في الطابق الثاني من المقصف يبدأ حرفيّ البقلاوة مهنة رق العجين. اكتسب الرجل ثقيل الجسم وسريع الابتسامة حرفته في نابلس، عاصمة الحلويات في المنطقة، حيث بدأ بالعمل هناك في سنّ 17 كمتدرّب. في الوقت الذي يبدأ فيه بعجن ورق كراة عجينة الرقائق – يشارك كل جسده بهذه العملية الشاقّة ويُسمع في أنحاء مقصف الحلويات إيقاع الشوبك – يراقبه حاييم مارك وأحمد نصر الله (أبو أيسم) بذهول وإعجاب.
يمكن للناس إعداد الكنافة، وهي في الأصل كعكة مسطّحة أصبحت من الحلويات الفاخرة، في المطابخ المنزلية الخاصة أيضًا. تم الحفاظ على طريقة إعداد البقلاوة، وهي كنوز ثمينة مكوّنة من طبقات رقيقة من العجين مدمجة مع مجموعة من المكسّرات، دائما وأبدا عند أصحاب المهنة الخبراء.
طبق الكنافة من محلات الجعفر
مارك ونصر الله هما أصحاب متجر الحلويات الجديد، الذي تم افتتاحه قبل ثلاثة أشهر في المنطقة الصناعية في قلنسوة، ولكن عندما يقومان بمساعدة الحرفيّ في مهنته، حيث يطحنان الفستق أو يملأن علبة الطحين، فهما ليسا سوى متدرّبين حريصين على مساعدة الشيف. “حلم حياتي هو معرفة تحويل العجين إلى بقلاوة”، يهمس مارك أمام المشهد الرائع لكرات العجين المنتفخة وهي تتحوّل إلى صفائح عجين رقيقة وشفافة تلتفّ حول الشوبك.
“هذه الجمالية الحساسة والمعقّدة، من فنّ المنمنمات الإسلامي، هي التي شدّتني وقتها أيضًا إلى مجال التجارة بالآثار”، يضيف في الوقت الذي تحدث فيه معجزة قلب طبقات العجين ومكسّرات الفستق لأعمال فنّية مصغّرة والتي تستحقّ أن تكون على طاولة سلطان. يعدّ حرفيّ البقلاوة عدة أنواع من البقلاوة هي الأرق والأكثر تعقيدا للإعداد: شفايف، سرّة وعيون. في واجهة المتجر هناك أنواع أخرى.
البقلاوة
ولد حاييم مارك عام 1966 في كفار يونا. “عُرف أبي بلقب “الشيف المحتال””، يقول بهدوء موضوعي خال من الشكوى المصيرية. “لقد احتال على المئات من النساء – لا شك لدي ولإخوتي الثلاثة أنّ لدينا عشرات الإخوة في جميع أنحاء العالم – حتى تم القبض عليه عام 1985. في نهاية المطاف قُدّمت ضدّه دعوى بتهمة الاحتيال على 330 امرأة.
وكان رجل كاريزماتي وشديد السحر عمل كشيف في فنادق دان، وقد دخل إلى شقق وقلوب النساء الوحيدات عن طريق المطبخ. لقد أعدّ لهن الوجبات، أحبوه، وفي المقابل فقد أفرغ لهم حساب البنك واختفى. كانت ليالينا كأطفال تُنتهك في الكثير من الأحيان بواسطة ضربات على الباب من قبل دائرة الإجراء والتنفيذ. كانوا يقومون بتفريغ المنزل من جميع الأغراض، وعندما كانت تنجح أمي بملئه من جديد بجهد كبير كانوا يأتون مجدّدا”.
لم يرَ الأبناء الأربعة الوالد منذ سنوات، ولكنهم جميعًا يشتغلون بطريقة أو بأخرى في مجال المطبخ (“يبدو أن هذا هو ميراثه، ولكن الأم أيضا، طباخة رائعة. كطفل كنت أقول له “أبي، أنت تطهو طعاما رائعا، ولكنّ أمي تطهو طعاما لذيذا”). يعمل كوبي مدير المطابخ في السجون، إيلان شيف معجّنات، تسيون – الابن الأصغر – يعمل في مطاعم تل أبيبية، بينما سار حاييم في طريق طويل حتى وصل إلى مجال عمله الحالي، ولكن مجال الطهي كان حاضرا دائما في حياته.
كانت أهوال الحرب في لبنان، والتي وصل إليها خلال خدمته العسكرية المنتظمة في الجيش، عاملا إضافيا أثر على رؤية الرجل أحمر الشعر ذي التفكير الأصيل. “لست مستعدّا أن يخدم أبنائي في الجيش كمقاتلين. لديّ صديق مقرّب اسمه عمر عزّام. ميكانيكي. تعرّفت عليه عندما أحضرت سيّارتي إليه لإصلاحها. قال إنّها بحاجة إلى الكثير من التصليحات وسألته أنا إذا ما كان يحاول أن يكلّفني الكثير لأنني يهودي. أجاب أنه يحاول أن يكلّفني الكثير لأنّ لديّ أطفال صغار ومن الجدير أن أعيش من أجلهم وألا أعرّضهم إلى الخطر. ومنذ ذلك الحين ونحن أصدقاء. ماذا سيحدث لو رفع ابن عزام حجرا واضطر ابني الذي يرتدي الزيّ العسكري إلى إطلاق النار عليه؟ لن أستطيع أن أعيش مع نفسي”.
