الشعبية والمعروفة أفضلية كبيرة عن أوباما، وظلت الاستطلاعات تزيد تأييدًا. وفي محادثات مغلقة أهان زوج هيلاري، الرئيس السابق بيل كلينتون أوباما وقال إنّه “حتى قبل بضع سنوات كان يمكن أن يقدم هذا الشخص لنا القهوة”.
“مصلحة أضرار” بوش
لم يكتف أوباما بـ “إحضار القهوة” لعائلة كلينتون. بل فاز على هيلاري بعد منافسة محتدمة، وفاز بترشيح حزبه. ومن هناك كان الطريق إلى البيت الأبيض قصيرًا، وهزم أوباما المرشّح الجمهوري، جون ماكين، دون صعوبة كبيرة. وقد قاد كرم أوباما إلى عدم حمله أي ضغينة تجاه منافسته، وقد كلّف هيلاري كلينتون بأحد أبرز الأدوار؛ وزيرة الخارجية الأمريكية.
بعد ثماني سنوات من تولّي بوش والتي تضمّنت حرب أفغانستان والعراق، أعلنت كلينتون من فوق كلّ منصّة عن إمكانية تغيير اتجاه السياسة الأمريكية الخارجية. “لدينا الكثير من الأضرار لنعالجها”، هكذا قالت كلينتون. بدلا من الاعتماد على القوة العسكرية، كانت تطمح كلينتون بتحويل الولايات المتحدة إلى “قوة مدنية”، وقيادة سلسلة من الخطوات لتحسين وضع المرأة حول العالم.
سُجّلت كلينتون في التاريخ كواحدة من وزيرات الخارجية الأمريكيات الأكثر فاعلية، حيث زارت 112 دولة خلال فترة ولايتها. وفي سياق الشرق الأوسط، وجّهت كلينتون معظم جهودها نحو تعزيز عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن سرعان ما وجدت نفسها في مأزق كبير أمام موجة الثورات المذهلة والتي سمّيت “الربيع العربي”.
بين نتنياهو، عباس، والربيع العربي
في أيار 2009، قبل مدّة قليلة من زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، للولايات المتّحدة، صرّحت كلينتون تصريحًا أوجع نتنياهو كثيرًا، وأفرحت رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس كثيرًا؛ وهو طلب واضح بأنْ تجمّد إسرائيل بناء المستوطنات، من أجل إتاحة بدء المفاوضات. حُشر نتنياهو في الزاوية وأجبر على الموافقة على التجميد بل وذهب إلى أبعد ممّا اتفق عليه، فللمرة الأولى في حياته، أعرب عن دعمه لإقامة دولة فلسطينية.
ولكن على الرغم ممّا حقّقته كلينتون من تجميد البناء، فقد تأخر افتتاح المحادثات لشهرين، وبعد مدّة قليلة من بدئها وسط ضجّة كبيرة في أيلول 2010 تم تفجير المفاوضات، ولم تؤدّ إلى نتائج حقيقية. لم تنجح كلينتون، التي صرّحت بدرجة عالية من التهوّر بأنّ الدولة الفلسطينية يمكن أن تقوم خلال عام، في تحقيق تقدّم ملموس في المحادثات، وتخلّت عن الفلسطينيين في واقع الأمر. وقد أعرب كلّ من الإسرائيليّين والفلسطينيّين عن عدم رضاهم إزاء مواقف وزيرة الخارجية.
وفي تلك الأثناء، وضع الربيع العربي – الذي ارتفع زخمه في بداية 2011 – كلينتون والولايات المتحدة بأسرها في حالة ارتباك. بعد تقييم أوّلي يشير إلى أنّ نظام حسني مبارك “مستقرّ”، تزعمت كلينتون المطالب الأمريكية من مصر بالانتقال خطوة بوسائل الانتقال السلمي إلى النظام الديمقراطي. غضب مبارك ورجاله من “الخيانة” الأمريكية، في حين أن كلينتون طلبت من القادة العرب الآخرين التنازل عن كراسيهم وتعزيز المسار الديمقراطي. في نهاية المطاف رحبت كلينتون بنتائج الانتخابات التي عُيّن على إثرها محمد مرسي رئيسًا لمصر، ولكن يمكن الافتراض أنّه بعد فترة ولايتها، بعد أن تم إسقاط مرسي من منصبه، لم تذرف كلينتون دمعة واحدة.
الفوضى في بنغازي
في الجبهة الليبية، بعد رفضها في البداية من استخدام القوة العسكرية الأمريكية، قرّرت كلينتون دعم الخطوات العسكرية بقوة والتي ساعدت المتمرّدين الليبيّين في إسقاط نظام معمّر القذافي. في سوريا أيضًا، قادت كلينتون عملية أعدّت لإسقاط نظام بشّار الأسد بالقوة العسكرية، ولكنّ معارضة الرئيس أوباما أدّت إلى سحق العملية.
كانت ليبيا أيضًا مسرحًا للهبوط في منصب كلينتون بوزارة الخارجية. أدّى الهجوم على السفارة الأمريكية في بنغازي، والتي قُتل فيها السفير كريستوفر ستيبنس وثلاثة أمريكيين آخرين، إلى توجيه انتقادات حادّة تجاهها. وأشارت التحقيقات إلى أنّ مسؤولي وزارة الخارجية تجاهلوا توصيات زيادة الأمن حول السفارة، وسمحوا بهدر دم ستيبنس. وقد أخذت كلينتون على نفسها مسؤولية الأضرار التي نجمت، ولكنها نفت القول بأنّها كانت قادرة على منع ذلك. وقد هاجمها مسؤولون في الحزب الجمهوري على ذلك، وهناك من لا يزال يعتقد أنّ كلينتون مسؤولة عن الهجوم.
الجمهور يدعمها، والرئاسة نصب عينيها؟
الرأي العام الأمريكي، بشكل عام، معجب بكلينتون باستمرار بما فيه الكفاية. فقد أشارت الاستطلاعات التي أجريت في فترة تولّيها لمنصب وزيرة الخارجية إلى أنّها الشخصية النسوية الأكثر شعبية في البلاد. عام 2013، اختيرت كلينتون للقب “المرأة الأكثر شعبية في الولايات المتحدة” للمرة الـ 12 على التوالي، والـ 18 في المجموع.
لم تعلن كلينتون رسميًّا عن عزمها على العودة ومحاولة كسب المنصب الأكبر في العالم، ولكن يعتقد الكثيرون بأنّ سباقها نحو البيت الأبيض لا زال في ذروته، وهناك من يقول بأنّه لم يتوقّف أبدًا. ووفقًا للمحلّلين، فإن الإعلام الأمريكي يستطلع بشكل واسع سباق ظلالها، وبدأ خصومها الجمهوريون بالفعل ببناء “حقيبة هيلاري” والتي فيها تقارير، أحداث، تحقيقات، اقتباسات وصور التي من المتوقّع أن تحرجها وتضرّ بها.
ويصف موقع “بوليتيكو” حملة غامضة تجري في منزل كلينتون. قبل نحو عام، عقدت كلينتون اجتماعًا تحضيريًّا مع مجموعة من المساعدين من أجل انتخابات 2016. وحضر الاجتماع أشخاص تابعون لشركة استشارية ديمقراطية، مستشار ميداني واستراتيجي، والذي يتمتّع بخبرة حول نسبة الذين ينتخبون النساء المرشّحات. وقد ناقش الاجتماع جدول الأنشطة في مختلف البلدان، كذلك الأموال التي ستحتاجها هيلاري من أجل التجنيد لحملتها الانتخابية للرئاسة، وناقشوا موضوع النشطاء الميدانيين الذين عملوا من أجل باراك أوباما.
وتظهر استطلاعات الرأي بأنّ كلينتون اليوم هي المرشّحة المفضّلة للانتخابات الرئاسية بحلول عام 2016، ولم يكن أي مرشّح ديمقراطي ملائمًا أكثر منها في الحزب. ويعود الفضل لشعبيّتها في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وعملها خلال مسيرتها السياسية. ستكون في الانتخابات القادمة في سنّ 69، كبيرة جدًا، ولكن ليست كبيرة من أجل القيادة، ونائب الرئيس جو بايدن، منافسها المحتمل في حزبها، يكبرها بخمس سنوات.
ومع ذلك، فإنّ كلّ توقّع بهذا الخصوص لا زال سابقًا لأوانه. وكما ذكرنا، فقد اعتبرت كلينتون لسنوات المرشّحة المفضّلة للحزب الديمقراطي في السباق الرئاسي عام 2008، حتى اللحظة التي فاز فيها باراك أوباما. مثل أوباما، فإنّ العديد من المنافسين المحتملين في عام 2016 يشكّلون لغزًا، ولا يمكن قياس قوّتهم الآن.
صحة كلينتون من شأنها أن تؤثر على طريقها. مع اقتراب انتهاء ولايتها في وزارة الخارجية، عانت هيلاري من سكتة دماغية، وهي تظهر اليوم وهي ترتدي نظارات خاصّة مصمّمة لمعالجة الرؤية المزدوجة. هل كلينتون مؤهّلة لثماني سنوات في البيت الأبيض، والتي حين تنتهي ستكون في سنّ ثمانية وسبعين عامًا؟ هل ستواصل شياطين بنغازي مطاردتها؟ وهل زوجها، الرئيس الأسبق، بيل كلينتون، والعلاقة المعقّدة بينهما يشكلان ميزة أم عيبًا؟ حتى تشرين الثاني 2016 سنعرف جميع الإجابات على هذه الأسئلة.