منذ فترة الجيش دخل في عدة مجالات: درس التمثيل في ستوديو يورام ليفينشطاين ومثّل في دور العرض بإسرائيل ولندن (حيث عاش هناك أربع سنوات)، افتتح حانة “كات بلو” في تل أبيب، وافتتح مع شريك عربي حانة “هدنة” في حيّ فلورنتاين. عندما باع الأخيرة – أيضًا في أعقاب زواجه الثاني وولادة أطفاله – عاد إلى القرية التي وُلد فيها وبدأ بالعمل في تجارة الآثار. “تجارة الآثار هي مجال آخذ بالتلاشي، في دولة أزيلت فيها الطبقة الوسطى تماما، وأردت طوال الوقت أن أعمل بشيء يتعلّق بالطعام. أن أطعم الناس، وأن أرى لحظة متعة بسيطة ونقيّة على وجوههم والتي تنسيها الحياة اليومية في كثير من الأحيان، هذا ما أريد أن أقوم به”.
البقلاوة
فكّر مارك بافتتاح مطعم، ولكن حينها قرّر مصيره شيئا آخر. “في يوم ما جاء إليّ أحدهم وقال إنّ هناك فرصة لشراء معدّات كاملة لمتجر حلويات تم إغلاقه من نابلس. إنها آلات لا يُمكن العثور عليها ببساطة، فهي معدنية من الحديد بعمل يدوي على مستوى عال، ولكن في البداية اشتريته كبضاعة وضعتها عندي في المستودع. أحببنا أنا وزوجتي البقلاوة دائما. كنا نجول في البلاد وأراضي السلطة الفلسطينية بطولها وعرضها من أجل العثور على البقلاوة الأفضل – غالبا في الشمال أو في منطقة نابلس – وفجأة فهمنا أنّه في المنطقة التي نعيش فيها قد يكون هناك طلب كبير على البقلاوة ذات الجودة كما ينتجونها هناك”.
عندما بدأت بترميم المساحة التي في المنطقة الصناعية في قلنسوة (“لم أحصل أبدا على مساعدة مثل تلك التي قدّمها لي الجيران”) دخل في يوم ما نصر الله، وهو من السكان المحليّين عمره 28 عاما ويعمل كأجير في مشتل قريب. تعرّف الرجلان على بعضهما البعض في مناسبات اجتماعية قبل ذلك، وهما يتشاركان بمحبّة جميع أنواع الحلويات التقليدية، فقرّرا افتتاح متجر الحلويات الجديد كشريكين تحت اسم “حلويات النور”.
البقلاوة
في البداية، كما هي طبيعة البدايات، لم يكن الأمر سهلا (“استثمرت جميع أموالي في هذا المكان. سيضطر الأطفال انتظار الطعام”، يضحك مارك)، ولكن رويدا رويدا امتلأ المكان بالمتسوّقين وسُمعت اللغات العربية والعبرية في الفضاء. نعدّ هنا كل يوم أنواع الكنافة الطازجة والرائعة بأنواع مختلفة: الكنافة الأكثر شهرة، مصنوعة من شعرية رقيقة ومتموّجة، وتحمل الأسماء المترادفة الإسطنبولية (بنمط إسطنبول) أو الشعرية (على اسم الشعرية التي تشبه الشعر)؛ الكنافة الناعمة مصنوعة من شعرية كنافة رقيقة، بيضاء وغير مطهوة ويتم تحميصها مع السمنة (زبدة مصفاة أو زيت نباتي) والقليل من الكركم، وحينذاك يتم تبريدها، طحنها بشكل دقيق ومدّها على قالب في قطعة واحدة؛ وكنافة البورما المصنوعة من لفائف الشعرية المحشوة بالجبنة.
هناك أيضا مجموعة مختارة من الكعك: البسبوسة [هريسة] (سميد)، القزحة (حبة البركة)، الحِلبة. ولكن كان تسليط الضوء على أنواع البقلاوة الرائعة التي يعدّها الحرفيّون الخبراء. إنهم يأخذون أسماءها الشاعرية من أعضاء الجسم البشري أو من عجائب أخرى من الطبيعة، وقبيل رمضان – الذي سيبدأ هذا الأسبوع – سيتوسّع الاختيار. البقلاوة ذات الصفائح الرقيقة، عليها طبقة من الدهون ذات الجودة، محشوة بالمكسّرات ذات النوعية الجيّدة وليست حلوة جدّا. أي كل ما يرغب به المرء في مجال البقلاوة الجيّدة.
نشر هذا المقال على صحيفة “هآرتس”
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني